سِنْغَافُورَةَ أَرْضَ الأَسَدِ

حَلَّتْ عُطْلَةُ فَصْلِ الصَّيْفِ, وَبَيْنَمَا أَنَا في غُرْفَتِي أُفَكِّرُ بِالمنْطَقَةِ التيِّ سَأَقْضِي بِهَا عُطْلَتِي, انْتَابَتْنِي (تَمَلَّكَتْنِي) رَغْبَةٌ فِي أَنْ أَقْضِي جُزْءا مِنْهَا بِإِحْدَى الدُّوَلِ خَارِجَ بَلَدِي, فَقُلْتُ مُحَدِّثاً نَفْسِي:
مَا الدَّوْلَةُ التيِّ مِنَ الممْكِنِ أَنْ أَزُورَهَا?
لَمْ أَجِدْ أَمَامِي سِوَى خَرِيطَةِ العَالَمِ المعَلَّقَةِ عَلَى حَائِطِ غُرْفَتِي, اتَّجَهْتُ نَحْوَهَا وَأَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِيْهَا, وَبَعْدَ مُدَّةٍ أَثَارَ انْتِبَاهِي فِي القَارَّةِ الآسْيَوِيَّةِ اسْمُ دَوْلَةٍ تُدْعَى سِنْغَافُورَةَ (Singapura), فَقُلْتُ بِاسْتِغْرَابٍ:
يَا لَهُ مِنِ اسْمٍ غَرِيبٍ!
وَقَبْل أَنْ أكمل كَلاَمِي, قَاطَعَتْنِي الخَرِيطَةُ قَائِلَةً:
إِنَّ سِنْغَافُورَةَ تَقَعُ جَنُوبَ شَرْقِ آسْيَا, وَهِيَ بَلَدٌ جَمٍيلٌ جِداً.
قُلْتُ لَهَا:
شُكْراً لَكِ يَا خَرِيطَتِي العَزِيزَةُ.
وَفِي الغَدِ اتَّجَهْتُ لسِنْغَافُورَةَ مُسْتَقِلاًّ الطَائِرَةَ, وَأَنَا مُحَلِّقٌ بِالهَوَاءِ, غَفَوْتُ قَلِيلاً (نِمْتُ نَوْماً خَفِيفاً) وَفَجْأَةً فَتَّحْتُ عَيْنَيَّ, فَسَأَلْتُ رَجُلاً يَجْلِسُ إِلَى جَانِبِي:
هَلِ اقْتَرَبْنَا يَا سَيِّدِي مِنْ سَنْغَافُورَةَ?
رَدَّ عَلَيَّ:
هَيَّا ارْفَعْ سِتَارَ نَافِذَةِ الطَّائِرَةِ وَانْظُرْ إِلَى الأَسْفَلِ, إِنَّهَا هِيَ تِلْكَ الجَزِيرَةُ الصَّغِيرَةُ التيِّ تَحُدُّهَا جَنُوباً شِبْهُ جَزِيرَةِ مَلاَيُو وَيَفْصِلُهَا عَنْ مَالِيزْيَا مَضْيَقُ جُوهُورْ, وَعَنْ إنْدُونِسْيَا مَضْيَقُ سَنْغَافُورَةَ.
أَجَبْتُهُ:
وَاااااوْ !!... يَا لَمَوْقِعِهَا المتَمَيِّزِ والجَذَّابِ!
وَبَعْدَ وَقْتٍ وَجِيزٍ سَمِعْتُ مُضِيفَةَ الطَّائِرَةِ تَقُولُ:
لَقَدْ وَصَلْنَا الأَجْوَاءَ السِّنْغَافُورِيَّةَ, يجب رَبْطَ الأَحْزِمَةَ جَيِّداً, قَرِيباً ستهبط الطَّائِرَةُ بِمَطَارِ سَنْغَافُورَةَ الدَّوْلِيِّ.
فَقُلْتُ للرَّجُل الجَالِسِ بِجَانِبِي:
كُنْتُ أَظُنُّ أن الطَّائِرَةَ ستهبط بِمَطَارِ العَاصِمَةِ!
ضَحِكَ وَقَالَ:
سَنْغَافُورَةُ هِيَ اسْمُ الدَّوْلَةِ وَاسْمُ العَاصِمَةِ, وَهِيَ أَكْبَرُ مُدُنِ سِنْغَافُورَةَ, فَسِنْغَافُورَةُ دُوَيْلَةٌ صَغِيرَةٌ لاَ تَتَعَدَّى مِسَاحَتُهَا 710 كيلومترات مربعة وَعَدَدُ سُكَّانِهَا تَقْرِيباً خَمْسَةُ مَلاَيِينِ نَسَمَةٍ.
