إندونيسيا.. أرض الخيال
اِشْتَرى والِدايَ بَيْتاً كَبيراً، تُحيطُ بِهِ حَديقةٌ، كُلُّها وُردٌ وزُهورٌ، وتَتَوَسَّطُها أَيْكَةٌ (شَجَرَةٌ ضَخْمَةٌ مُلْتَفَّةٌ غُصونُها) أجْلِسُ تَحْتَها في أوْقاتِ فَراغي، إمَّا لأَقْرَأَ كِتاباً، أوْ لأَلْعَبَ مَعَ أخي الصَّغيرِ. وذاتَ يَوْمٍ، خَطَرَتْ بِبالي (لاحَتْ بِذِهْني) فِكْرَةٌ غَريبةٌ، تَرَدَّدْتُ كَثيراً في إخْبارِ والِدَيَّ بِها، لأَنَّني لا أعْمَلُ شَيْئاً إلاَّ بِعِلْمِهِما. ولَمَّا طَرَحْتُ فِكْرَتي عَلَيْهِما، ضَمَّني أبي إلَيْهِ قائلاً:
ما أسْعَدَني بِذَكائِكَ!... غَداً، يَوْمُ عُطْلَةٍ، سَنَتَعاوَنُ، نَحْنُ الاِثْنَيْنِ مَعاً، على بِناءِ كوخٍ صَغيرٍ فَوْقَ الأَيْكَةِ!
لَمْ أَنَمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وبَقيتُ مُسْتَيْقِظاً طولَها، أُفَكِّرُ في شَكْلِ كوخي، بَلْ لا أُصَدِّقُ أنَّ أبي، فِعْلاً، سَيُحَقِّقُ حُلْمي!... لَكِنَّني تَأَكَّدْتُ صَباحاً، عِنْدَما أخَذَني إلى الْقَبْوِ (خَزينٍ أرْضي) وأخْرَجَ مِنْهُ ألْواحاً خَشَبِيَّةً، ومِنْشاراً ومِطْرَقَةً ومَساميرَ، مُخْتَلِفَةً أحْجامُها، وصِرْنا نَقيسُ ونَنْجُرُ ونُسَمِّرُ، اللَّوْحَةَ مَعَ الأُخْرى، كَأنَّنا في وَرْشَةِ نِجارَةٍ، حَتَّى أكْمَلْنا بِناءَ الْكوخِ. ثُمَّ نادَيْنا على جارِنا، لِيُساعِدَنا على نَقْلِهِ إلى أعْلى الأَيْكَةِ، بِواسِطةِ حِبالٍ مَتينَةٍ (قَوِيَّةٍ)!... فَكُنْتُ في الْعُطَلِ، أصْعَدُ السُّلَمَ إلى كوخي الْجَميلِ، الَّذي تُغَطِّيهِ الأغْصانُ والأوْراقُ، لأَنْعَمَ بِالْهُدوءِ والرَّاحَةِ، وأسْمَعَ تَغاريدَ الْعَصافيرِ، وأشُمَّ الْهَواءَ الْعَليلَ (الطَّيِّبَ)!... ولَنْ أنْسى ذَلِكَ الْمَساءَ، حينَ سَمِعْتُ نَقْراً على الْبابِ، فَأسْرَعْتُ لأَفْتَحَهُ، وإذا بي أَجِدُ لَقْلاقاً مُبَلَّلاً بِالْمَطَرِ،
يَرْتَعِشُ مِنَ الْبَرْدِ الْقارِسِ، فَأدْخَلْتُهُ ونَشَّفْتُهُ ودَفَّأْتُهُ بِغِطاءٍ صوفِيٍّ، ثُمَّ أحْضَرْتُ لَهُ مِنْ بَيْتِنا سَمَكاً لَذيذاً، وتَرَكْتُهُ هُناكَ!... وصَباحاً باكِراً، خَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ، فَوَجَدْتُهُ بِالْبابِ يَقْلَقُ بِصَوْتٍ خَفيضٍ، كَيْلا يوقِظَ الْجيرانِ:
- ماذا تُريدُ، يا صَديقي؟
- جِئْتُ لأَشْكُرَكَ على عِنايَتِكَ بي، قَبْلَ أنْ أنْصَرِفَ إلى إنْدونيسْيا لأَلْتَقِيَ بِأَصْدِقائي اللَّقالِيقِ!
