إرهاصاتُ الخيال العلمي

تفتقرُ قصصُ الخيال العلمي، كفرع من الأدب، إلى تعريف يُجمعُ عليه الدارسون والمتحمسون له؛ كما أن نشأته لا تزال مثارَ جدلٍ، حتى إن البعض يعودُ بها إلى الملحمة السومرية المشهورة (جلجامش)، التي وُضعتْ في الفترة بين عامي 2150 و2000 ق. م، ويرى البعض فيها نصَّ خيالٍ علمي بدائيًا؛ بينما يذهبُ نفرٌ آخرون إلى أن بداية الخيال العلمي كانت أواخر العصور الوسطى؛ ويرى فريقٌ ثالثٌ أن أدبَ الخيال العلمي لم يكن لينشأ إلا مصاحبًا للانقلاب العلمي الذي مهدت له اكتشافات جاليليو ونيوتن في مجالات الفلك والفيزياء والرياضيات.

 

   إذا تحرينا شيئًا من التدقيق، فعلينا أن نعترف بأن عملًا تاريخيًّا، كملحمة جلجامش، يتوارى عند تفحُّص ملامح قصص الخيال العلمي به، إذ إنه لا يزيد عن كونه تصويرًا لمشهد كارثي لفيضان، ولا أثر فيه لعلم ولا لتكنولوجيا، وربما كان أفضل تصنيف له - ككثير على شاكلته - هو الأدب الخيالي، على العكس من أعمال يونانية قديمة جاءت ببعض عناصر الخيال العلمي، منها «تاريخ قويم» للوسيان، و«السحب» و«الطيور» لأريستوفان. 
وقد توافرت مثل تلك العناصر في بعض ملاحم الهند القديمة، مثل (رامايانا)، التي أوردتْ وصفًا لآلات أسطورية طائرة اسمها «فيمانا»، يمكنها التحليق داخل الغلاف الجوي للأرض، وقادرة على تجاوزه إلى الفضاء الخارجي، وعلى الغوص تحت الماء، وهي مزودة بسلاح يمكنه أن يدمّر مدينة بأكملها! كذلك تحكي الملحمة الأسطورية الهندوسية «ماهابهاراتا»، عن ملك يُدعى ريفايتا، يسافر إلى السماء ليقابل الخالق «براهما»، وعندما يرجع إلى الأرض يتعرّض لصدمة شديدة، إذ يفاجأ بأن أزمنة طويلة قد انقضت، وهي فكرة السفر عبر الزمن، التي تقوم عليها رواية هـ. ج. ويلز المعروفة (آلة الزمن).
   وتتسعُ دائرةُ ترددِ ملامح من الخيال العلمي في أعمال أدبية من الكلاسيكيات العالمية، لتشمل «مسخ الكائنات» لأوفيد، و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«العاصفة» لشكسبير. 
  وتحكي رائعة شكسبير عن أحوال نموذج لعالِمٍ غريبِ الأطوار، من عصر النهضة الأوربية. وقد تحولت «العاصفة» إلى شريط سينمائي، مصنَّف في سينما الخيال العلمي، وهو «الكوكب المحظور».

  تاريخٌ قويم
  أما الكوميديا الإلهية، فيجولُ فيها المؤلفُ بين الكواكب والنجوم التي تتكون منها السماء، والمأهولة بشعوب مختلفة، من بينها شعب المريخ، الذي يطلق عليه دانتي اسم «أرواح الشهداء».
    وثمة ذِكْرٌ لعمل من القرن الثاني لمؤلفه لوسيان، هو «تاريخٌ قويم»، والذي يحكي متهكمًا عن رحلة بين الكواكب، وقد يكون هذا العمل هو أقدم محاولة لإنشاء كتابة تنتمي إلى ما نعرفه الآن بأدب الخيال العلمي، إذ يمكن لقارئ «تاريخ قويم» أن يتعرّف فيه على الكثير من الأفكار الرئيسية التي قام عليها جانب كبير مما أُنتِجَ لاحقًا من قصص الخيال العلمي، مثل: السفر إلى الفضاء الخارجي، مقابلة أشكال غريبة من الكائنات الحية، حروب الكواكب واستعمارها، مخلوقات أنتجتها التكنولوجيا شبيهة بالروبوتات.
   وثمّة أسطورة يابانية قديمة وردت في أحد كتب ديانة الشنتو اليابانية هو «نيهونجي»، عنوانها «أوراشيما تارو»، وهو اسم بطلها الصياد الذي أنقذ سلحفاة بحريّة، فكوفئ بزيارة لقصر إمبراطور البحر لمدة 3 أيام؛ ولما عاد إلى قريته، وجد أن الزمن قد تقدّم 3 قرون باتجاه المستقبل، حيث لم يتعرّف عليه أحد، ووجد بيته أصبح أثرًا بعد عين، وغيَّـبَ الموتُ كلَّ أفراد أسرته.

