في الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر السّريّة المصرفية... وداعًا

إن كانت هناك نتيجة اقتصادية لهجمات 11 سبتمبر 2001م، فإنّها لن تكون مقتصرة على خسائر تريليونات الدولارات التي طالت البورصات والبنوك وشركات الطيران والتأمين وقت وقوع الهجمات، أو حتى ما تعرّضت له حركة السفر  والسياحة سلبًا في العالم من إجراءات ومضايقات، ناهيك بحالة عدم اليقين في عالم المال والأعمال والاقتصاد عمومًا، بل في تطابق مفهومَي مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب يسعى النظام المالي العالمي الجديد إلى مكافحتهما كمفهومين يؤديان إلى نتائج واحدة أو متداخلة.

 

غسل الأموال أو ما يُطلق عليه تبييض الأموال هو عملية تحويل كميات كبيرة من الأموال التي تمَّ الحصول عليها بطرق غير قانونية إلى أموال نظيفة أو مشروعة وقابلة للتداول، وهي طريقة تستخدم لإخفاء وتغطية المصادر التي يتم من خلالها كسب الأموال عن طريق استخدام وسائل استثمارٍ غير مشروعة، ومن ثم تُستثمرُ أرباحها في نشاطات مشروعة وقانونية. 
ويُعدّ غسل الأموال من الجرائم التي يعاقب عليها القانون بسبب تأثيرها السلبي على الاقتصاد الخاص بالدول؛ حيث تتيح هذه الجريمة للمجرمين إمكان التصرف بالأموال المغسولة الناتجة من عمليات مجرمة ومشبوهة، وتوظيفها في مجموعة من الأنشطة الاقتصادية عن طريق إخفاء مصادرها غير المشروعة، كما تساعدهم في التوسع بأعمالهم غير القانونية وكسب المزيد من هذه الأموال، وبالتالي دعم الجريمة وتوسّعها.
بنظرة على الآثار المباشرة لهجمات 11 سبتمبر 2001م، نلاحظ أن اقتصاد مدينة نيويورك فقدَ 143 ألف وظيفة شهريًا، في أول ثلاثة أشهر من الهجمات، يضاف إليها 2.8 مليار دولار من الأجور في الأشهر الثلاثة الأولى بعد الهجمات.
وفي الأسبوع الأول بعد الهجمات، تلقّى صندوق تعويض الضحايا في 11 سبتمبر أكثر من 7400 طلب تضمّنت مطالبات الوفاة والإصابة الشخصية، والإصابات المادية، أما على المدى الطويل، فلا تزال تداعيات 11 سبتمبر تلقي بظلالها على الولايات المتحدة في شكل مئات المليارات التي أُنفقت على الأمن الداخلي والحروب التي شُنّت في العراق وأفغانستان.
وفي الفترة ما بين 2001م و2009م - وفق بيانات أمريكية رسمية - بلغت كلفة الوجود الأمريكي المباشر في أفغانستان نحو 822 مليار دولار؛ لكنّ هذا لا يتضمّن أي إنفاق في باكستان، التي تستعين بها الولايات المتحدة كقاعدة لعملياتها في أفغانستان.
ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة براون عام 2019، تناولت تكاليف الحرب في أفغانستان وباكستان، فإنّ الولايات المتحدة أنفقت نحو 978 مليار دولار.

قانون باتريوت – آكت
اليوم، بعد نحو 20 عامًا من وقوع هجمات 11 سبتمبر، تحولت قواعد ولوائح مكافحة غسل الأموال إلى أداة قوية للسياسة الخارجية الأمريكية، خصوصاً بعد إقرار قانون باتريوت آكت الأميركي الخاص بمكافحة الإرهاب، الذي يتيح تسهيل إجراءات التحقيقات والوسائل اللازمة لمكافحة الإرهاب، بالتوازي مع معالجة مَواطن الضَّعف الوطنية والدولية في مكافحة عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومنح الولايات المتحدة القدرة على مواجهة ومكافحة الجرائم المالية حتى تلك التي تقع خارج نطاق الولاية القضائية الأمريكية.

