رِحلة إِلى الجهازِ الهضمي

بَيْنَمَا تَتَنَاوَلُ بَهِيَّة وَجْبَةَ الغَداءِ، وَترمِي بِاللُّقَيْمَاتِ دَاخِلَ فَمِهَا تَبَادَرَ إلى ذِهْنِهَا سُؤَالٌ فَقَالَتْ: يَا تُرَى هَذِهِ اللُّقَيْمَات التي أَضَعُهَا فِي فَمِي مَا مَصِيرُهَا؟
وَبَيْنَمَا هِيَ تُجَهِّزُ لقْمَةً أُخْرَى لتَضَعَهَا فِي فَمِهَا، قَالَتْ لَهَا لُقْمَتُهَا: إِذَا أَردْتِ مَعْرِفَةَ المسَار الذي أَذْهَبُ فِيهِ، فأَغْمِضِي عَيْنَيْكِ وَاتبعِينِي فِي رِحْلَةٍ دَاخِلَ جِهَازِكِ الهضْمِيِّ.
أَغْمَضَت بَهِيَّةُ عَيْنَيْهَا، وَمَا إِنْ وَضَعَت اللُّقْمَةَ فِي فَمِهَا، حَتى رَأَتْها بُلِّلَت بِاللعَابِ، وَالأَضــْراسُ وَالأَسْنَانُ تُمَزِّقُهَا إِلَى فُتَات صَغِيرَةٍ فَقَالَت لَهَا لُقْمَتُهَا: هَذِهِ هِيَ المرْحَلَةُ الأُولَى مِنْ مَراحِلِ الهَضْمِ، فَعِنْدَمَا تَشْرَعُ الأَسْنَانُ والأَضْرَاسُ فِي تَفْتِيتِ الطَّعَامِ، تَقُومُ غُدَّةٌ تَحْتَ اللسَانِ، وَغُدَّةٌ تَحْتَ الفَكينِ الأَيْمَنِ وَالأَيْسَرِ، وَغُدَّةٌ تَحْتَ الأُذُنِ، بِصُنْعِ اللُّعَاب الذي يُرَطِّبُ الفَمَ، وَيُلَيِّنُ اللقْمَةَ لتَسْهِيلِ مَضْغِهَا بِمُسَاعَدَةِ اللسَانِ وَبَلعِهَا، كَمَا أَنَّ اللعَابَ يُعْتَبَرُ مُضَاداً حَيَوِيًّا بَسِيطاً مُنَظِّفاً لبَعْضِ الأَطعِمَةِ.
وَفَجْأَةً غَابَتِ اللُّقْمَةُ فَبَدَأَت بَهِيَّةُ تُنَادِي: صَدِيقَتِي اللقْمَةُ، أَيْنَ غِبْتِ؟
فَسَمِعتِ اللقْمَةُ بَعْدَ أَنْ تَحَوَّلَت إِلَى جُزَيْئَاتٍ صَغِيرةٍ تَقُولُ لَهَا: أَنَا الآنَ فِي بَوَّابَةِ البُلْعُومِ، هَيَّا التَحِقِي بِي بِسُرْعَةٍ!.
تَوَغَّلتْ بَهِيَّةُ دَاخِلَ فَمِهَا، فَرَأَتِ البُلعُومَ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَجْوِيفٍ عَضَلِيٍّ يَرْبِطُ الفَمَ بِأُنْبُوبٍ عَضَلِيٍّ طَوِيلٍ، ثُمَّ وَقَفَت بِجَانِبِ لُقْمَتِهَا المفَتَّتَةِ فَقَالَتْ لَهَا: هَيَّا اقْتَرِبِي أَكْثَرَ لاَ تَخَافِي!.
اقْتَربَتْ بَهِيَّةُ فَأَطَلَّت مِنْ حَافَّةِ تَجْويفِ البُلعُومِ لِلْأَسْفَلِ، فَقَالَت مُنْبَهِرَةً: سُبْحَانَ اللهِ! مَا هَذَا التَّركِيبُ العَجِيبُ وَالدَّقِيقُ، إنَّهُ أَشْبَهُ بِطَاحُونَةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ؟!.
ضَحِكَتِ اللقْمَةُ وَقَالَت لَهَا: نَعَمْ، فَبَعْدَ اجْتِيَازِي للبُلْعُـومِ، سَأَنْزَلِـــــــــقُ دَاخِلَ الأُنْبُوبِ العَضَلِيِّ الذي يَلِي البُلْعُومَ وَهُوَ يُدْعَى المريء، وَبعْدَهَا سَأَقَعُ وَسطَ ذَلِكَ الكِيسِ الخَشِنِ المَلْمَسِ الذي تَرَيْنَهُ هُنَاكَ مِنْ بَعِيدٍ يَقَعُ فِي آخِرِ المريء، يُدْعَى المعِدَةَ.
