أنا وصديقي وشجرة الباولونيا

أنا وصديقي وشجرة الباولونيا

في‭ ‬صَباح‭ ‬أحد‭ ‬الأيَّام‭ ‬نهضت‭ ‬من‭ ‬نومي‭ ‬مبكرًا،‭ ‬وكنت‭ ‬عاقدَ‭ ‬العزم‭ ‬على‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬المعسكر‭ ‬الطلابيّ‭ ‬للتشجير‭ ‬ضمن‭ ‬الأنشطة‭ ‬الحرّة‭ ‬لمدرستنا‭ ‬خلال‭ ‬الإجازة‭ ‬الصيفية‭. ‬وبعد‭ ‬تناول‭ ‬الفطور‭ ‬تذكّرت‭ ‬أن‭ ‬عليّ‭ ‬الاتصال‭ ‬بصديقي‭ ‬حسام‭ ‬لأنني‭ ‬وعدته‭ ‬بأننا‭ ‬سنكون‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬مميز‭ ‬أو‭ ‬رحلة‭. ‬اتصلت‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬فأجابت‭ ‬أمّه‭ ‬التي‭ ‬أيقظته‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬ووجدته‭ ‬يكلمني‭ ‬كَمن‭ ‬يغالب‭ ‬النعاس،‭ ‬وقال‭ ‬وهو‭ ‬يتثاءب‭: ‬خيرًا‭ ‬يا‭ ‬صديقي؟‭ ‬

قلت‭ ‬مندهشًا‭: ‬إنها‭ ‬العاشرة‭ ‬والنصف‭ ‬صباحًا،‭ ‬أما‭ ‬زلت‭ ‬نائمًا؟‭!‬

قال‭ ‬لي‭ ‬مستنكرًا‭: ‬اليوم‭ ‬إجازة،‭ ‬نوم‭ ‬وراحة‭ ‬وتسليّة‭.‬

قلت‭ ‬محاولًا‭ ‬إقناعَه‭ ‬بخطة‭ ‬أفضل‭: ‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬أن‭ ‬تنضمّ‭ ‬معي‭ ‬للمعَسْكَر‭ ‬الطلابي‮ ‬الخاص‭ ‬بالتشجير‭ ‬الذي‭ ‬تنظمه‭ ‬المدرسة‭ ‬مع‭ ‬مجلس‭ ‬المدينة‭ ‬لغرس‭ ‬الأشجار‭ ‬والزهور؟

وقبل‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬كلامي‭ ‬قاطعني‭ ‬قائلًا‭: ‬دعني‭ ‬أنَم،‭ ‬وبعدَ‭ ‬الظهيرة‭ ‬يمكننا‭ ‬الاستمتاع‭ ‬معًا‭ ‬بمشاهدة‭ ‬مباراة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬مَع‭ ‬تناول‭ ‬الفُشار‭ ‬والمقرمشات‭ ‬والحلوى‭ ‬اللذيذة،‭ ‬كما‭ ‬إن‭ ‬لديّ‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الألعاب‭ ‬الإلكترونية‭ ‬كلّها‭ ‬جديدة‭ ‬وستعجبك‭.‬

قلت‭: ‬تخلّص‭ ‬من‭ ‬هَذا‭ ‬الكسل؛‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أنْ‭ ‬نبدأ‭ ‬معسكرنا‭ ‬منذ‭ ‬اليوم‭ ‬بإشراف‭ ‬معلّمينا‭ ‬وبعض‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬الزراعة،‭ ‬سيحضرون‭ ‬الفسائل‭ ‬والشجيرات‭ ‬وكثيرًا‭ ‬من‭ ‬الشتلات‭.‬

ولكنني‭ ‬أدركت‭ ‬من‭ ‬نبرة‭ ‬صوته‭ ‬عدمَ‭ ‬حماسه‭ ‬للفكرة،‭ ‬فقلت‭: ‬لن‭ ‬أطيل‭ ‬عليك؛‭ ‬سأتركك‭ ‬لتنام‭.. ‬سلام‭.‬

مرّت‭ ‬شهور‭ ‬الإجازة‭ ‬وصديقي‭ ‬حسام‭ ‬يقضي‭ ‬وقته‭ ‬على‭ ‬الحال‭ ‬نفسه،‭ ‬يبدأ‭ ‬اليوم‭ ‬وينتهي‭ ‬على‭ ‬المنْوال‭ ‬نفسه،‭ ‬حتى‭ ‬اتصلت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لأدعوه‭ ‬لحضور‭ ‬حفلٍ‭ ‬رائع؛‭ ‬ولكنني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬لم‭ ‬أذكرْ‭ ‬التفاصيل؛‭ ‬وفضّلت‭ ‬أنْ‭ ‬أجهّز‭ ‬له‭ ‬مفاجأة‭. ‬وافق‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬لأنه‭ ‬يحب‭ ‬الأجواء‭ ‬الاحتفالية،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬ملّ‭ ‬من‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬أمام‭ ‬الشاشات‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬فبدَّل‭ ‬ملابسه‭ ‬سريعًا،‭ ‬وعندما‭ ‬قابلته‭ ‬سألني‭ ‬عن‭ ‬وجهتنا‭ ‬فأجبت‭: ‬سِر‭ ‬معي‭ ‬وسترى‭ ‬بنفسك‭.‬

