هو جدّي وصديقي
منذ أول عهدي بهذه الدنيا, وأنا وَجدّي نتشارك كل شيء, ممّا جعل أبي يُطلِق علينا دائماً «الرفيقين»... نتقاسم الغرفة نفسها, يأخذ هو السرير الكبير, وأنام أنا على السرير الصغير القابع في ركن قصيّ من الغرفة.. كان سريري ذا حواجز من كلّ الجهات, ليمنعني من السقوط, فهو سريري منذ أن كان عمري أربع سنوات, فلمّا لاحظ جدّي أن رجليّ أصبحتا أطول من السرير, وأنني أجد صعوبة في النوم هكذا, وأنني غير مرتاح, أمر أبي فوراً أن يغيِّر لي السرير, ففعل ذلك في أقصى سرعة, وتعجّب كيف أنه لم يلحظ ذلك..! وأن جدّي هو من أدرك ازدياد طولي.
في ليالي الشتاء الطويلة الباردة يسعنا سرير جدّي الكبير, فلا أحسّ ببرودة الجو, وأنام في سعادة ودفء لذيذين, ويستمرّ هو في سرد الحكايات حتى يأخذني النوم منه بعيداً.. يحبّ جدّي أن يحكي لي عن جدّتي التي لم أرها في حياتي, يذكر لي كم كانت جميلة, ومحبّة لكلِّ من حولها... حكايات جدّي هذه تغذّي كلَّ مشاعر الحب, والتعاطف عندي, وتغذيني بكلّ معاني الوفاء, وأحسّ معه أنني أعرفها بالفعل, وعشت معها قبلاً.
عندما ذهبت إلى المدرسة أوّل مرة قضى جدي اليوم بأكمله واقفاً على باب المدرسة, وفشل الجميع في إقناعه بالعودة إلى البيت.. كنت أبكي, وأخرج أحياناً من الفصل لأجده يحوم حولي كالفراشات; يعطيني بالونة ملوّنة في المرّة الأولى, ويعطيني طعاماً في المرّة الثانية, وحينما دقَّ جرس الانصراف, أخذ يدي في كفِّه الكبير, ومشينا إلى البيت... وفي الأيام التالية طلبت من جدي أن يرافقني إلى المدرسة, فرفض قائلاً: أنت الآن كبير... يمكنك الاعتماد على نفسك, فأحسست بكلماته تشجعني, وقرّرت الذهاب إلى المدرسة وحدي, ولم أبكِ مثل الأطفال الآخرين أبداً, وأنا الآن أحبّ المدرسة, وأرفض التغيّب عن الدراسة يوماً واحداً دون عذر, أو مرض.. وعند عودتي كلّ يوم من المدرسة أجد جدّي واقفاً في الشرفة يحيّيني.. وعندما تتأخر عربة المدرسة عن العودة, ولو لدقائق.. أجده في الشارع قلقاً عليّ, ينتظرني, وبمجرد نزولي يأخذني بين أحضانه.
عندما تأتي طبيبة المدرسة لتعطينا نحن التلاميذ (التطعيمات) للأمراض المختلفة, يبكي الأطفال جميعاً عداي; حيث علّمني جدّي أن ذلك ضروري للحفاظ على صحّتنا, لأنه يمنح أجسامنا مناعة ومقاومة لهذه الأمراض, ويجعلنا أقوياء في مواجهته, من أجل ذلك أنا لا أخاف من الحقن, وأقف في أوّل الطابور وأشجّع زملائي في الفصل.. ولكن في أحيان كثيرة, وعند انتهاء اليوم الدراسي أحسّ بسخونة شديدة في جسمي, وأنام في الحافلة, وعندما أصل إلى باب المنزل وتكون المشرفة بجواري لمساعدتي على النزول, أجد جدّي في الانتظار, ولا أعرف كيف أحسّ بي, وبتعبي, ويقوم بحملي حتى يضعني في سريري, ولا يتركني إلا بعد أن يتأكد أنني قد أصبحت في حالة جيدة..
الآن أنا كبرت.. الحجرة أصبحت تضيق بلعبي, وكتبي, ومكتبتي.. لا أتحرك فيها براحة, كما أنني أحتاج جهازاً للكمبيوتر في غرفتي.. يحسّ جدي بما لم أقله من كلمات.. في هدوئه المعتاد يطلب من أبي أن يترك لي الحجرة, ويأخذ هو الحجرة الصغيرة المجاورة لحجرتنا, يعيش فيها بمفرده... يغضب أبي منّي... يظن أنّي قد ضايقت جدي, ودفعته لهذا الطلب... لكن جدّي يؤكد له غير ذلك, وأنه قد آن الأوان كي أنعم ببعض الحريّة والاستقلال, وهو كذلك, وأنه يريد بعض الهدوء الذي سينعم به في الحجرة الصغيرة بمفرده... يوافقه أبي على مضض, ويوفّر لكلٍّ منّا حجرة مستقلة.. أعيد ترتيب حجرتي بعد أن أصبحت جميلة, واسعة, ولكن أجدني أدور حول نفسي طوال النهار أبحث عن شيء ينقصني, وفي النهاية أعترف أنني أفتقد جدّي.. أذهب إليه.. أطلب منه العودة إلى بيته الذي هو حجرتنا معاً, يرفض جدّي أول الأمر, يسوق أعذاراً من مثل أنه أحياناً يصيبه الأرق ليلاً فيقلقني, أو أنني أحتاج إلى استقبال أصدقائي في الحجرة ممّا يزعجه, وكثيراً من الأعذار التي لم أقبلها, فيعود معي وقد أشرق وجهه, وعرف أنني لا يمكنني الاستغناء عنه... وأنه ليس جدّي فقط, ولكنّه صديقي إلى الأبد.