نَزَلْتُ مِنَ الطَّائِرَةِ متوجهاً لِلْخَارِجِ, وَمَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنَايَ عَلَى مَدِينَةِ سِنْغَافُورَةَ حَتىَّ انْبَهَرْتُ بِجَمَالِهَا, مِنْ بِنَايَاتٍ ضَخْمَةٍ, وَهَنْدَسَة وَإبِْدَاعٍ رَائِعٍ لِلْعِمَارَاتِ وَالمنَازِلِ, وَمِمَّا زَادَ مِنْ دَهْشَتِي ثَلاَثُ نَاطِحَاتِ سَحَابٍ مُتَقَارِبَاتٍ نحتت فَوْقَهُا بَاخِرَةٍ كَبِيرَةٍ.
بَدَأْتُ التجوُّل فِي شَوَارِعِ سِنْغَافُورَةَ, فَإِذَا بِهَا نَظِيفَةٌ جِداً وَعَلىَ طُولِ الشَّوَارِعِ وَالأَزِقَّةِ تُوجَدُ لاَفِتَاتٌ تُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ رَمْيِ النَّفَايَاتِ, فَسَأَلتُ أَحَدَ المارَّةِ بِاللُّغَةِ الإِنْجْلِيزِيَةِ:
سَيِّدِي... سَيِّدِي... لَوْ سَمَحْتَ أُرِيدُ مَطْعَماً أَتَنَاوَلُ فِيهِ وَجَبَةَ الغَدَاءِ.
رَدَّ عَلَيَّ بِلُغَةٍ غَرِيبَةٍ, وَفَجْأَةً أجابني رَجُلٌ آخَرَ:
يُوجَدُ مَطْعَمٌ بِالشَّارِعِ المقَابِل لهذَا الشَّارِعِ.
فَقُلْتُ لَهُ:
أَيُّ لُغَةٍ يَتَحَدَّثُ هَذَا الرَّجُلُ?!
فَقَالَ لِي:
إِنَّهَا لُغَةُ الملاَيُو, فَسِنْغَافُورَةُ لَهَا ثَلاَثُ لُغَاتٍ رَسْمِيَّةٍ: الإِنْجَلِيزِيَةُ وَالصِّينِيَةُ وَلُغَةُ الملاَيُو (مَجْمُوعَةٌ عِرْقِيَةٌ تَعِيشُ فِي شِبْهِ جَزِيرَةِ مَلاَيُو - مَالِيزْيَا حَالِياً), فَسُكَّانُ سِنْغَافُورَةَ خَلِيطٌ مِنَ الهُنُودِ وَالصِّينِ وَالقُوقَازِ (نِسْبَةً إِلَى مِنْطَقَةٍ جُغْرَافِيَةٍ بَيْنَ أُورُبَّا وَآسْيَا), وتُعَدُ ثَالِثَ دَولَةٍ مِنْ نَاحِيَةِ الكَثَافَةِ السُّكَّانِيَةِ.
بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلْتُ وَجْبَةَ الغَداءِ, تَابَعْتُ جَوْلَتِي إِلَى أَنْ وَصَلْتُ لِبُحَيْرَةٍ كَبِيرَةٍ, مَحْفُوفَةٍ بِسَلاَلِمَ أسْمَنْتِيَّةٍ دَائِرِيَةٍ يَتَوَسَّطُهَا نُصْبُ (تِمْثَالُ) أَسَدٍ أَبْيَضَ بِذَيْلِ سَمَكَةٍ يَنْفُثُ (يَرْمِي) الماءَ مِنْ فَمِهِ, فَقُلْتُ:
مَا هَذَا النُّصْبُ الغَرِيبُ?!
وَفَجْأَةً قَالَ لِي الأَسَدُ:
أَنَا رَمْزُ دَوْلَةِ سِنْغَافُورَةَ, وَكَلِمَةُ سِنْغَافُورَةَ تَعْنِي أَرْضَ الأَسَدِ, فَعِنْدَ وُصُولِ أَحَدِ المسْتَكْشِفِينَ القُدَامَى لِلْجَزِيرَةِ ويُدْعَى «سَانْغْ نِيلاَ أُوتَامَا», خُيِّلَ إِليْهِ أَنَّهُ رَأَى أَسَداً بِذَيْلِ سَمَكَةٍ, فَسَمَّاهَا أَرْضَ الأَسَدِ, وَلَكِّنَ أبحاث الأَرْكُولُوجِيِيِنَ (عُلَمَاءُ الآثَارِ) أَكدت أنه لم يمشِ أي أسد فَوَقَ أَرْضِ سِنْغَافُورَة!