مضينا‭ ‬والفضول‭ ‬يرتسم‭ ‬على‭ ‬وجهه؛‭ ‬خاصةً‭ ‬مع‭ ‬إصراري‭ ‬على‭ ‬كتمان‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحفل،‭ ‬وبعد‭ ‬نزهة‭ ‬لطيفة‭ ‬توقّفت‭ ‬فجأة‭ ‬قربَ‭ ‬المدرسة،‭ ‬فسألني‭ ‬مجددًا‭ ‬والفضول‭ ‬يرتسم‭ ‬على‭ ‬وجهه‭: ‬أين‭ ‬الحفل؟‭ ‬أين‭ ‬الحفل؟

أجبته‭: ‬هنا‭ ‬الحفل‭.‬

فقال‭: ‬ماذا‭ ‬تقصد؟

قلت‭ ‬وأنا‭ ‬أشعر‭ ‬بسعادةٍ‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الفخر‭: ‬ألا‭ ‬ترى‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭ ‬الّذى‭ ‬كسا‭ ‬الأرض‭ ‬هنا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬قاحلة‭ ‬ترتع‭ ‬فيها‭ ‬الحشرات؟‭ ‬ألا‭ ‬ترى‭ ‬الاحتفال‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الناس‭ ‬التي‭ ‬أسعدها‭ ‬الخضار؟‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬العصافير‭ ‬التي‭ ‬تغني‭ ‬على‭ ‬الأشجار،‭ ‬استمتع‭ ‬معي‭ ‬بعبير‭ ‬زهور‭ ‬الياسمين‭ ‬وعطر‭ ‬الرياحين،‭ ‬املأ‭ ‬عينيك‭ ‬بجمال‭ ‬الفراشات‭ ‬وعبير‭ ‬النسمات‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬كلامي‭ ‬متدفقًا‭ ‬وكان‭ ‬حسام‭ ‬في‭ ‬وادٍ‭ ‬آخر،‭ ‬فقد‭ ‬سرح‭ ‬في‭ ‬جمال‭ ‬المنظر‭ ‬وشعرنا‭ ‬معًا‭ ‬بالبهجة‭ ‬والسعادة‭ ‬كأننا‭ ‬في‭ ‬حفلٍ‭ ‬جميلٍ‭. ‬

قلت‭ ‬لصديقي‭: ‬ألا‭ ‬تشعر‭ ‬معي‭ ‬بالتغيير‭ ‬الذي‭ ‬أثمره‭ ‬معسكر‭ ‬التشجير؟‭ ‬

قال‭: ‬كم‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬بي‭ ‬الوقت‭ ‬لأكون‭ ‬مِمّن‭ ‬صنعوا‭ ‬هذ‭ ‬التغيير‭.‬

وبما‭ ‬أني‭ ‬أثق‭ ‬في‭ ‬حسام‭ ‬كصديق‭ ‬لم‭ ‬أتفاجأ‭ ‬مطلقًا‭ ‬عندما‭ ‬قرر‭ ‬ألا‭ ‬يضيَّع‭ ‬الوقتَ‭ ‬في‭ ‬الندم‭ ‬على‭ ‬تفويت‭ ‬الفرصة؛‭ ‬وصمّم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬التشجيرٍ‭ ‬اللاحق،‭ ‬ووعدته‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬معه‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬للمنزل‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬ألتقط‭ ‬صورة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الرائع‭ ‬فاقتربت‭ ‬من‭ ‬شجرةٍ‭ ‬كبيرة‭ ‬الأوراق‭ ‬وقلت‭ ‬لحسام‭: ‬دعنا‭ ‬نلتقط‭ ‬صورة‭ ‬معًا‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭.‬

قال‭ ‬حسام‭: ‬ولمَ‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬تحديدًا؟

أجبته‭ ‬على‭ ‬الفور‭: ‬إنها‭ ‬شجرة‭ ‬الباولونيا‭ ‬المعطاءة‭.‬

قال‭: ‬لا‭ ‬زلت‭ ‬لا‭ ‬أفهم،‭ ‬بماذا‭ ‬تتميز‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الأشجار؟

أجبت‭ ‬بما‭ ‬تعلّمت‭ ‬من‭ ‬المتخصصين‭: ‬إنها‭ ‬الشجرة‭ ‬الأسرع‭ ‬نموًا‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬تنمو‭ ‬بمعدل‭ ‬متر‭ ‬واحدٍ‭ ‬شهريّا؛‭ ‬تعطي‭ ‬الظلّ‭ ‬والزهور‭ ‬والأخشاب‭ ‬وتنظّف‭ ‬البيئة،‭ ‬والجميل‭ ‬أنّ‭ ‬نموَّها‭ ‬السريع‭ ‬يجعلك‭ ‬تشعر‭ ‬بسرعة‭ ‬وجمال‭ ‬الإنجاز‭. ‬مضت‭ ‬شهور‭ ‬عديدة،‭ ‬وكلّما‭ ‬مررنا‭ ‬بالمكان‭ ‬نفسه‭ ‬وجدناه‭ ‬يصير‭ ‬أجمل‭ ‬وأجمل،‭ ‬فالأشجار‭ ‬تصبح‭ ‬أكبر،‭ ‬وأغصان‭ ‬البولونيا‭ ‬تضفي‭ ‬البهجة‭ ‬وتطفئ‭ ‬الحرّ‭ ‬بظلها،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أمر‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬ألتقط‭ ‬صورة‭ ‬عنوانها‭: ‬أنا‭ ‬وصديقي‭ ‬وشجرة‭ ‬البولونيا‭.‬

رسوم‭: ‬أحمد‭ ‬تيسير