أشْرَقَتْ فِكْرَةٌ في ذِهْني، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ تَأخُذُني مَعَكَ إلى هَذا الْبَلَدِ الْكَبيرِ؟
أجابَني فَرِحاً: بِكُلِّ سُرورٍ!... ألَمْ تُنْقِذْني مِنَ الْمَطَرِ والْبَرْدِ؟... وألَمْ تَعْتَنِ بي، حَتَّى عادَ إلَيَّ نَشاطي وصِحَّتي؟... لَكِنْ، يَنْبَغي أنْ تُخْبِرَ والِدَيْكَ بِرَغْبَتِكَ في السَّفَرِ مَعي!
- طَبْعاً، سَأُخْبِرُ أَبَوَيَّ، انْتَظِرْني قَليلاً!
عُدْتُ إلى صَديقي اللَّقْلاقِ، وأنا أكادُ أطيرُ فَرَحاً: لَقَدْ وافَقَ والِدايَ على مُرافَقَتِكَ في رِحْلَتِكَ، شَرْطَ ألاَّ أتَاخَّرَ عَنْهُما كَثيراً!
صَعِدْتُ السُّلَّمَ بِسُرْعَةٍ، ودَخَلْتُ كوخي، فَحَلَّقَ (اِرْتَفَعَ) اللَّقْلاقُ فَوْقَ الأَيْكَةِ، وأَمْسَكَ بِالْحَبْلِ، ثُمَّ طارَ بِهِ، وأنا أُطِلُّ مِنْ نافِذَتِهِ، أتَأمَّلُ (أَنْظُرُ بِدِقَّةٍ) الأرْضَ بِبُحورِها وأنْهارِها، وبِجِبالِها وسُهولِها، وبِمُدُنِها وقُراها... إلى أنْ رَأيْتُ في الْمُحيطِ الْهِنْدي بَيْنَ قارَّتَيْ آسْيا وأُسْتْرالْيا، أرْخَبيلاً مُكَوَّناً مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ ألْفاً وخَمْسِمِئَةٍ وثَمانِ جُزُرٍ، بَيْنَ كَبيرَةٍ وصَغيرَةٍ، ومَسْكونَةٍ وفارِغَةٍ (يَزيدُ عَدَدُها ويَنْقُصُ بِفِعْلِ الْمَدِّ والْجَزْرِ) فَأخْبَرَني بِأنَّنا بَلَغْنا إنْدونيسْيا الْعَجيبَةَ، الْمَعْروفَةَ بِجُزُرِها غَيْرِ الْمُتَشابِهَةِ؛ فَكُلٌّ مِنْها لَها ثَقافَتُها الْخاصَّةُ، ولُغَتُها وعاداتُها وطَعامُها. واسْمُها أُخِذَ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ: اللاَّتينِيَّةِ (إنْدوسْ) وتَعْني (الْهِنْدَ) والإغْريقِيَّةِ (نيسوسْ) وتَعْني (جَزيرَةً) فََأُشْرِكَتا مَعاً لِتُصْبِحَا (جُزُرَ أوْ أَرْخَبيلَ الْهِنْدِ)!
قُلْتُ لَهُ، وأنا أنْظُرُ إلى جُزُرِها الْبَهِيَّةِ (الْحَسَنةِ): يا لَها مِنْ شَواطِئَ جَذَّابَةٍ، تُحيطُ بِإحْدى الْجُزُرِ!
