الجندي الخارق وحروب المستقبل

يستمتع الكبار والصغار بمشاهدة أفلام سوبرمان والأبطال الخارقة، وذلك لما تبعثه من شعور بالقوة والانتشاء لوجود إنسان يقهر قواعد الطبيعة وحدود القدرات البشرية؛ بسبب تحوُّله إلى مخلوق ذي قدرات خارقة، بفضل تعرّضه لعوامل خارجية لم يخترها، مثل سبايدر مان، أو بفعل دمجه بتكنولوجيا متطورة، مثل الرجل الحديدي وباتمان، وكل هؤلاء يحاولون أن يصلوا إلى نموذج الرجل الخارق (سوبرمان)، الذي أتى من كوكب بعيد.

 

على العكس من ذلك، في أفلام أخرى تنتمي إلى فئة الخيال العلمي، عند زرع أجزاء ميكانيكية وتكنولوجيا متطورة في أيّ بشري يتحول إلى شبه آلة، أو ما يُسمـــى بالـ «سايبورج». 
في جميع الأحوال، فيما خلا حالات نادرة، يتحول السايبورج إلى شرير قاسٍ مهمته القتل والدمار، وحينها يتحول الشعور بالشغف والفخر الذي يتولّد لدى المشاهد، إلى شعور بالمَقت والرفض؛ لأنّ تلك النماذج في الأفلام الهوليوودية تُقدَّم بصورة سلبية، فغالبًا، تظهر كائنات تسعى إلى الدمار وإلحاق الضرر بالبشر المسالمين. ومن المسلَّم به أن كل ما قيل سلفًا هو كونه نسج خيال المؤلف، وهدفه إنتاج فيلم خيال علمي يفعمه التشويق والإثارة. لكنّ المفاجأة غير المتوقعة أن كل ما نراه على شاشات «هوليوود» هو مجرّد انعكاس، أو بالأحرى تسريبات، عن تجارب علمية لمشروعات حقيقية تسعى إلى ابتكار تكنولوجيا لتعزيز قدرات البشر من أجل تحويلهم إلى آدميين ذوي قدرات خارقة.
 وتنتمي تلك المشروعات لمؤسسات عسكرية تهدف إلى توظيف الخوارق من الآدميين في ميدان الحرب من أجل الفتك بالأعداء. 

 ضرب من الخيال 
يذكر أنّ الحروب والاستعداد لها بمعدات وأسلحة كانت دومًا أسرع الوسائل لتحديث التكنولوجيات التي ينعم بها الفرد العادي، بالرغم من أنّ هدفها الأساسي كان الاستخدام لأغراض عسكرية، ما يعني أن أي تطوُّر يلحق بالمؤسسات العسكرية مصيره النزول للعامة.
وفي الوقت الحالي، يعكف علماء تطوير التكنولوجيات العسكرية على استحداث جندي أسرع وأقوى وأذكى من نظرائه في ساحة الحرب، وقادر على المواجهة والفتك بأعدائه بكل عنف وشراسة. 
وقد كان التقرير العسكري الذي صرحت به المملكة المتحدة عام 2013، عن شكل الجندي البريطاني بحلول عام 2045، بمنزلة ضرب من ضروب الخيال أو أحلام اليقظة؛ حيث صرّح مسؤول بأن الجندي البريطاني في المستقبل سيكون أذكى، ويتمتع بقدرة بدنية فائقة تمكِّنه من أن يحمل أوزانًا ثقيلة جدًّا، ويتمتع برؤية واضحة؛ سواء في الضوء أو آناء الليل؛ بفعل تعزيز قدرة الإبصار لديه بالأشعة فوق الحمراء، أما التواصل مع زملائه فسوف يكون دون أن ينبس ببنت شَفة؛ لأنّ «التخاطر» سوف يكون هو طريقة الاتصال.