زورق البامبو
   من سرديات القرن العاشر في اليابان يمكن إضافة حكاية «زورق البامبو» إلى قائمة الأعمال الأولى في تاريخ قصص الخيال العلمي، فبطلتها الأميرة كاجويا- هايم من سكان القمر، وقد أُرسلتْ إلى الأرض لإبعادها عن خطر حرب نشبت بين قومها وكواكب أخرى، وعثر عليها زورقٌ ياباني مصنوع من البامبو، انتشلها أصحابه وأكرموا وفادتها، وعندما انتهت الحربُ استعادتها أسرتها القمرية. وقد زُوِّدَ النصُّ الأصلي للقصة برسومات لآلية طائرة مستديرة الشكل، شبيهة بالتصور الشائع الآن للأطباق الطائرة.
  وعلى النحو ذاته، يمكن النظرُ إلى بعض حكايات في كتاب «ألف ليلة وليلة» كنماذج بدائية من قصص الخيال العلمي، منها حكاية يسعى بطلها باحثًا عن عشبة الخلود، ويرتادُ في سبيل ذلك البحار، ويرتحلُ إلى جنة عدن، وإلى جهنم، ويسافرُ في الأكوان، ويشاهد عوالمَ تختلف تمامًا عن العالم الذي ينتمي إليه، مما يشكلُ عناصر غير مسبوقة لقصص خيال علمي خاصة بالفضاء الخارجي؛ إضافة إلى ما تتضمنه الحكاية من أنسنة للأشياء، فنرى فيها الثعابين والأشجارَ وأشكالًا أخرى من المخلوقات تتكلمُ بلسان البشر، كما يعايشُ البطلُ الجانّ في مجتمعاتها. وتتوافرُ لبطل حكاية أخرى، عنوانها «عبدالله البري وعبدالله البحري»، القدرةُ على التنفس تحت الماء، فيكتشفُ مجتمعًا تغمره المياه، تصوره الحكايةُ في هيئة عكسية للحياة على اليابس، حيث تسوده ملامح من أشكال بدائية للنهج الشيوعي، مثل الاستغناء عن النقود والملابس!

رحلة استكشافية
    في «ألف ليلة وليلة» حكاياتٌ أخرى تتناولُ أفكارًا من نوع: تكنولوجيات بادتْ، وحضارات قديمة متطورة زالتْ بعد أن ضربتها كوارث مدمرة. وتصور حكاية «مدينة النحاس» مجموعة أفراد يسافرون عبر الصحراء في رحلة استكشافية أثرية، تنقيبًا عن مدينة قديمة مفقودة، آملين أن يستعيدوا سفينة نحاس كان النبي سليمان عليه السلام يستخدمها في مطاردة وتوقيف الجانّ العاصين. وعلى طول طريق الرحلة كان المستكشفون يقابلون أشياء غريبة، مثل مومياء لملكة، وأناسٍ متحجرين، وبشرٍ آليين، وآلاتٍ ذاتية الحركة، ودُمـًى تتحركُ راقصة بغير خيوط تحرّكها، وفارسٍ نحاسي روبوتي يأخذ على عاتقه مهمة إرشاد المجموعة إلى المدينة القديمة. 
وفي حكاية «الحصان الأبنوسي» تتحكم لوحة مفاتيح في حصان آلي، تعطيه القدرة على الطيران إلى الفضاء الخارجي، فيتجه إلى الشمس. ويعودُ الروبوت ليظهر في حكاية أخرى من الحكايات الألف وواحدة، لكن في هيئة ملّاحٍ يتمتعُ بقوى خارقة للطبيعة.

قصة مستقبلية
 يمكننا أن نضمَّ «مدينة النحاس» و«الحصان الأبنوسي» إلى محاولات صناعة قصص الخيال العلمي البدائية، وأن نضيفَ إلى قائمتها من الأدب العربي أيضًا كتاب الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وبعض كتابات القزويني، ومن بينها قصة مستقبلية تحكي عن رجل من كوكب بعيد، ينزل إلى الأرض؛ ونضيف إلى ذلك كله بعض العناصر الحكائية المتناثرة في حكايات ألف ليلة وليلة، مثل «بساط الريح». كما أثبت أحد النقاد أن الرواية ذات الصبغة الدينية للكاتب العربي الموسوعي ابن النفيس (1213/ 1288)، واسمها «فاضل بن ناطق»، يمكن وضعها في عداد قصص الخيال العلمي؛ إذ يتوافر بها عدد من عناصر هذا القصص، كالتوالد الذاتي، ورؤى مستقبلية محتملة، وأفكار عن الكوارث. ولم يشأ ابن النفيس أن يعالج هذه العناصر من وجهة نظر القوى الخارقة للطبيعة، أو يفسرها في ضوء الأسطورة، وإنّما حاول الاعتماد على معرفته العلمية الواسعة في مجالات علم التشريح وعلوم الحياة وعلم وظائف الأعضاء والفلك والعلوم الكونية والجيولوجيا. والأكثر من ذلك أن ابن النفيس استخدم الرواية في شرح نظريته الخاصة بالأيض، أو التمثيل الغذائي، كما أشار فيها إلى مراجع عن الدورة الدموية الرئوية التي اكتشفها هو عند ذكْر مسألة قيامة أجساد الموتى في كتابه العجيب «الرسالة الكاملية في السيرة النبوية»، والذي اهتم الغرب بترجمته إلى اللغة الإنجليزية بداية القرن العشرين باسم  Theologus Autodidactus ■