طفل المدينة الصامتة

طفل المدينة الصامتة

أنا‭ ‬علاء‭ ‬الدين‭, ‬أنتسب‭ ‬إلى‭ ‬عائلة‭ ‬علماء‭ ‬عريقة‭, ‬أجدادي‭ ‬القدامى‭ ‬اشتغلوا‭ ‬بالعلم‭ ‬والفلسفة‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬يعرب‭ ‬الأول‭. ‬في‭ ‬عيد‭ ‬ميلادي‭ ‬العاشر‭ ‬أهداني‭ ‬جدّي‭ ‬قلمًا‭ ‬سحريًّا‭ ‬يحوّل‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬أكتبها‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭, ‬ينقلني‭ ‬إليه‭ ‬ويعيدني‭ ‬إلى‭ ‬عالَمي‭ ‬متى‭ ‬شئتُ‭.‬

 

في‭ ‬الأوقات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أكون‭ ‬فيها‭ ‬مُنشغلًا‭ ‬بِسفر‭ ‬أو‭ ‬دراسة‭, ‬أقضي‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭ ‬في‭ ‬الدردشة‭ ‬مع‭ ‬أصدقائي‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬تطبيقات‭ ‬هاتفي‭ ‬الذكيّ‭. ‬لنا‭ ‬طريقتنا‭ ‬الخاصّة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭, ‬نكتب‭ ‬نطق‭ ‬كلماتنا‭ ‬العربية‭ ‬بِحروف‭ ‬لاتينية‭, ‬ونضع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬التعبيرية‭ ‬والوجوه‭ ‬الضاحكة‭. ‬حين‭ ‬رأى‭ ‬جدّي‭ ‬طريقة‭ ‬الكتابة‭ ‬تلك‭ ‬على‭ ‬هاتفي‭ ‬سألني‭ ‬مُتعجّبًا‭:‬

لم‭ ‬لا‭ ‬تكتبون‭ ‬بالعربية‭?! ‬فأجبته‭ ‬بِبساطة‭: ‬لغة‭ ‬الرموز‭ ‬أسهل‭ ‬وأسرع‭.‬

غضب‭ ‬جدّي‭ ‬ولم‭ ‬يكلّمني‭ ‬بقيّة‭ ‬اليوم‭. ‬وحين‭ ‬حلّ‭ ‬المساء‭ ‬ودخلت‭ ‬غرفتي‭ ‬لِأنام‭, ‬قلقت‭ ‬عليه‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬ليسلّم‭ ‬عليّ‭ ‬مثل‭ ‬كلّ‭ ‬ليلة‭.‬

وسألت‭ ‬نفسي‭: ‬ما‭ ‬أهميّة‭ ‬العربية‭? ‬ما‭ ‬أهميّة‭ ‬اللغات‭ ‬أصلًا‭ ‬إن‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أعبر‭ ‬بالرموز‭ ‬أو‭ ‬الصور‭?‬

هكذا‭ ‬أخرجت‭ ‬قلمي‭ ‬السحري‭, ‬وعلى‭ ‬ورقة‭ ‬بيضاء‭ ‬كتبت‭ ‬‮«‬اللغة‮»‬‭. ‬وفتحت‭ ‬عيني‭ ‬انبهارًا‭ ‬وأنا‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬رائعة‭, ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬مثيلًا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬أبنية‭ ‬لامعة‭ ‬من‭ ‬زجاج‭ ‬ومعدن‭ ‬ملوّن‭, ‬شاشات‭ ‬عملاقة‭ ‬تعرض‭ ‬أفلامًا‭ ‬مُبهرة‭, ‬سيارات‭ ‬حديثة‭ ‬لها‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الطيران‭, ‬منصّات‭ ‬ألعاب‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد‭ ‬على‭ ‬الأرصفة‭, ‬مطاعم‭ ‬حلوى‭ ‬ومحالّ‭ ‬ملابس‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬أجمل‭ ‬منها‭. ‬لكن‭ ‬كلّ‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬كانوا‭ ‬عابسين‭, ‬يعلوهم‭ ‬حزن‭ ‬كئيب‭, ‬ويتحرّكون‭ ‬في‭ ‬صمت‭. ‬لا‭ ‬يتكلّمون‭ ‬ولا‭ ‬يلقون‭ ‬التحيّة‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭!.‬