أشارَ بِرَأْسِهِ، وفَخَّمَ صَوْتَهُ (ضَخَّمَهُ) عِنْدَ نُطْقِهِ باسْمِها: إذا كُنْتَ تَعْني تِلْكَ الْجَزيرَةَ، فَهِيَ (بالي) الْمُنْتَجَعُ الْبَحْري الْعالَمي (مَكانُ الرَّاحَةِ) لِلتَّمَتُّعِ بِحَمَّاماتِ الشَّمْسِ، ومُمارَسَةِ الرِّياضَةِ الْمائِيَّةِ، كَالْغَطْسِ والسِّباحَةِ، صُحْبَةَ الْحَيَوناتِ الْبَحْرِيَّةِ، غَيْرِ الْمُؤْذِيَّةِ، مِنْها الأَطومُ (طَويلُ الْجِسْمِ بِيَدَيْنِ فَقَط) والدُّلْفينُ صَديقُ الإنْسانِ، وسَمَكَةُ الشَّيْطانِ (عَريضَةٌ الْجِسْمِ، غَيْرُ مُشَوَّكَةٍ)..اُنْظُرْ إلى «باتورْ» أكْبَرَ بُحَيْراتِها، بِمِساحَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ كيلومِتْراً مُرَبَّعاً. وهُناكَ «جيتْ جيتْ» أشْهَرُ شَلاَّلاتِها، يَمْلأُ جَداوِلَها (أنْهارَها الصَّغيرَةَ) وسَواقِيَها مِياهاً عَذْبَةً، لِيَسْقِيَ بِها حُقولَ الْبُنِّ والْقَرَنْفُلِ والْكاوْكاوْ...!
صِحْتُ بِهِ، وفي قَلْبي شَوْقٌ لأَجولَها: كَفى، صَديقي، كلاماً، وأَنْزِلْني لأَجوبَها (أطوفَها) بِرِجْلَيَّ، وأَراها بِعَيْنَيَّ!
اِبْتَسَمَ قائِلاً: حَسَناً!... لَيْسَ مَنْ سَمِعَ كَمَنْ رَأى... اهْبِطْها بِسَلامٍ!
فَتَحْتُ بابَ كوخي، وانْصَرَفْتُ مِنْهُ، فَشاهَدْتُ مَوْجَةً مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والأَطْفالِ، يَمْلأُونَ الطَّريقَ. سَأَلْتُ طِفْلاً ماراًّ: ماذا هُناكَ؟!... هَلْ تَحْتَفِلونَ بِعيدٍ أوْ مُناسَبَةٍ؟!
ضَحِكَ مِنْ سُؤالي، وأجابَني: لا لا، ياصَديقي!... كُلُّ ما في الأَمْرِ، أنَّ «بالي» تَكْثُرُ فيها الْحَدائِقُ. فَهُناكَ مَنْ يَقْصِدُ حَديقَةَ الْفَراشاتِ، لِيُشاهِدَ مِنْها أشْكالاً وألْواناً مُتَنَوِّعَةً. وهُناكَ مَنْ يَتَوَجَّهُ إلى حَديقَةِ الزَّواحِفِ، أوْ حَديقَةِ الْقُرودِ، أوْ حَديقَةِ الْفِيَلَةِ، الأَكْبَرِ في الْعالَمِ كُلِّهِ، أوْ إلى حَديقَةِ النَّباتاتِ، الَّتي يوجَدُ بِها أكْثَرُ مِنْ ثَلاثَةِ آلافِ نَوْعٍ!