اعرف عميلك
لم يعد خلال الــ 20 عامًا الأخيرة التقصير في التعامل مع ثغرات غسل الأموال مسألة مرتبطة بسياسات وطنية خاصة بدولة معيّنة، لكون هذا التقصير سيفتح عليها ضغوطًا دولية وعقوبات تجارية ومقاطعة اقتصادية، كما لم يعد التعامل مع هذه الثغرات مسألة خاصة بالكيانات الاقتصادية الضخمة، كالبنوك المركزية أو التجارية أو الشركات الكبرى إنّما تمسّ حتى الكيانات الصغيرة، لا سيما المالية منها كشركات الصرافة وتحويل الأموال، بل وحتى الأشخاص العاديين، وباتت المعايير والتوصيات الموضوعة من قبل مجموعة العمل المالي (FATF) وتوصيات لجنة بازل لمبادئ التعرّف إلى العملاء أساسًا استرشاديًا في تحديد آليات وقيود التعاملات داخل أي دولة أو خارجها، وصولًا إلى إصدار مجموعة من المفاهيم الواجب تطبيقها في مختلف البنوك، مثل معايير «اعرف عميلك» الذي تطبّقه البنوك العربية، ويحتوي على معلومات تفصيلية عن هوية العملاء، ويعطي متابعة خاصة للحسابات ذات المخاطر العالية، فضلًا عن مراقبة وتتبُّع النشاطات غير العادية للحسابات.

الجرائم المالية المحتملة
  باتت معظم دول العالم تفرض قيودًا على إدخال أو إيداع ما يتجاوز 10 آلاف دولار نقدًا أو ما يعادلها بالعملات الأجنبية، كأن تلزم بالإفصاح عن الغرض كتابيًا، أو حتى توقف إصدار أوراق النقد المرتفعة القيمة، إذ أعلنت سنغافورة عام 2014م، وقف إصدار ورقة النقد فئة 10 آلاف دولار سنغافوري (8 آلاف دولار أمريكي) في إطار مساعيها للحد من الصفقات النقدية العالية القيمة التي يسهل من خلالها تنفيذ عمليات غسل الأموال، بل إن دولة مثل سويسرا، لم تعد عاصمة السريّة المصرفية حول العالم، سمحت بعد الـ 11 من سبتمبر بتشديد الرقابة المصرفية.
ولم تتأخر السلطات المالية بسويسرا في التعامل مع نظيرتها الأمريكية فيما يتعلّق بملف الجرائم المالية المحتملة، وحرصت على دراسة قائمة الحسابات البنكية التي تعتقد واشنطن بأنها تدعم الإرهاب أو على علاقة بتنظيم القاعدة وحركة طالبان بكلّ عناية، وقد التزمت سويسرا التزامًا صارمًا بتجميد حسابات الأشخاص والهيئات التي ترد في القائمة الصادرة دوريًا عن مجلس الأمن الدولي، وشملت حسابات تابعة لحركة طالبان، ولأعضاء في تنظيم القاعدة والعديد من الودائع المشتبه فيها، انتظارًا لأن يثبت أصحابها براءتهم من التُّهم المنسوبة إليهم بضلوعهم في تمويل الجماعات الإرهابية.
وينسب خبراء الشرطة الفدرالية السويسرية هذه التطورات لتشديد إجراءات الرقابة في مجال غسل الأموال، وليس لحدث كهجمات 11 سبتمبر، الذي أدّى إلى تصعيد ملحوظ بالولايات المتحدة وخارجها في إجراءات الرقابة، ليس على حركة أموال الجريمة المنظمة وحسب، وإنّما على أموال الأوساط المشبوهة بالإرهاب أيضًا.
ويؤكد الخبراء الأمنيون أن هذه الأرقام تعكس - رغم الزيادة الحادّة في عدد شبهات غسل الأموال - أوجهًا إيجابية بالنسبة إلى الكونفدرالية السويسرية، حيث إنها تمثّل إشارة واضحة إلى أن الأراضي السويسرية لا تعمل كمركز دولي لمحاولات غسل الأموال القذرة أو أموال الإرهاب.

مجرمون أكثر إبداعًا
  لا تزال العمليات المالية المشبوهة نشطة في العالم مدعومة بابتكارات ووسائل جديدة غير مألوفة بالنسبة إلى المؤسسات المالية وأنظمة التعقّب المالي، ففي تقرير لها منتصف العام الحالي، قالت مجلة ذي إيكونوميست (Economist)  البريطانية، إن الجرائم المالية زادت بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، وهو ما يبيّن فشل الجهود الدولية بهذا المجال، ويؤكد الحاجة إلى إصلاحات هيكلية وتشريعات وتعزيز دور الشرطة والقضاء في محاسبة المتورطين بهذه الجرائم.
 ففي عام 2020 فقط فُرضت غرامات على البنوك بمختلف أنحاء العالم بقيمة 10.4 مليارات دولار، بسبب انتهاكات تتعلق بغسل الأموال، بزيادة بلغت أكثر من 80 بالمئة مقارنة بعام 2019، وفقًا لشركة فينيرغو (Fenergo) المتخصصة في برمجيات الامتثال المالي، وتأتي هذا الإحصائية بالتزامن مع تصريح لنائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوربية، فالديس دومبرو فسكيس، في يوليو الماضي، عندما اعتبر أن «المجرمين باتوا أكثر إبداعًا، لذا فإنّ قوانيننا بحاجة إلى مواكبة التطورات» ■