جَدَتِي تُغنِّي للنَبَاتِ
عِنْدَمَا كَبُرْنا، لَمْ تَعُدْ جَدتِي لأمي تَجِدُ في بيْتِنا مَن تسْهرُ على تَربِيتِه وتَحْقِيقِ طلبَاتِه، فانْتقلَتْ إِلى تَرْبيَةِ نَبتَةِ زِينَةٍ اسْمُها «التِينُ المَطَاطِيِ»، اِخْتارَتْ لَها العَيْشَ فِي وِعاءٍ فَخَارِيٍ ورْدِيٍ مُزوَدٍ بِطبَقٍ لِتجْمِيعِ الْمَاءِ الْفائِضِ عِنْدَ السَقْي، وَضَعَتْهُ فِي شُرْفَةِ بَيْتِنا، فِي الطابِقِ الثانِي، بَعِيدًا عَنِ الْعُيونِ.
تذْكُرُ جَدَتي لِهذِه النَبْتَةِ عِدَةَ فَوائِدَ؛ مِنْها أَنَها طارِدةٌ لِحَشَرَةِ النَامُوس، وَأنَ مَنْظرَها يَغْمُرُ الشُرْفةَ والنَفْسَ بِالبَهْجَةِ والسُرُورِ. عِنْدَما تَتأمَلُ النبْتَةَ، تَجِدُ لَها أوْرَاقًا بِحَجْمِ الْكَفِ، ناعِمةَ الْمَلْمَس، سَمِيكةً كأنَها خُلِقتْ مِنْ جِلدٍ أوْ مَطَاطٍ أَخْضرَ لاَمِعٍ، وتَرَى أَحْيانًا، فِي رَأْسِها قُنَابَةً حَمْرَاءَ مِثَلَ قَرْنِ الفُلْفُل. كَانَتْ جَدَتِي تُعامِلُها مِثْل الصَغِيرِ، وفِي مُعْظَمِ الْأَحْيان، كانَتْ تَتَصرَفُ فِي أُمُورِها تَصرُفاتٍ عَجِيبةً نَسْتَحْسِنُها. حِينَ نَرَاها تَمْسَحُ أَوْراقَها اللاَمِعةَ بِإِسْفَنْجَةٍ مُبلَلَةٍ بِالْحَلِيبِ لِتخْليصِها مِن الْغُبارِ الْعَالِقِ بِها، نُمَازِحُهَا قَائِلِين: جَدَتِي تُغذِي نَبْتَتَها بِالْحَلِيب، ولَمْ يَبْقَ لَها سِوَى أَنْ تَضَعَ لَها حَفاظَةً لاَصِقَةً.
وَعِنْدَما نَرَاها تُمْسِكُ مِقَصًا تُقَلِّمُ بِهِ الْأَعْوَادَ الْمَيِتَةَ، نَقُولُ: جَاءَ الْبُسْتانِيُ.
ولَمَا رَأيْنَاهَا مَرَةً، تُجْبِرُ كَسْرَ أَحَدِ الْأَغْصَانِ بِوَضْعِ قَشةٍ حَوْلَ الْعُودِ الْمُصابِ وَشَدِهِ بِشَرِيطٍ أخْضَرَ لاَصِقٍ، قُلْنا: هَا هُوَ طَبِيبُ جِرَاحَةِ الْعِظَامِ.
وَمَرِةً، رَأيْناهَا تَرُشُ تُرْبَةَ النَبْتَةِ بِخَلِيطٍ مِنْ مَسْحُوقِ قُشُورِ الْبَيْضِ وَالسُكَرِ لِتغْذِيَتِها، فَقُلْنَا: فِي الْمرَةِ الْقادِمَة، سَتُطْعِمُها لَحْمَ الدَجَاجِ.
