البستان الذي تَبسَّم من جديد

البستان الذي تَبسَّم من جديد

كان‭ ‬البستان‭ ‬المُبتسم‭ ‬يفتح‭ ‬أبوابه‭ ‬كلّ‭ ‬صباح‭ ‬ويستقبل‭ ‬الزائرين‭, ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مسموحًا‭ ‬للزائرين‭ ‬غير‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالمناظر‭ ‬الجميلة‭, ‬حيث‭ ‬الماء‭ ‬ينساب‭ ‬في‭ ‬الجداول‭, ‬والفراشات‭ ‬ترفرف‭, ‬والطيور‭ ‬تغرّد‭, ‬ورائحة‭ ‬الزهور‭ ‬تملأ‭ ‬المكان‭, ‬والثمار‭ ‬تتدلّى‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭, ‬عندما‭ ‬نضج‭ ‬الثمار‭ ‬وضع‭ ‬العمال‭ ‬لافتة‭ ‬على‭ ‬الأبواب‭, ‬وكتبوا‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬الثمار‭ ‬مجّانًا‭ ‬للجميع‮»‬‭.‬

اندهشت‭ ‬الأشجار‭ ‬لأنها‭ ‬المرّة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يُعلَن‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬مجّانية‭ ‬الثمار‭,  ‬وظلّت‭ ‬تستفسر‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭, ‬فأخبرها‭ ‬أحد‭ ‬العمال‭ ‬بالسرّ‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬أحد‭ ‬الأثرياء‭ ‬قد‭ ‬اشترى‭ ‬هذا‭ ‬البستان‭ ‬وجعل‭ ‬ثماره‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‮»‬‭.‬

سألت‭ ‬الأشجار‭ ‬مستغربة‭: ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬سيجنيه‭ ‬ذلك‭ ‬الثريّ‭ ‬وقد‭ ‬بدّد‭ ‬ماله‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭؟

فقال‭ ‬البستاني‭: ‬سيجني‭ ‬السعادة‭ ‬والفرح‭ ‬عندما‭ ‬يأكل‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬الفواكه‭ ‬اللذيذة‭, ‬وعندما‭ ‬ينظر‭ ‬المتعبون‭ ‬إلى‭ ‬الخضرة‭ ‬والورود‭ ‬وتصفى‭ ‬أرواحهم‭.‬

عندما‭ ‬انتشر‭ ‬هذا‭ ‬الخبر‭, ‬أقبل‭ ‬الناس‭ ‬لأكل‭ ‬الفاكهة‭ ‬اللذيذة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل‭.‬

فجاء‭ ‬الرجل‭ ‬العجوز‭ ‬يتوكّأ‭ ‬على‭ ‬عكّازه‭, ‬ثم‭ ‬وقف‭ ‬تحت‭ ‬شجرة‭ ‬التفاح‭ ‬وأكل‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬شبع‭, ‬وجاءت‭ ‬امرأة‭ ‬برفقة‭ ‬أطفالها‭ ‬وأكلوا‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬الفواكه‭, ‬وجاءت‭ ‬شابّة‭ ‬أنيقة‭ ‬لتستريح‭, ‬فأكلت‭ ‬من‭ ‬عناقيد‭ ‬العنب‭ ‬المتدلية‭ ‬عندما‭ ‬قرأت‭ ‬اللوحة‭. ‬

تنوّع‭ ‬زوّار‭ ‬البستان‭, ‬وتنوّعت‭ ‬أغراضهم‭, ‬وكانوا‭ ‬لا‭ ‬يغادرون‭ ‬إلا‭ ‬وقلوبهم‭ ‬تمتلىء‭ ‬بالرضا‭ ‬والامتنان‭ ‬لصاحب‭ ‬البستان‭.‬

ظلّ‭ ‬البستان‭ ‬هكذا‭ ‬طوال‭ ‬أيام‭ ‬الصيف‭, ‬وبالقرب‭ ‬من‭ ‬الخريف‭ ‬كانت‭ ‬الأشجار‭ ‬بحالة‭ ‬سيئة‭,  ‬فبدأت‭ ‬أوراقها‭ ‬تجفّ‭ ‬قبل‭ ‬أوانها‭, ‬ومات‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الزهور‭ ‬أيضًا‭, ‬وتمرّد‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬الجداول‭ ‬وتسرّب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.‬