شَكَرْتُ الطِّفْلَ، ثُمَّ تابَعْتُ طَريقي، فَقابَلَني سوقٌ كَبيرٌ. دَخَلْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ غاصاًّ (مَليئاً) بِالْباعَةِ والْمُتَبَضِّعينَ مِنْ كُلِّ أنْحاءِ الْعالَمِ. وفي دَكاكينِهِ تُعْرَضُ تِذْكاراتٌ ذَهَبِيَّةٌ وفِضِّيَّةٌ ونُحاسِيَّةٌ وخَشَبِيَّةٌ، وتَماثيلُ حَيَواناتٍ، ومَنْسوجاتٌ تَقْليدِيَّةٌ، تَتَمَيَّزُ بِزَخاريفِها الْبَديعَةِ (بِزيناتِها الْحَسَنَةِ) فَاشْتَرَيْتُ مِنْها تُحَفاً لِكوخي، وهَدايا لأَبي وأُمِّي وأُخْتي.
تَرَكْتُ «بالي»، فَحَمَلَني اللَّقْلاقُ إلى «باقورْ» الَّتي يُطْلِقونَ عَلَيْها (مَدينَةَ الْمَطَرِ) وفيها تَجِدُ نَفْسَكَ في عالَمٍ خَيالِيٍّ، لَمْ تَحْلُمْ بِهِ في حَياتِكَ، فَهِيَ توجَدُ في سَفْحِ جَبَلٍ (أَسْفَلِهِ) تُحيطُ بِها بَساتينُ وأراضٍ خِصْبَةٌ (نَباتُها كَثيرٌ) وشَلاَّلاتٌ، تَتَدَفَّقُ مِياهاً صافِيَةً، وغاباتُ حَيَواناتٍ قَليلَةِ الْوُجودِ، وتَتَوَسَّطُها مَنازِلُ ومَدارِسُ. ويَكْفي أنَّ مِساحَةَ حَديقَتِها تَبْلُغُ سَبْعَةً وثَمانينَ هِكْتاراً، تُزَيِّنُها أشْجارٌ عالِيَةٌ، ومَتْحَفُ كَبيرٌ لِنَباتاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْها (رافيليسيا) أكْبَرُ زَهْرَةٍ في الْعالَمِ، والتَّوابِلُ، والأَخْشابُ الْعِطْرِيَّةُ. ولِكَيْ نُشاهِدَ الْحَيَواناتِ الْغَريبةَ، سَواءً الْبَرِّيَّةَ مِنْها أوِ الْبَحْرِيَّةَ، سِرْنا إلى حَديقةِ «سفاري» فَوَجَدْنا وَحيدَ الْقَرْنِ، ذا الْجُثَّةِ الضَّخْمَةِ، والْفيلَ والدُّبَّ، وسَحْلِيَّةَ «كومودو» التِّنِّينِيَّةَ الْعِمْلاقَةَ، والطُّيورَ الْمُتَأَنِّقَةَ (الْمُزَيَّنَةَ) بِريشِها الْمُلَوَّنِ، كَطُيورِ الْجَنَّةِ. وفيها أَجْنِحَةٌ للألْعابِ الْبَهْلَوانِيَّةِ، وأُخْرى مُسَلِِّيَّةٌ لِلْمُغامَراتِ، كالسَّيَّاراتِ الْمُتَدافِعَةِ، والْحافِلاتِ الْمُعَلَّقةِ. ثُمَّ طارَ بي إلى (جاكارْتا) عاصِمَةِ إنْدونيسْيا فَوَجَدْتُها مُكْتَظَّةً بِالسُّكَّانِ، مُزْدَحِمَةً بِوَسائلِ النَّقْلِ. فَعَدَدُ سُكَّانِها يَبْلُغُ تِسْعَةَ مَلايِينَ لَيْلاً، أحَدَ عَشَرَ مِلْيوناً نَهاراً، لأَنَّ الْعُمَّالَ يَأْتونَها مِنَ الْقُرى الْقَريبَةِ لِيَشْتَغِلوا فيها. وهِيَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْمُتَناقِضاتِ، فَهُناكَ الْمَباني التَّاريـخِيَّةُ والْعَصْرِيَّةُ، والْعِماراتُ الْعِمْلاقَةُ والدُّورُ الصَّفيحِيَّةُ، والأَحْياءُ الصَّاخِبَةُ والْهادِئةُ. وبِها مَتاحِفُ كَمَتْحَفِ الدُّمى، وأسْواقٌ لِصِناعَتِها الشَّعْبِيَّةِ، وحَدائِقُ، كَـ«حَديقَةِ الْفانْتازْيا» أوْ«حَديقَةِ الْخَيالِ» تَعْرِضُ عَوالِمَ التِّكْنولوجِيَّةِ الْحَديثَةِ. فَالدُّمى تَتَّخِذُ أشْكالَ حَيَواناتٍ، لِتَتَحَرَّكَ وتَتَكَلَّمَ كَأَنَّها حَقيقِيَّةٌ، وتُحَدِّثُني عَنْ نَفْسِها. واسْمُ جاكارْتا يَعْني (الْمَدينَةَ الْمُنْتَصِرَةَ) عِنْدَما هَزَمَ الْقائِدُ والْعالِمُ الْمُسْلِمُ (سُونانُ جُونُوجِيتا) الْبُرْتُغالِيِّينَ، وطَرَدَهُمْ مِنْها.