وَمَرَةً ، رَأَيْنَاها تُغَلِي مَاءً بِهِ أَعْقابُ سَجَائِرَ، ثُم تُصَفِيهِ مِنَ التِبْغِ لِتَرْوِي بِه، لاَحِقًا، النَبْتَةَ، ظَنًا مِنْهَا أنَها تَحْمِيها مِنَ الْإِصابَةِ بِالْحَشرَاتِ، فقُلْنا وَنَحْنُ نَسُدُ أُنُوفَنَا بِأيْدِينَا: السَجائِرُ خَطرٌ عَلَى الصِحَةِ. سَتُصْبِحُ النَبْتَةُ مُدْمِنَةً عَلى التَدْخِين.ِ
وَمَرَةً، رَأيْناها تَسْحَبُ مِنْ تُرْبَةِ النَبْتَةِ شَرِيحَةَ بَطَاطَا نَيِئةً قَدِ الْتَصَقَتْ بِها كُتْلَةٌ من الحَشَراتِ، فَقُلْنا: صَارَتِ النَبْتةُ تَبِيضُ بَطَاطَا!
وَمَرَةً، سَكَبَتْ عَلى التُرْبَةِ بَقايَا شَايٍ أوْ قَهْوَةٍ، فَقُلْنا: بعْدَ التَدْخِينَ، هَا هِيَ تُعَوِّدُها شُرْبَ الشَايِ وَالْقَهْوَةِ. أَفْسَدَتْ جَدتِي طَبْعَ هذِه النَبْتَةِ الْمِسْكِينَة.
كَانَتْ جَدَتِي، فِي كُلِ تِلْكَ الْمَرَاتِ، تَبْتَسِمُ فِي وُجُوهِنا بِتَسَامُحٍ ومَوَدَةٍ، قَائِلَةً: إِنِي أَعْمَلُ بِنَصَائِحِ بَائِعِ الْمَشَاتِلِ.
وِبِمُرُورِ الشُهُورِ، اِزْدادَتْ نَبْتَةُ «التِينِ الْمَطَاطِيِ» نُمُوًا وَنَضَارَةً، وفِي الأَثْنَاءِ، ازْدَادَتْ جَدَتِي تَعَلُقًا بِهَا فَصارَتْ تُحَادِثُهَا، وتَبُوحُ لَها بِأَسْرَارِ قَلْبِها الْكَبِيرِ وعَواطِفِه، وَكَمْ سَمِعْنَاهَا تُغَنِي لَهَا. تَفْعَلُ جَدتِي ذلِك وَهِي تُلمعُ أَوْرَاقَ النَبْتَةِ بِالْحَلِيبِ، أَوْ تُقلِبُ تُرْبَتَها بِنَصْلِ سِكِينٍ، أَوْ تُخَلصُهَا مِنْ وَرَقَةٍ صَفْرَاءَ يابِسَةٍ، أَوْ ترَبِتُ بِكَفَيْها الْحَنُونَيْنِ عَلى أوْرَاقِهَا الْكَبِيرَةِ الْبَرَاقَةِ، فَتَسْتَكِينُ النَبْتَة مِثْلَ رَضِيعٍ يَسْتَعْذِبُ لَمَسَاتِ أُمِهِ الْحَنُونِ.
وذَاتَ يَوْمٍ، تَفطَنَتْ جَارَتُنا لِوُجُودِ نَبْتَة التِينِ الْمَطَاطِيِ بِشُرْفَتِنَا، فَصَارَتْ، لاَحِقًا، تَغْبِطُ جَدَتِي عَلَى رَوْعَةِ نَبْتَتِها، وتُزْعِجُهَا بِأَسْئِلتِها الْجَارِحَةِ، سَمِعْنَاها، فِي آخِرِ زِيَارَةٍ لبَيْتِنا، تَسْألُ جَدَتِي بِنَبْرَةٍ حَاقِدَةٍ: لِمَاذا لَمْ يُحالِفُنِي الْحظُ مِثْلَما حَالفَكِ فِي إِنْماءِ هذِه التِينَةِ الْمَطَاطِية؟
- تِينتُكِ مَاتَتْ لِأَنَها لَمْ تَشْعُرْ بِمَحَبَتِك لَها وأُمُومَتِك. مَاتَتْ مِنْ جَرَاءِ قَسْوَتِكِ. إِنَهَا مِثْل الْبَشَرِ لَها رُوحٌ وعَاطِفةٌ جَيَاشَةٌ وهُمُومٌ وحِكايَاتٌ. اسْتمِعِي لَها. اِحْكِي لَها حِكايَةً. غَنِي لَها أُغْنِيَةً.