بكت‭ ‬أشجار‭ ‬البستان‭ ‬لأن‭ ‬أغصانها‭ ‬كانت‭ ‬تتهشّم‭ ‬مع‭ ‬الرياح‭ ‬الخفيفة‭.‬

‭ ‬قالت‭ ‬شجرة‭ ‬المانجو‭ ‬وهي‭ ‬غاضبة‭: ‬لقد‭ ‬أخطأنا‭ ‬عندما‭ ‬سمحنا‭ ‬للناس‭ ‬بِالتهام‭ ‬ثمارنا‭, ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬ألا‭ ‬نسمح‭ ‬لهم‭ ‬بذلك‭.‬

فقالت‭ ‬شجرة‭ ‬الموز‭: ‬وهل‭ ‬تستطيع‭ ‬الأشجار‭ ‬الضعيفة‭, ‬أن‭ ‬تمنع‭ ‬البشر‭ ‬الأقوياء‭ ‬من‭ ‬أكل‭ ‬الثمار‭?‬

صمتت‭ ‬شجرة‭ ‬المانجو‭ ‬ولم‭ ‬تُجب‭.‬

قالت‭ ‬كرمة‭ ‬العنب‭: ‬تحتاج‭ ‬أغصاني‭ ‬الآن‭ ‬للتقليم‭ ‬والتهذيب‭ ‬فماذا‭ ‬أفعل‭؟

وقالت‭ ‬شجرة‭ ‬التين‭: ‬وأنا‭ ‬أحتاج‭ ‬للأسمدة‭ ‬لأنني‭ ‬أصبحت‭ ‬ضعيفة‭.‬

وقالت‭ ‬الأزهار‭ ‬الذابلة‭: ‬لقد‭ ‬حرموا‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬الشذى‭.‬

وقالت‭ ‬الفراشات‭ ‬وهي‭ ‬تغادر‭ ‬البستان‭: ‬عندما‭ ‬تجدون‭ ‬حلّاً‭ ‬سأعود‭.‬

فقالت‭ ‬شجرة‭ ‬المانجو‭: ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يفعل‭ ‬الخير‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يساعدكم‭.‬

قالت‭ ‬شجرة‭ ‬البرتقال‭: ‬الأشجار‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬أماكنها‭ ‬وإلا‭ ‬ماتت‭, ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يأتي‭ ‬للبستان‭ ‬زائرًا‭ ‬لنرسله‭ ‬للرجل‭ ‬الثري‭.‬

قالت‭ ‬شجرة‭ ‬المانجو‭: ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ننتظر‭ ‬البستاني‭ ‬فربّما‭ ‬يعود‭ ‬غدًا‭.‬

مرّت‭ ‬أيام‭ ‬طويلة‭ ‬والأشجار‭ ‬على‭ ‬الحال‭ ‬نفسه‭,  ‬فلا‭ ‬زائر‭ ‬يأتي‭, ‬ولا‭ ‬البستاني‭ ‬يعود‭, ‬فصارت‭ ‬الأشجار‭ ‬تتلاوم‭ ‬بشدة‭.‬

وفجأة‭ ‬هبط‭ ‬هدهد‭ ‬ليأكل‭ ‬من‭ ‬الديدان‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تمرح‭ ‬في‭ ‬البستان‭, ‬ولما‭ ‬سمع‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬الأشجار‭ ‬قرّر‭ ‬أن‭ ‬يطير‭ ‬ويخبر‭ ‬الرجل‭ ‬الثري‭.‬

وعندما‭ ‬عاد‭ ‬للبستان‭ ‬وجد‭ ‬المرأة‭ ‬الفقيرة‭ ‬وأبناءها‭ ‬يطوفون‭ ‬في‭ ‬البستان‭.‬

فقال‭ ‬الهدهد‭ ‬غاضبًا‭: ‬لمَ‭ ‬سمحتم‭ ‬لهم‭ ‬بالدخول‭? ‬كان‭ ‬عليكم‭ ‬أن‭ ‬تطردوا‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬أكل‭ ‬ثماركم‭, ‬وأتلف‭ ‬أغصانكم‭.‬

قالت‭ ‬النخلة‭ ‬الباسقة‭: ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نغلق‭ ‬أبوابنا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬محتاج‭, ‬ومن‭ ‬عاملنا‭ ‬بإساءة‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نعامله‭ ‬إلّا‭ ‬بالإحسان‭.‬