مشيت‭ ‬مقترِبًا‭ ‬من‭ ‬أحدهم‭ ‬وقلت‭: ‬السلام‭ ‬عليكم‭.‬

‭ ‬نظر‭ ‬إلَيّ‭ ‬مُتعجّبًا‭ ‬ثم‭ ‬ركض‭ ‬مُبتعدًا‭ ‬في‭ ‬خوف‭. ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬وسألته‭ ‬بالإنجليزية‭:‬

ما‭ ‬اسم‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬فضلك‭? ‬

فنظر‭ ‬إليّ‭ ‬بارتباك‭ ‬وغادر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كلمة‭. ‬هكذا‭ ‬مشيت‭ ‬وحدي‭, ‬أجرّب‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو‭, ‬أتأمّل‭ ‬البضائع‭ ‬بالمحالّ‭, ‬وأتناول‭ ‬طعامًا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬اسمه‭. ‬وبِبطء‭ ‬غاب‭ ‬شعوري‭ ‬بالانبهار‭ ‬وحزنت‭ ‬عندما‭ ‬وجدتُ‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬البلدة‭ ‬لا‭ ‬يتكلّمون‭. ‬إنهم‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يريدونه‭, ‬وانشغلوا‭ ‬بالاستمتاع‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬نسوا‭ ‬لغتهم‭. ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬عندهم‭ ‬مكتبات‭, ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬عندهم‭ ‬كتب‭, ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬كلمات‭. ‬فقط‭ ‬صوَر‭ ‬متحرّكة‭ ‬وأجهزة‭ ‬آليّة‭ ‬ورموز‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬أستعملها‭ ‬مع‭ ‬أصدقائي‭ ‬في‭ ‬الدردشة‭.‬

جلست‭ ‬وحدي‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬الأرصفة‭ ‬مُستترًا‭ ‬بِأشجار‭ ‬مزروعة‭. ‬تمنّيت‭ ‬لو‭ ‬أنّي‭ ‬فقط‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتكلّم‭ ‬مع‭ ‬أيّ‭ ‬شخص‭, ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭, ‬أو‭ ‬صفات‭ ‬أهله‭ ‬أو‭ ‬حكايتهم‭. ‬همست‭ ‬لنفسي‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬حزين‮»‬‭, ‬وبِدهشة‭ ‬سمعت‭ ‬صوت‭ ‬طفل‭ ‬يقلّدني‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬حزين‮»‬‭, ‬التفتُّ‭ ‬فوجدته‭ ‬صغيرًا‭ ‬بالكاد‭ ‬يمشي‭, ‬بخطوات‭ ‬مهتزّة‭ ‬اقترب‭ ‬حتى‭ ‬وقف‭ ‬أمامي‭ ‬ونظر‭ ‬إلى‭ ‬فمي‭ ‬كأنه‭ ‬ينتظرني‭ ‬أن‭ ‬أتكلّم‭.‬

قلت‭ ‬له‭: ‬‮«‬مرحبًا‮»‬‭, ‬ضحك‭ ‬بِجذَل‭ ‬وقلّدني‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬مرحبًا‮»‬‭.  ‬وصفّق‭ ‬بيده‭ ‬لمّا‭ ‬سمع‭ ‬صوته‭ ‬فضحكت‭ ‬من‭ ‬أجله‭.‬

مددْت‭ ‬يدي‭ ‬في‭ ‬طين‭ ‬الأرض‭ ‬وحفرت‭ ‬الرمز‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬لغتي‭ ‬وأنا‭ ‬أنطقه‭ ‬له‭... ‬‮«‬ألِف‮»‬‭.‬

وحين‭ ‬عدْت‭ ‬إلى‭ ‬غرفتي‭ ‬وبكيت‭ ‬متأثّرًا‭ ‬وأنا‭ ‬أمسك‭ ‬بِقلمي‭ ‬السحري‭ ‬مرّةً‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭, ‬وأكتب‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬‮«‬اللّغة‮»‬‭.‬

لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬قلمي‭ ‬سيعيدني‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬لِأعلّمه‭ ‬اللغة‭ ‬والنطق‭, ‬أم‭ ‬سيذهب‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬أتعلّم‭ ‬فيه‭ ‬لغتي‭ ‬بِطريقة‭ ‬أفضل‭!  ‬لكنّي‭ ‬في‭ ‬الحالتين‭ ‬سأكون‭ ‬سعيدًا‭.‬

 

رسوم‭:  ‬محمد‭ ‬عبدالله