بذلة خفيفة وهجوم تكتيكي
في عام 2014، أزيح النقاب عن الشروع في أخذ خطوات عملية لتنفيذ مشروع الجندي الخارق، عندما صرح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عن مبادرة جديدة للتفوق الحربي، وذكر فيها أن الهدف الرئيسي من خطابه الإعلامي هو الإعلان أن الولايات المتحدة بصدد بناء «الرجل الحديدي»، مشيرًا بذلك إلى البطل في فيلم «الرجل الحديدي». 
ثم صرح بأنّ الجيش الأمريكي شرع بالفعل في التنفيذ باستحداثه بذلة واقية أطلق عليها اسم «البذلة الخفيفة لتشغيل الهجوم التكتيكي»، التي يشار إليها بالاسم المختصر «تالوس»، وللتدليل على صدق المشروع، تم عرض فيلم ترويجي قصير يظهر فيه جندي مرتديًا البذلة، فيقتحم زنزانة معادية، غير آبه بما يُطلَق عليه من طلقات الرصاص، وكما يظهر في ألعاب الفيديو، يبدو أن هذا الجندي لا يُقْهَر؛ فالرصاص يرتدّ عن البذلة وهو يكمل مسيرته من دون توقُّف. أما العلماء المهتمون بتكنولوجيات المجال العسكري فلا ينصَبّ اهتمامهم على صنع بذلة واقية للرصاص فقط، بل تعزّز من حركة الجندي وقدراته الجسدية في ساحة القتال؛ حيث يصبح قادرًا على القيام بحركات خارقة؛ فالبذلة التي هي عبارة عن هيكل خارجي مزوّدة بقدرات تجعل الجندي يقوم بأفعال تشابه ما يقوم به «الرجل الحديدي» في الفيلم من قفز وجري وحمْل أثقال.
 وتزن البذلة التي تم تصنيعها نحو 23 كيلوجرامًا، مما يضع عبئًا على الجندي الذي يحمل بالفعل معدات وأسلحة يصل وزنها إلى 50 كيلوجرامًا، لكنّ الوزن حتى الآن ليس هو المشكلة الضخمة التي من شأنها تقويض المشروع؛ لأنّ العلماء عاكفون - بالفعل - على استحداث تكنولوجيات لتخطّي تلك العقبة.

استحداث الرجل الحديدي
بيد أن استحداث رجل حديدي لا يقتصر فقط على تصنيع هيكل خارجي، بل إن الجندي ذاته سيتم زراعة قطع إلكترونية به، مما أثار آراء تؤكد وجوب مراعاة الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والقانونية لهذا المشروع الذي يسعى إلى استحداث ما يسمّيه بـ «الجندي المُعزَّز»، فهناك بعض الدول لا تحترم الاعتبارات الأخلاقية، وتسعى إلى تعديل الجندي جينيًا، إضافة إلى الجانب التكنولوجي حتى يصير خارقًا للطبيعة حتى مع عدم ارتدائه البذلة الواقية (تالوس).
وتضمن التعديلات التي سيتمتع بها الجندي المُعَزز تحسين قدراته البصرية؛ ليصل إلى أبعاد تلسكوبية، مع تزويده بقدرة تصوير المواقع، وتحديد الإحداثيات. 
وسوف تساعده البذلة على برمجة عضلاته وضبطها، وكذلك استعادة نشاطها وحيويتها؛ أي إن القدرات العضلية له سوف تتشابه وقدرات جنود ألعاب الفيديو من ركض وقفز من دون الإصابة بالإجهاد أبدًا. ولاستكمال القدرات الخارقة سيتم تعزيز سمع الجندي لتحسين قدراته على الاتصال بالزملاء والقادة، وكذلك ضمان حمايته من أيّ عدو في محيطه؛ بسماع همسه وتحرُّكاته. ومع كل هذا سيتم تعديل الجينات العصبية بالتعديل المباشر للجهاز العصبي، حتى ينقل الجندي ما يتوافر لديه من بيانات للقيادات، أو لتلقي بيانات أو تعليمات جديدة. 

الجندي المعزز
باختصار شديد، سيصبح الجندي المعزز بمنزلة وحدة متكاملة تنطوي على قدرات عضلية واستخباراتية ومعلوماتية خارقة، ومن ثمَّ يتحول الجندي ليس فقط إلى نموذج «كابتن أمريكا»، بل «سايبورج» معزز القدرات.
في الثالث من سبتمبر 2020، حذّر رئيس المخابرات الأمريكي السابق جون رادكليف، في مقال كتبه بصحيفة وول ستريت، من أن الصين تسعى في الوقت الحالي إلى استحداث جيش من الجنود المعزّزين، مما يشكّل خطرًا على الولايات المتحدة.
لكنّ الصين ردت عليه متهمةً إياه بترويج مجموعة من الأكاذيب لتشويه صورة الصين وتأكيد شيطنتها، بالرغم من أنه في عام 2019 قامت المخابرات الأمريكية بتجميع تصريحات وأنشطة علماء الصين، التي أكدت أن الصين دؤوبة في تطوير جيش من الخوارق على مستويات عدة.
إلا أنّ ذاك الخطر الداهم لا تتسابق في تطويره الولايات المتحدة والصين فقط، بل هناك أيضًا روسيا، وأخيرًا انضمت فرنسا إلى ذلك المعسكر، بعد إعطائها الضوء الأخضر، إلّا أن الأمر لم يقتصر على فرنسا فقط؛ لأنّ هناك دولًا أخرى تفكِّر مليًّا في الاستثمار بتلك التكنولوجيا المدمرة، ورصدت لتطويرها مليارات الدولارات. 
وقد أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قلقه من هذه التكنولوجيا، ووصفها بأنها «أخطر على البشر من القنبلة النووية»، لكنّ القلق لم يمنعه من المضي قُدمًا في هذا المشروع، بل قيل إنه قام بتجريب نموذج منه في سورية. 