واسْتَرْسَلَت اللقْمَــةُ مُخَاطِبَةً بَهِيَّة: والآنَ يَا صَدِيقَتِي، هَيَّا تَمَسَّكِي بِهَذِهِ الفَتْفُوتَةِ الكَبِيرَةِ لنَنْزَلِقَ معا دَاخِلَ المرِيء.
تَمَسَّكَت بَهِيَّة بِالفَتْفُوتَةِ، فَانْزَلَقَ الكُلُّ دَاخِلَ الأُنْبُوبِ فَلاحَظت بَهِيَّة أَنَّ الأُنْبُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوائِرَ عَضَلِيَّةٍ، وَفَجْأَةً تَوَقَّفَت الفَتْفُوتَةُ، فَقَالَتْ لَهَا لُقْمَتُهَا: وَالآنَ نَحْنُ عَلَى شَفَا فَوْهَةِ المعِدَةِ، وَبِمُجَرَّدِ دُخُولي، سَيَبْدَأُ الكِيسُ أُوتُومَاتِيكِيًّا بِعَمَلِيَّةِ هَضْمِ هَذِهِ الفُتَيْتَاتِ جُزْئِياً، وَتَحوِيلِهَا إلى عُصَارَةٍ مَعِدِيَّةٍ، تَحْتَوِي عَلَى أَنْزِيماتٍ تَعْمَلُ عَلَى هَضْمِ البرُوتِينَاتِ.
وَفَجْأَةً سَأَلَت بَهِيَّة اللقْمَةَ: وَلَكِنْ يَا صَدِيقَتِي، انْظُرِي هُنَاكَ أَسْفَلَ المعِدَةِ، هُنَالِكَ أُنْبُوبٌ طَويلٌ مُلْتَفٌّ لَفَّاتٍ عِدَّةَ، وَيُحِيطُ بِهِ أُنْبُوبٌ مَقْلُوبٌ آخَرَ أَكْثَرَ مِنْهُ سُمْكاً وَمَطْوِيٌّ طَيَّاتٍ عِدَّةَ يشبه الحرف اللاتيني «u»، يَا لَهَذَا الصُّنْعِ الغَرِيبِ وَالعَجِيبِ!.
ضَحِكَتِ اللقْمَةُ وَقَالَت: ذَلِكَ الأُنْبُوبُ الدَّقِيقُ الملْفُوفُ، يُدْعَى الأَمْعَاءُ الدَّقِيقَةُ وَجُدْرَانُهَا الدَّاخِلِيَّة مُرْتَبِطَةٌ بِعُرُوقِ الدَّمِ، فَدَاخِلَ هَاتِهِ الأَمْعَاءِ تَقْذِفُ المعِدَةُ العُصَارَةَ المعِدِيةَ ليَتِمَّ هَضْمُهَا نِهَائِياً وَحمْلُهَا للدَّمِ، عَبْرَ جُدْرَانِها التي تَمْتَصُّ الطَّعَامَ المهْضُومَ، فَتَصِل لِكَامِلِ الجِسْمِ لتُزَوِّدَهُ بالطَّاقَةِ التي يَحْتَاجُ إليها ليَبْقَى سَلِيماً.
وأكملت: أَمَّا الأمْعَاءُ الغَلِيظَةُ المحِيطَةُ بِالأَمْعَاءِ الدَّقِيقَةِ، فَطُولُهَا يُقَارِبُ 150 سَنْتِيمِتْراً، وَسُمْكُهَا يُنَاهِزُ 6 سَنْتِيمِتْرات، وَتَتَكَوَّنُ مِنَ المصْرَانِ الأَعْوَرِ، ثُمَّ القولُونُ الصَّاعِدِ، وَبعْدَهُ القولُونُ المسْتَعْرَضُ، وَالقولُونُ المسْتَقِيمُ الذي يَنْتَهِي بِفَتْحَةِ الشَّرَجِ، وَوَظيفَتُها طَرْدُ الفَضَلاتِ والأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ خَارِجَ الجِسْمِ.
رَدَّتْ بَهِيَّة: يَا لَهُ مِنْ مَصنَعٍ للأَغْذِيةِ وَهَبَهُ اللهُ لَنَا!
فَرَدَّتْ عَليْهَا اللقْمَةُ: لذَلِكَ يَجِبُ الحِفَاظُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، بِأَنْ نَمْضُغَ الأَطْعِمَةَ جَيِّداً قَبْلَ بَلْعِهَا، وَنَتَنَاوَلَ الأَطْعِمَةَ الطَّازِجَةَ، وَالمغْسُولَة بِعِنَايَةٍ، وَنَبْتَعِدَ عَنِ الأَطْعِمَةِ الصُّلْبَةِ جِداً، لأَنَّ الجِهَازَ لاَ يَسْتَطِيعُ هَضْمَهَا.
رسوم: عبدالله الدرقاوي