الإبرة الصغيرة تتعلم

الإبرة الصغيرة تتعلم

انفتح‭ ‬الغطاء‭ ‬السميك‭ ‬فجأة‭... ‬وامتدت‭ ‬يد‭ ‬رقيقة‭ ‬لتُمسك‭ ‬بإبرة‭ ‬صغيرة‭ ‬ضمن‭ ‬مجموعة‭ ‬الإبر‭ ‬المُكدسة‭ ‬وسط‭ ‬علبة‭ ‬الإبر‭ ‬الجديدة‭, ‬فكلها‭ ‬إبر‭ ‬صغيرة‭ ‬جميلة‭ ‬الشكل‭... ‬وخرجت‭ ‬جميع‭ ‬الإبر‭ ‬تواً‭ ‬من‭ ‬ظلام‭ ‬دامس‭ ‬إلى‭ ‬ضوء‭ ‬أبيض‭ ‬جميل‭ ‬أعطى‭ ‬المكان‭ ‬المتواضع‭ ‬بهاءً‭ ‬وجمالاً‭ ‬غريبين‭.‬

وضعت‭ ‬السيدة‭ ‬الإبرة‭ ‬في‭ ‬ماكينة‭ ‬الخياطة‭, ‬ووضعتها‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الماكينة‭, ‬فتعجبت‭ ‬الإبرة‭ ‬مما‭ ‬فعلت‭ ‬المرأة‭, ‬فحدثت‭ ‬نفسها‭, ‬قائلة‭: ‬أين‭ ‬أنا‭...?!‬

فوجئت‭ ‬الإبرة‭ ‬بصوت‭ ‬إبرة‭ ‬شبيهة‭ ‬لها‭ ‬ولكنها‭ ‬أكبر‭ ‬منها‭ ‬بكثير‭ ‬تُحدثها‭ ‬وهي‭ ‬تضحك‭ ‬قائلة‭: ‬أنتِ‭ ‬في‭ ‬ماكينة‭ ‬الخياطة‭ ‬أيتها‭ ‬الصغيرة‭... ‬

ردت‭ ‬الإبرة‭ ‬الجديدة‭ ‬باستغراب‭ ‬بالغ‭, ‬قائلة‭: ‬وما‭ ‬ماكينة‭ ‬الخياطة‭ ‬تلك‭... ‬وماذا‭ ‬سنفعل‭ ‬بها‭...?!‬

ضحكت‭ ‬الإبرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬ها‭ ‬ها‭ ‬ها‭... ‬لا‭ ‬تخافي‭ ‬أيتها‭ ‬الصغيرة‭... ‬فكُل‭ ‬ما‭ ‬سنفعله‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ننتظر‭ ‬يد‭ ‬المرأة‭ ‬لتصل‭ ‬إلينا‭ ‬وتُدير‭ ‬الماكينة‭... ‬وأنا‭ ‬وأنت‭ ‬سنتقابل‭ ‬وندق‭ ‬وندق‭,.. ‬أنت‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬وأنا‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى‭... ‬كي‭ ‬نستكمل‭ ‬حياكة‭ ‬هذا‭ ‬الثوب‭ ‬الجميل‭.‬

وابتسمت‭ ‬الإبرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬لصديقتها‭ ‬الجديدة‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬لها‭ ‬بهمس‭: ‬لماذا‭ ‬أنتِ‭ ‬بعيدة‭ ‬عني‭ ‬هكذا‭, ‬اقتربي‭ ‬مني‭ ‬كي‭ ‬أتحقق‭ ‬من‭ ‬ملامحك‭ ‬الجميلة‭ ‬المُنمنمة‭.‬

فاقتربت‭ ‬الإبرة‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬صديقتها‭, ‬وما‭ ‬إن‭ ‬لمستها‭ ‬حتى‭ ‬صرخت‭ ‬بأقصى‭ ‬قوة‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬آه‭... ‬آه‭... ‬إن‭ ‬رأسك‭ ‬حاد‭ ‬جداً‭ ‬ومُدبب‭.‬

ردت‭ ‬عليها‭ ‬الإبرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وهي‭ ‬تضحك‭ ‬بسخرية‭: ‬إن‭ ‬نهايتك‭ ‬أيضاً‭ ‬مُدببة‭... ‬فأنا‭ ‬وأنتِ‭ ‬إبر‭... ‬وجميع‭ ‬الإبر‭ ‬نهايتها‭ ‬مُدببة‭.‬

غضبت‭ ‬الإبرة‭ ‬الجديدة‭, ‬وقالت‭ ‬بصوت‭ ‬يملؤه‭ ‬الغضب‭: ‬إنني‭ ‬لست‭ ‬كذلك‭... ‬أي‭ ‬نعم‭ ‬نهايتي‭ ‬مُدببة‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬بهذه‭ ‬القساوة‭ ‬والغِلظة‭, ‬إنك‭ ‬آذيتني‭ ‬كثيراً‭!!‬

رفعت‭ ‬الإبرة‭ ‬الطويلة‭ ‬رأسها‭ ‬عالياً‭ ‬وهي‭ ‬تفتخر‭ ‬بنفسها‭, ‬قائلة‭: ‬إن‭ ‬نهايتي‭ ‬مُدببة‭ ‬أكثر‭ ‬منك‭, ‬لأنني‭ ‬قُمت‭ ‬بخياطة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬للناس‭.‬

فكرت‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬قليلاً‭... ‬ثُم‭ ‬قالت‭: ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نهايتي‭ ‬مثل‭ ‬نهايتك‭... ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أكون‭ ‬مُتوحشة‭ ‬ومُؤلمة‭ ‬مثلك‭; ‬فإنني‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬بشعة‭ ‬وقاسية‭ ‬مثلك‭... ‬يا‭ ‬الله‭ ‬إنني‭ ‬أُفضل‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬هذا‭. ‬

غضبت‭ ‬الإبرة‭ ‬الطويلة‭ ‬وقالت‭ ‬بعنف‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬تقولينه‭ ‬أيتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬التافهة‭?! ‬فإنني‭ ‬أعظم‭ ‬اختراع‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الإنسان‭.‬

تعجبت‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬وكيف‭ ‬ذلك‭ ‬أيتها‭ ‬الطويلة‭ ‬الماكرة‭...?! ‬

ردت‭ ‬الإبرة‭ ‬الطويلة‭ ‬بسرعة‭ ‬قائلة‭: ‬أتعلمين‭ ‬أيتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬أنه‭ ‬لولاي‭ ‬ما‭ ‬لبس‭ ‬إنسان‭ ‬أي‭ ‬ثياب‭... ‬ولظل‭ ‬يلبس‭ ‬جلود‭ ‬الحيوانات‭ ‬دونما‭ ‬تنسيق‭ ‬أو‭ ‬تنظيم‭... ‬فأنا‭ ‬وأنتِ‭ ‬سبب‭ ‬تلك‭ ‬الحضارة‭ ‬التي‭ ‬يتباهى‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭... ‬فلقد‭ ‬ظلمتني‭ ‬يا‭ ‬أختاه‭; ‬ومن‭ ‬قبلي‭ ‬ظلمت‭ ‬نفسك‭ ‬بالتقليل‭ ‬من‭ ‬قيمتك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭. ‬

فكرت‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال‭... ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬كذلك‭... ‬إنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬عليَّ‭ ‬أن‭ ‬أهبط‭ ‬وأصعد‭... ‬وأظل‭ ‬أهبط‭ ‬وأصعد‭ ‬طوال‭ ‬عُمري‭.‬

غابت‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬تفكير‭ ‬عميق‭, ‬فلقد‭ ‬تخيلت‭ ‬نفسها‭ ‬وهي‭ ‬تعلو‭ ‬وتهبط‭, ‬وتعلو‭ ‬وتهبط‭ ‬حتى‭ ‬ينكسر‭ ‬سنها‭ ‬وتتطاير‭ ‬أجزاؤها‭. ‬لكن‭ ‬وبينما‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخيال‭... ‬امتدت‭ ‬يد‭ ‬السيدة‭ ‬إلى‭ ‬ماكينة‭ ‬الخياطة‭, ‬وجذبت‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬بقوة‭, ‬وما‭ ‬إن‭ ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬صاحت‭ ‬الإبرة‭: ‬لا‭...‬‭ ‬لا‭... ‬اتركيني‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أظل‭ ‬هكذا‭... ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنكسر‭ ‬وأموت‭.‬

وضاع‭ ‬صياحها‭ ‬أدراج‭ ‬الرياح‭; ‬فقد‭ ‬وضعت‭ ‬السيدة‭ ‬خيطاً‭ ‬أبيض‭ ‬يمتد‭ ‬في‭ ‬الثُقب‭ ‬الموجود‭ ‬قُرب‭ ‬رأسها‭... ‬وشغلت‭ ‬الماكينة‭... ‬وفجأة‭ ‬رأت‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬أنها‭ ‬بدأت‭ ‬تعلو‭ ‬وتهبط‭ ‬بسرعة‭ ‬عجيبة‭... ‬فراحت‭ ‬تصيح‭, ‬فزمجرت‭ ‬ومدت‭ ‬رأسها‭ ‬بقوة‭ ‬كي‭ ‬تجرح‭ ‬إصبع‭ ‬السيدة‭... ‬لكن‭ ‬السيدة‭ ‬كانت‭ ‬ماهرة‭, ‬فلم‭ ‬تستطع‭ ‬الإبرة‭ ‬أن‭ ‬تُؤذيها‭, ‬فصرخت‭ ‬بقوة‭ ‬وعنف‭: ‬النجدة‭ ‬سأموت‭... ‬سأتحطم‭... ‬سأتحطم‭... ‬النجدة‭. ‬

ومع‭ ‬شدة‭ ‬الصعود‭ ‬والهبوط‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬أن‭ ‬تُميز‭ ‬نفسها‭, ‬ودقيقة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬بدأت‭ ‬تعتاد‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬فتوقفت‭ ‬عن‭ ‬البُكاء‭ ‬والصياح‭.‬‭.. ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬وجدت‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬حاكت‭ ‬فُستاناً‭ ‬رقيقاً‭ ‬وجميلاً‭ ‬لطفلة‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الروعة‭ ‬والجمال‭, ‬فأحست‭ ‬الإبرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬مُخطئة‭... ‬فحياتها‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬إلى‭ ‬قيمة‭... ‬فبذلك‭ ‬العمل‭ ‬المُتواضع‭ ‬ساهمت‭ ‬ولو‭ ‬بمجهود‭ ‬ضئيل‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬تلك‭ ‬الحضارة‭... ‬فتمنت‭ ‬من‭ ‬داخلها‭ ‬أن‭ ‬تعمل‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭.‬