اعتبارات أخلاقية
من أكثر الجوانب السلبية في هذا المشروع، أن الدول التي لا تراعي الاعتبارات الأخلاقية - على غرار الصين وروسيا - وتقوم بتعديل أو زرع جينات في كتائب جنودها، لا تتحسب للآثار المناوئة لذلك على المدى البعيد، أو الطفرات الجينية التي قد تنجم عن تهجين جينات معدَّلة وراثيًا في أجسام الجنود. وبهذا، فإن الاحتمال القائم هو تحوُّل الجندي الخارق إلى سايبورج شرير متعطش للدمار، تمامًا كما في أفلام الخيال العلمي.
في هذا السياق، وفي تصريحات لوزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي في مستهل ديسمبر 2020، نقلتها شبكة بي بي سي، شددت بارلي على أهمية التطلع إلى المستقبل والتماشي مع متغيراته، لكن من دون المساس بالجينات أو خرق الضوابط الأخلاقية. 
وأكدت بارلي، في كلمتها، أنه ليس لدى فرنسا خطط فورية لتطوير تكنولوجيا الجنود الكاسحة، لكنّها ألحّت على وجوب مجابهة التغييرات الناشئة بالاستعداد لما يخبئه المستقبل من مفاجآت، على أن تكون أطر الاستعداد من خلال إثبات التفوق الفرنسي في هذا المجال، من دون المساس بالتركيب البيولوجي المتعارَف عليه.
ويعتقد الخبراء العسكريون أن تطبيق نظام الجندي الخارق سيرى النور عمليًا بحلول عام 2050، مما يُنبِئ بحدوث تغيير جذري في ساحات القتال، فسوف يتلاشى الخوف من الحروب، بسبب ما قد يلحق بالدول من خسائر ماديّة وبشرية، ويحلّ محله إقبال متزايد على القتال وحلّ أتفه المشكلات بشَنّ حروب طاحنة.

 الخوف الأعظم
أما الخوف الأعظم فيتمثل في اختلال موازين القوى بامتلاك بعض الدول الجيوش الخارقة، في حين لا تمتلك أخرى حتى تكنولوجيات عسكرية متطورة.
إذن، بات يهدد التسارع في التطور التكنولوجي مستقبل البشرية، لذا يجب أن تصير الحكمة والاعتبارات الأخلاقية والاستخدام الرشيد للقوى المريعة التي سيمتلكها البشر من أولى الأولويات التي ينبغي التشديد عليها ووضعها نصب الأعين، وإلّا فسوف تنشب حروب في كل دقيقة، وستُمحى دول بأكملها من على الخريطة بكل سهولة. وسيكمُن الخطر الأكبر في إمكانية تسرُّب تلك التكنولوجيات بكل سهولة من أروقة المعامل العسكرية لتصل إلى البشر العاديين، وحينئذِ قد يحدث ما لا تُحمد عقباه عند وقوعها في أيدي رجال العصابات، الذين لن يتورّعوا عن استحداث تشكيلات عصابية من الـ «سايبورج»، فيقتلون الأبرياء ويدمّرون الأحياء والمدن بكل ضراوة. ومن دون شك، حينها سوف تكون هناك ردود أفعال مناوئة لدرء تلك الهجمات، وعلى هذه الحال سوف تذهب القوانين والضوابط الأخلاقية في غياهب النسيان، وبدلًا من توظيف التكنولوجيا لخدمة البشرية ودرء أي عدوان، قد تعمل التكنولوجيا على تدمير البشرية ■