جولة في فاس

جولة في فاس

قم‭ ‬بنا‭ ‬يا‭ ‬صاحِ‭ ‬نتجول‭ ‬في‭ ‬أحياء‭ ‬مدينة‭ ‬فاس‭ ‬المغربية‭ ‬العتيقة‭... ‬مدينة‭ ‬العلم‭ ‬والعلماء‭ ‬والملوك‭ ‬والفضلاء‭, ‬لن‭ ‬أثقل‭ ‬عليك‭ ‬بتاريخ‭ ‬المكان‭ ‬ولا‭ ‬بأسماء‭ ‬العلماء‭ ‬والفرسان‭ ‬فأنت‭ ‬في‭ ‬سياحة‭ ‬وتنشد‭ ‬الراحة‭, ‬فهلم‭ ‬بنا‭ ‬نبدأ‭ ‬الزيارة‭... ‬فقد‭ ‬حللت‭ ‬أهلاً‭ ‬ونزلت‭ ‬سهلاً‭... ‬ولندخل‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الأبواب‭ ‬الشهيرة‭, ‬لأنك‭ ‬كما‭ ‬تعلم‭ ‬كانت‭ ‬المدن‭ ‬القديمة‭ ‬تحاط‭ ‬بأسوار‭ ‬ضخمة‭ ‬عظيمة‭ ‬تتخللها‭ ‬أبواب‭ ‬كبيرة‭ ‬تفتح‭ ‬نهاراً‭ ‬وتغلق‭ ‬ليلاً‭, ‬وكذلك‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬مدينتنا‭ ‬هذه‭. ‬فأسوارها‭ ‬وأبوابها‭ ‬مازالت‭ ‬منتصبة‭ ‬تشهد‭ ‬بذلك‭... ‬باب‭ ‬الفتوح‭... ‬باب‭ ‬أبي‭ ‬الجنود‭... ‬باب‭ ‬الجيسة‭... ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تدخلها‭ ‬حتى‭ ‬تطالعك‭ ‬محال‭ ‬صغيرة‭ ‬تنعم‭ ‬بحركات‭ ‬دؤوبة‭ ‬لصناع‭ ‬تقلديين‭ ‬منهمكين‭ ‬بشغف‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬منتجاتهم‭ ‬التقليدية‭ ‬بكل‭ ‬حب‭ ‬وتفان‭, ‬حتى‭ ‬أنك‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتناهى‭ ‬إلى‭ ‬سمعك‭ ‬موسيقى‭ ‬متناغمة‭ ‬لأيد‭ ‬عاملة‭ ‬من‭ ‬طَرْق‭ ‬وخرط‭ ‬وأصوات‭ ‬آلات‭ ‬بسيطة‭, ‬فلا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تتحرك‭ ‬قدماك‭ ‬وأنت‭ ‬تتجول‭ ‬في‭ ‬توافق‭ ‬مع‭ ‬نغمات‭ ‬المكان‭, ‬فإذا‭ ‬ألقيت‭ ‬ببصرك‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك‭ ‬فإنك‭ ‬ستجد‭ ‬مصنوعات‭ ‬جلدية‭ ‬مصفوفة‭ ‬أو‭ ‬زرابي‭ ‬مبثوثة‭ ‬وبين‭ ‬هذه‭ ‬وتلك‭ ‬أوان‭ ‬خزفية‭ ‬ذات‭ ‬ألوان‭ ‬زاهية‭ ‬أو‭ ‬براقة‭ ‬فضية‭ ‬تنطق‭ ‬أشكالها‭ ‬وزخارفها‭ ‬بتاريخ‭ ‬مجيد‭, ‬تمهل‭ ‬ﻻ‭ ‬تسرع‭ ‬حتى‭ ‬ﻻ‭ ‬تفوتك‭ ‬رؤية‭ ‬أضواء‭ ‬بيضاء‭ ‬وصفراء‭ ‬وحمراء‭ ‬تعكسها‭ ‬مصنوعات‭ ‬الفضة‭ ‬والنحاس‭, ‬وقد‭ ‬أضافت‭ ‬على‭ ‬المحل‭ ‬التجاري‭ ‬الصغير‭ ‬طابع‭ ‬البهجة‭ ‬والاحتفال‭ ‬تعززه‭ ‬موسيقى‭ ‬الطرب‭ ‬الأندلسي‭ ‬التي‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬المكتب‭ ‬لصاحب‭ ‬المحل‭... ‬ثم‭ ‬انعطف‭ ‬يمنة‭ ‬أو‭ ‬يسرة‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬المدينة‭ ‬الضيقة‭... ‬وارفع‭ ‬رأسك‭ ‬قليلاً‭ ‬ثم‭ ‬خذ‭ ‬نفساً‭ ‬عميقاً‭ ‬من‭ ‬أنفك‭... ‬أﻻ‭ ‬تشم‭ ‬رائحة‭ ‬العطور‭ ‬والبخور‭?! ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الدكان‭ ‬الصغير‭... ‬دقق‭ ‬بنظرك‭ ‬في‭ ‬قنيناته‭ ‬المتنوعة‭ ‬المملوءة‭ ‬بشتى‭ ‬أنواع‭ ‬العطور‭ ‬والتوابل‭ ‬والمساحيق‭ ‬الملونة‭... ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬رغبت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬أسمائها‭ ‬أو‭ ‬جدوى‭ ‬استعمالها‭ ‬فستجد‭ ‬الشرح‭ ‬المستفيض‭ ‬والكلام‭ ‬المفيد‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬المحل‭, ‬ولن‭ ‬يسكت‭ ‬حتى‭ ‬تمل‭. ‬واحذر‭ ‬فقد‭ ‬تشتري‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬وأنت‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬حلاوة‭ ‬لسانه‭ ‬وسماحة‭ ‬طبعه‭ ‬ودماثة‭ ‬خلقه‭... ‬هل‭ ‬تشعر‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬التعب‭? ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬فلديك‭ ‬فرصة‭ ‬لترتاح‭ ‬قليلاً‭ ‬وتتذوق‭ ‬الشاي‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقهى‭ ‬الشعبي‭ ‬المتواضع‭, ‬وتتناول‭ ‬معه‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬فطائر‭ ‬ومخبوزات‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭. ‬

هيا‭! ‬قم‭ ‬بنا‭ ‬نكمل‭ ‬الجولة‭, ‬فقد‭ ‬أخذت‭ ‬ترتشف‭ ‬الكؤوس‭ ‬وأطلت‭ ‬الجلوس‭... ‬هل‭ ‬نسيت‭ ‬أننا‭ ‬مازلنا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الحكاية‭, ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نكمل‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬عجيبة‭... ‬مدينة‭ ‬ساحرة‭?‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬مررنا‭ ‬بسوق‭ ‬الأحذية‭, ‬ها‭ ‬نحن‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬يعج‭ ‬باﻷلوان‭ ‬الزاهية‭ ‬للألبسة‭ ‬واﻷقمشة‭ ‬الرجالية‭ ‬والنسائية‭... ‬انظر‭ ‬كيف‭ ‬تتهافت‭ ‬النساء‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬القفطان‭ ‬والجلباب‭ ‬التقليدي‭, ‬وكيف‭ ‬يدققن‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الزخارف‭ ‬المطروزة‭ ‬بدقة‭ ‬وإتقان‭, ‬فهن‭ ‬يعرفن‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬شكل‭ ‬اسماً‭ ‬ولكل‭ ‬نوع‭ ‬تصنيفاً‭.‬

ثم‭ ‬ماذا‭ ‬عنك‭?! ‬ألا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تشتري‭ ‬جلباباً‭ ‬رجالياً‭?... ‬تفضل‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الدكان‭ ‬فصاحبه‭ ‬مستعد‭ ‬أن‭ ‬يعرض‭ ‬عليك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬صنف‭ ‬ألواناً‭... ‬وسيبدؤك‭ ‬بالتحية‭ ‬والسلام‭ ‬والمعسول‭ ‬من‭ ‬الكلام‭... ‬وسيسألك‭ ‬عن‭ ‬اﻷهل‭ ‬والأصحاب‭ ‬ومن‭ ‬بقي‭ ‬حياً‭ ‬من‭ ‬الأحباب‭ ‬وكأنه‭ ‬صديق‭ ‬حميم‭... ‬لا‭ ‬تستغرب‭ ‬إنها‭ ‬عادة‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬زيادة‭. 

ها‭ ‬قد‭ ‬حان‭ ‬وقت‭ ‬الغذاء‭. ‬ألا‭ ‬تشتهي‭ ‬طعاماً‭ ‬لذيذاً‭? ‬فها‭ ‬هنا‭ ‬مطعم‭ ‬بسيط‭... ‬سيتخمك‭ ‬بأنواع‭ ‬شهية‭ ‬من‭ ‬المأكولات‭ ‬التقليدية‭, ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬مقدمات‭ ‬ستنتقل‭ ‬من‭ ‬الطاجن‭ ‬باللحم‭ ‬والتوابل‭ ‬اللذيذ‭ ‬إلى‭ ‬الكسكس‭ ‬بالخضر‭ ‬والسميد‭, ‬ثم‭ ‬من‭ ‬الدجاج‭ ‬المحمر‭ ‬إلى‭ ‬الطحال‭ ‬المعمر‭... ‬وقد‭ ‬تتذوق‭ ‬من‭ ‬أكلة‭ ‬‮«‬الكرعين‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬الأرجح‭, ‬ستخرج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المطعم‭ ‬وأنت‭ ‬تتأرجح‭ ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬وزنك‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أكرمت‭ ‬به‭ ‬بطنك‭. ‬لكنك‭ - ‬لا‭ ‬محالة‭ - ‬ستتمنى‭ ‬العودة‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭.‬

سأدعك‭ ‬الآن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الفندق‭ ‬لتأخذ‭ ‬قسطاً‭ ‬من‭ ‬الراحة‭, ‬وربما‭ ‬عدت‭ ‬إليك‭ ‬عند‭ ‬المساء‭ ‬لنكمل‭ ‬الجولة‭ ‬وترى‭ ‬كيف‭ ‬يتحول‭ ‬المكان‭ ‬عندما‭ ‬يحل‭ ‬الليل‭ ‬والظلام‭, ‬وتتزين‭ ‬المدينة‭ ‬العتيقة‭ ‬بشتى‭ ‬الأنوار‭ ‬والأضواء‭...‬وتبدأ‭ ‬شهرزاد‭ ‬في‭ ‬الاستعداد‭ ‬لبدء‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬النهاية‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬تختزل‭ ‬كل‭ ‬قصص‭ ‬وأبطال‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭... ‬وذلك‭ ‬فصل‭ ‬آخر‭ ‬وتلك‭ ‬حكاية‭ ‬أخرى‭ ‬ربما‭ ‬أسمعك‭ ‬إياها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يطل‭ ‬الصباح‭ ‬وينتفض‭ ‬الديك‭ ‬ويبدأ‭ ‬بالصياح‭... ‬فإلى‭ ‬لقاء‭ ‬قريب‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