«صرامة النمل»
سمعني جدي ذات ليلة أقرأ موضوعاً شائقاً من مواضيع مجلة «العربي الصغير» عنوانه: «من عجائب النمل»، فقال: حقاً يا بني إنه لمن المخلوقات العجيبة، وراح يروي لي القصة الآتية:
منذ أكثر من نصف قرن، كنت جالساً إلى جذع شجرة كبيرة في أحد المروج الخصبة أرعى قطيعاً من الغنم، كان الجو ربيعياً جميلاً، حيث خرجت الطيور وحلّقت في الأجواء مغردة، فاختلطت أصواتها الجميلة بخرير مياه الجداول وثغاء الخرفان الصغيرة مشكِّلة سيمفونية بديعة الأنغام، فجأة وقع نظري على بيت من بيوت النمل، مدخله كفوهة بركان خامد، وقد انطلقت منه أعداد كبيرة مشكّلة طابوراً أسود طويلاً لم تحد عنه سوى نملة واحدة كانت تسير بعيدة عنه بعدة خطوات في حركة مضطربة وكأنها تبحث عن شيء ثمين ضاع منها، فأخرجت من جيبي حبات تمر وقسمت كل واحدة منها إلى شقين ووضعتها في الأرض بالقرب منها دون أن أزعجها، وما هي إلا لحظات حتى اكتشفت النملة الوليمة فدارت حولها وفحصتها جيداً ثم عادت مسرعة نحو بيتها وبعد هنيهة رأيتها قادمة ومعها خمس أو ست نملات، فرفعت قطع التمر وأخفيتها ولم أترك لها أثراً، وعندما وصلت النملات أخذت تبحث في كل الجهات ولما لم تجد شيئاً مما أخبرتها اجتمعت حولها وأخذت كل واحدة منها تحرِّك أرجلها بشكل لافت للانتباه، وكأنها تعاتبها وتوبخها، بعدها عاد الجميع إلى المملكة، ولكن بعد لحظات رأيت النملة قادمة من جديد بمفردها، فأرجعت قطع التمر إلى مكانها الأول وابتعدت قليلاً، وما إن وصلت وتأكدت من وجود التمر حتى عادت مسرعة وأحضرت النملات ثانية، وقبل وصولها إلى المكان نفسه رفعت قطع التمر ثانية، وحين وصلت النملات ولم تجد شيئاً أخذت تلاحق صديقتها بسرعة كبيرة إلى أن أدركتها فأحاطت بها وعنفتها تعنيفاً شديداً، بالكاد نجت منه، ثم عاد الجميع، أما أنا فقد بقيت في مكاني ولم أكد أصدّق عيني عندما شاهدت النملة قادمة للمرة الثالثة، حيث فعلت بها ما فعلته في المرتين السابقتين، وكذلك الحال بالنسبة لها مع صديقاتها، مما أثار غضب النملات إلى درجة جعلتها تقتلها ثم تقطعها إلى عدة قطع، حملت كل واحدة منها قطعة بين فكيها وعادت إلى المملكة، الواحدة تلو الأخرى.