واللُّغَةُ الإنْدونيسِيَّةُ (باهاسا) سَهْلَةٌ، يُمْكِنُني أنْ أتَعَلَّمَها بِسُرْعَةٍ، لأنَّ كَثيراً مِنْ كَلِماتِها بَسيطةٌ في النُّطْقِ، وتََتَكَرَّرُ، مِثْلَ: نَعَمْ. فإذا قُلْتُ: سَأُسافِرُ، يَرُدُّ الآخَرُ: نَعَمْ. أوْ وَداعاً، يُجيبُني: نَعَمْ. أوْ سَأتَّصِلُ بِكَ هاتِفِياًّ، يَقولُ: نَعَمْ، وهَكَذا... لَكِنَّ باهاسا لَيْسَتِ اللُّغَةَ الْوَحيدَةَ في أَنْدونيسْيا، فَهُناكَ أكْثَرُ مِنْ ثَلاثِمِئَةِ لُغَةٍ، عَدا اللَّهَجاتِ. ومِنْ أَهَمِّ وَسائِلِ النَّقْلِ، تَجِدُ الدَّرَّاجَةَ النَّارِيَّةَ، فَهِيَ أسْرَعُ مِنَ السَّيَّارَةِ، طولُها مِئَةٌ وخَمْسَةَ عَشَرَ سَنْتِيمِتْراً، تَرْكَبُها الأُسْرَةُ كامِلَةً، أعْني الْوالِدَيْنِ وأبْناءَهُما الثَّلاثَةَ، وهُمْ في غايَةِ السُّرورِ والطُّمَأْنينَةِ. وأحْياناً، تَرى الدَّرَّاجَةَ حامِلَةً جَبَلاً مِنَ الْبِرْسيمِ (الْعَلَفِ) ولا تَرى رَأْسَ سائِقِها إلاَّ إذا أمْعَنْتَ النَّظَرَ (أطَالْتَهُ) في مُقَدِّمَتِها. أمَّا إذا أرَدْتَ أنْ تَدْخُلَ دُكَّاناً أوْ بَيْتاً، فَعَلَيْكَ أنْ تَنْتَبِهَ إلى الْبابِ، فَقَدْ يَشْتَرِطُ صاحِبُهُ أنْ تَخْلَعَ حِذاءَكَ (تُزيلَهُ) قَبْلَ الدُّخولِ، وتَتْرُكَهُ بِالْعَتَبَةِ الْخارِجِيَّةِ، كَيْ يَظَلَّ الْمَكانُ نَظيفاً مِمَّا يَعْلَقُ بِالأَحْذِيةِ مِنْ وَسَخٍ وغُبارٍ، وما تَنْشُرُ مِنْ رَوائِحَ، فَهِيَ مِنَ الْمَطَّاطِ (مَوادُّ مِنَ الشَّجَرِ أوِ النَّفْطِ) تَحْفَظُ الأَرْجُلَ مِنَ الْمَطَرِ والْوَحَلِ... غَيْرَ أنَّ ما أَعْجَبَني أكْثَرَ، هُوَ الاِبْتِسامَةُ الَّتي تَرْتَسِمُ على وُجُوهِ الإنْدُونيسِيِّينَ، فَقَلَّما تَرى وَجْهاً عابِساً أوْ غاضِباً، رَغْمَ فَقْرِهِمْ، لأنَّ أرْضَهُمْ خَضْراءُ، تَفْتَحُ قَلْبَكَ، وتَسُرُّ نَفْسَكَ، وتَشْرَحُ صَدْرَكَ (تَبْسُطُهُ) ولِنَفْتَرِضْ أَنَّكَ ابْتَسَمْتَ، مصادفة، في وَجْهِ أَحَدٍ، رَجُلٍ أوِ امْرَأَةٍ، فَإنَّهُ يَرُدُّ الاِبْتِسامَةَ حيناً، ولَوْ لَمْ تَكونا قَريبَيْنِ أوْ صَديقَيْنِ. وهُمْ لا يُفْرِطونَ في الأَكْلِ (لا يُكْثِرونَ مِنْهُ) ويَكْتَفونَ بِما يَسُدُّ جوعَهُمْ، كَيْلا يُصابوا بِأَمْراضِ السُّمْنَةِ، ولأَنَّ «الْبِطْنَةَ تُذْهِبُ الْفِطْنَةَ» (الْيَقَظَةَ والنَّباهَةَ). كما أنَّ الإنْدُونيسِيِّينَ كُرَماءُ، تَمْلأُ قُلوبَهُمُ الْمَحَبَّةُ، إنْ رَأَوْا أوْ سَمِعوا بِقَريبٍ أوْ صَديقٍ أوْ جارٍ مَريضٍ، يُعودونَهُ (يَزورونَهُ) ويُخَفِّفونَ عَنْهُ، ويُساعِدونَهُ بِكُلِّ ما لَدَيْهِمْ. ويَكْفي أنْ أقولَ لَكُمْ إِنَّني كُنْتُ في كوخي مُحَلِّقاً (في الْعُلُوِّ) فَشاهَدْتُ عَجَلَةَ شاحِنَةٍ تَتَفَرْقَعُ (تَنْفَجِرُ) فَتَوَقَّفَتْ جانِباً، وتَوَقَّفَتْ مَعَها صُفوفٌ مِنَ السَّيَّاراتِ والْحافِلاتِ، وتَرَجَّلَ سائِقوها (نَزَلوا على أرْجُلِهِمْ) حَتَّى تَكَوَّنَ مِنْهُمْ حَشْدٌ كَبيرٌ (جَماعَةٌ) وكُلُّهُمْ يُريدونَ أنْ يُساعِدوا سائِقَ الْحافِلَةِ على تَغْييرِ الْعَجَلَةِ!
يا لَهُ مِنْ بَلَدٍ جَميلٍ!... كُلُّ ما فيهِ يَسُرُّ الْعَيْنَ والسَّمْعَ والْقَلْبَ؛ شَعْبُهُ وأَرْضُهُ ونَباتُهُ وحَيَوانُهُ!... لَقَدْ كُنْتُ أَوَدُّ (أُحِبُّ) أنْ أُطيلَ بَقائي فيهِ، لَكِنَّني خَشيتُ (خِفْتُ) أنْ يَقْلَقَ عَلَيَّ والِدايَ، فَسَلَّمَ صَديقي الطَّائرُ كوخي إلى لَقْلاقٍ آخَرَ، لِيُعيدَني إلى وَطَني، بينما بَقِيَ هُوَ هُناكَ مَعَ أقارِبِهِ وأصْدِقائهِ...!
رسوم: ماهر عبدالقادر