‭ ‬قال‭ ‬الهدهد‭: ‬ولكن‭... ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬جاء‭ ‬البستاني‭ ‬ونظر‭ ‬مندهشًا‭, ‬وأخذ‭ ‬يلوم‭ ‬نفسه‭ ‬ويلوم‭ ‬الرجل‭ ‬الثري‭ ‬الذي‭ ‬يفعل‭ ‬الخير‭ ‬لأن‭ ‬حال‭ ‬البستان‭ ‬أصبح‭ ‬سيئًا‭ ‬بسبب‭ ‬إهمال‭ ‬الناس‭ ‬له‭.‬

فقالت‭ ‬له‭ ‬النخلة‭ ‬الباسقة‭: ‬أهل‭ ‬الخير‭ ‬لا‭ ‬يغضبون‭ ‬ولا‭ ‬يمنعون‭ ‬خيرهم‭ ‬أبدًا‭.‬

أنزل‭ ‬البستاني‭ ‬اللوحة‭ ‬المعلّقة‭, ‬وانطلق‭ ‬نحو‭ ‬فأسه‭ ‬ليقصف‭ ‬الحشائش‭ ‬الضارّة‭, ‬وعندما‭ ‬عاد‭ ‬لبيته‭ ‬مساءً‭ ‬وحكى‭ ‬لأولاده‭ ‬الصغار‭, ‬أصرّوا‭ ‬على‭ ‬مشاركته‭.‬

في‭ ‬الصباح‭ ‬جاء‭ ‬البستاني‭ ‬وأولاده‭, ‬وانهمكوا‭ ‬في‭ ‬العمل‭, ‬بدأت‭ ‬الأشجار‭ ‬تشعر‭ ‬بالأمل‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يساعدها‭ ‬لتثمر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

قالت‭ ‬شجرة‭ ‬الرمّان‭ ‬مشفقة‭: ‬ليت‭ ‬الجميع‭ ‬مثلهم‭.‬

سمعها‭ ‬البستاني‭ ‬فقال‭: ‬ليكن‭ ‬الجميع‭ ‬مثلنا‭, ‬وانطلق‭ ‬لواجهة‭ ‬البستان‭ ‬وكتب‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬‮«‬خير‭ ‬كبير‭ ‬ينادي‭ ‬الجميع‮»‬‭.‬

جاء‭ ‬الفقراء‭ ‬فوجدوا‭ ‬البستاني‭ ‬وأولاده‭, ‬فنادى‭ ‬أحدهم‭ ‬هيا‭ ‬بنا‭ ‬نساعدهم‭, ‬وانتشروا‭ ‬في‭ ‬البستان‭,  ‬وعملوا‭ ‬بكل‭ ‬طاقاتهم‭, ‬ابتسمت‭ ‬الأشجار‭ ‬مجددًا‭, ‬وفاحت‭ ‬رائحة‭ ‬الطين‭ ‬الطيّبة‭ ‬عندما‭ ‬ارتوى‭ ‬بالماء‭.‬

رآهم‭ ‬الأثرياء‭ ‬فجاء‭ ‬أحدهم‭ ‬حاملًا‭ ‬السماد‭, ‬وآخر‭ ‬يحمل‭ ‬البذور‭ ‬والشتلات‭, ‬وشارك‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬تجهيز‭ ‬أرض‭ ‬البستان‭ ‬وتقليم‭ ‬أشجاره‭.‬

ازدهرت‭ ‬الأشجار‭, ‬وعادت‭ ‬الطيور‭ ‬تغرّد‭ ‬في‭ ‬البستان‭, ‬ورفرفت‭ ‬الفراشات‭, ‬ورقصت‭ ‬الأشجار‭ ‬مع‭ ‬النسمات‭, ‬وامتلأت‭ ‬سماء‭ ‬البستان‭ ‬بالابتسامات‭ .‬

قالت‭ ‬النخلة‭ ‬الباسقة‭: ‬ما‭ ‬أجمل‭ ‬البشر‭ ‬عندما‭ ‬يجتمعون‭ ‬على‭ ‬الخير‭, ‬وما‭ ‬أجملهم‭ ‬لو‭ ‬تعاونوا‭ ‬بصدق‭ ‬على‭ ‬زراعة‭ ‬أرضهم‭ ‬بالحب‭ ‬وبالسلام‭.‬

 

رسوم‭: ‬إبراهيم‭ ‬البريدي