- دَعِينِي مِنْ هَذا التَخْرِيفِ. مَاذَا بَقِيَ لَكِ مِنَ الْعُمْرِ حَتَى تُضَيِعِيهِ مِنْ أَجْلِ نَبْتَةٍ مَطَاطِيَةٍ؟
يَوْمَها، لَمْ تُجِبِ الْجَدَةُ الْجَارَةَ، بَلْ رَاحَتْ، بَعْدَ انْصِرافِها، تُغَنِي لِنَبْتتِها بِصَوْتٍ مُتَهَدِجٍ غِناَءً حَزِينًا أبْكَى أُمِي بُكَاءً مُرًا. عِنْدمَا مَاتَتْ جَدَتِي، بَعْدَ أيَامٍ مِنْ تِلْك الْأُغْنِيَة، ذَبَلَتْ النَبْتَةُ، وبَدَأَتْ تَظْهَرُ عَلى أَطْرَافِ أَوْرَاقِها بُقَعٌ مِثْلَ الْحُرُوقِ، كَمَا بَدأَتْ، لاَحِقًا، تَتَسَاقَطُ حَتَى صَارَتِ النَبْتَةُ عُودًا عَارِيًا.
بَكَتْ أُمِي لِحَالِ النَبْتَةِ، وَرَأَتْ أنَها سَوْفَ تَمُوتُ حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ مُرَبِيتِهَا الْأُولَى.
عُدْنَا، يَوْما، مِن الْعَمَلِ، فلَمْ نَجِدْ نَبْتَةَ التِينِ الْمَطَاطِيِ فِي الشُرْفَةِ، فَتفَرَقْنا حُزْنًا، وَقَدْ ظَنَنَا أَن أُمِي قَدْ وَضَعَتْها فِي القُمَامَةِ بعْدَ موْتِها، لَكِنَنا حِينَ زُرْنا قَبْرَ جَدَتِي بَعْدَ أُسْبُوعَيْنِ مِن ذَلِكَ، فوجئنا بِوُجُودِ نَبْتَةِ التِينِ الْمَطَاطِيِ مَغْرُوسَةً بِجانِبِ قَبْرِ مُرَبِيتِهَا، وقَدْ عَادَتْ إِليْها أوْرَاقُها، ورَأيْنَا بَعْدَ أيامٍ كَيْفَ بَدَا عُودُهاَ فِي الْانْحِنَاءِ عَلَى رَأْسِ القَبْرِ انْحِناءَ أُمٍّ عَلَى صَغِيرِهَا تُرْضِعُهُ، وتُناغِيهِ، وتَحْمِيهِ مِنْ حَرَارَةِ الشَمِسِ.
وعِنْدَما صَارَتِ النَبْتَةُ شَجَرَةً، رَأيْنَا كيْفَ امْتَدَتْ أغْصَانُها مِثْلَ شَمْسِيَةٍ تُظَلِلُ قَبْرَ جَدتِي، وَتُؤْنِسُ وَحْدَتَهُ. وعَلَى عُهْدَةِ حَارِسِ الْمَقْبَرَةِ أنَهُ سَمِع أكْثَرَ مِنْ مَرَةٍ صَوْتَ غِنَاءٍ يَخْرُجُ مِن الْقَبْرِ، وَرَأَى كَأَنَ الشَجَرَةَ تَرْقُصُ، وتَتَمَايَلُ طَرَبًا لِلْغِناءِ.
رسم: حلمي التوني