الخنفساء الحمراء

الخنفساء الحمراء

وأخيراً‭ ‬تحقق‭ ‬حلم‭ ‬عائلتنا‭ ‬الصغيرة‭ ‬عندما‭ ‬انتقلنا‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الصيف‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬منزلنا‭ ‬الجديد‭ ‬الرائع،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬صغيرة‭ ‬استطاع‭ ‬أبي‭ ‬أن‭ ‬يشتري‭ ‬لنا‭ ‬منزلاً‭ ‬واسعاً‭ ‬فيه‭ ‬حديقة‭ ‬جميلة‭ ‬تضم‭ ‬شجرتي‭ ‬برتقال‭ ‬وشجرة‭ ‬ليمون‭ ‬وتنتشر‭ ‬في‭ ‬جوانبها‭ ‬أحواض‭ ‬النباتات‭ ‬والورد‭.‬

وبينما‭ ‬كان‭ ‬العمال‭ ‬ينقلون‭ ‬أثاثنا‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬الجديد‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬وأختي‭ ‬مرح‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نعلق‭ ‬أرجوحة‭ ‬بين‭ ‬شجرتي‭ ‬البرتقال،‭ ‬فلما‭ ‬رآنا‭ ‬أبي‭ ‬قال‭ ‬ضاحكاً‭: ‬الأولى‭ ‬لكما‭ ‬أن‭ ‬تساعدانا‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬الأثاث،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬نستقر‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬سأصنع‭ ‬لكما‭ ‬بنفسي‭ ‬أرجوحة‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭.‬

فصحنا‭ ‬من‭ ‬الفرحة،‭ ‬وأخذنا‭ ‬نساعد‭ ‬أمي‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬وترتيب‭ ‬الأثاث‭ ‬ولم‭ ‬يكد‭ ‬الليل‭ ‬حتى‭ ‬نمنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتناول‭ ‬العشاء‭. ‬

وفي‭ ‬الصباح‭ ‬أحضر‭ ‬أبي‭ ‬حبالاً‭ ‬قوية‭ ‬وشدّها‭ ‬بين‭ ‬الشجرتين‭ ‬وقام‭ ‬بتجريبها‭ ‬بنفسه‭ ‬عدة‭ ‬دقائق‭ ‬ونحن‭ ‬نضحك‭ ‬سعيدين‭ ‬به‭.‬

ثم‭ ‬أوقف‭ ‬الأرجوحة‭ ‬ونزل،‭ ‬وقال‭ ‬لنا‭: ‬هيا‭ ‬العبا‭ ‬فهذه‭ ‬أرجوحتكما‭ ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أي‭ ‬شجار‭ ‬بينكما‭.‬

فقلت‭ ‬له‭: ‬لا‭ ‬تهتم‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬فنحن‭ ‬سنلعب‭ ‬معاً‭.‬

وهكذا‭ ‬صرنا‭ ‬نمضي‭ ‬أمتع‭ ‬ساعات‭ ‬النهار‭ ‬في‭ ‬حديقتنا،‭ ‬كما‭ ‬كنا‭ ‬نستقبل‭ ‬أصدقاءنا‭ ‬وأقاربنا‭ ‬فيها‭ ‬لنلعب‭ ‬معاً‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬لاحظت‭ ‬مرح‭ ‬حشرة‭ ‬صغيرة‭ ‬لونها‭ ‬أحمر‭ ‬وعليها‭ ‬نقاط‭ ‬سوداء‭ ‬فنادتني‭:‬

‭- ‬تعال‭ ‬وانظر‭ ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الحشرة‭ ‬الجميلة‭..!‬

فقلت‭ ‬لها‭: ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الزيز،‭ ‬ونادينا‭ ‬أمي،‭ ‬التي‭ ‬رأتها‭ ‬وقالت‭: ‬أجل‭ ‬هذه‭ ‬خنفساء‭ ‬صغيرة‭ ‬يسميها‭ ‬البعض‭ ‬زيزاً،‭ ‬وفي‭ ‬قريتنا‭ ‬كانت‭ ‬جدتي‭ ‬تسميها‭ ‬‮«‬ستّي‭ ‬أم‭ ‬علي‮»‬‭.. ‬سألتها‭: ‬وهل‭ ‬هي‭ ‬مؤذية؟
فقالت‭ ‬أمي‭: ‬لا‭ ‬إنها‭ ‬حشرة‭ ‬لطيفة‭.‬

أعجبتني‭ ‬هذه‭ ‬الخنفساء‭ ‬المنقطة‭ ‬فصرت‭ ‬أبحث‭ ‬عنها‭ ‬وألتقطها‭ ‬ثم‭ ‬أضعها‭ ‬في‭ ‬علبة‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬لأستمتع‭ ‬برؤيتها‭ ‬وهي‭ ‬تتحرك‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة،‭ ‬وكنت‭ ‬ألهو‭ ‬بعدّ‭ ‬النقاط‭ ‬التي‭ ‬تزيّن‭ ‬ظهرها،‭ ‬وكنت‭ ‬أتفاخر‭ ‬بمجموعتي‭ ‬من‭ ‬الخنافس‭ ‬المنقطة‭ ‬كلما‭ ‬أتى‭ ‬أولاد‭ ‬لزيارتنا‭.‬
كنا‭ ‬نغني‭: ‬‮«‬زيز‭ ‬زيز‭ ‬يا‭ ‬لذيذ‭... ‬ادخل‭ ‬إلى‭ ‬القطرميز‭!‬‮»‬،‭ ‬وننصرف‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬خنافس‭ ‬جديدة،‭ ‬ويوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أجد‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الخنافس‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تتناول‭ ‬القهوة‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬قال‭ ‬أبي‭: ‬هل‭ ‬تلاحظين‭ ‬أن‭ ‬الشجرات‭ ‬الثلاث‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بالنضارة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬قبل؟

قالت‭ ‬أمي‭: ‬بالفعل‭ ‬لقد‭ ‬لاحظت‭ ‬ذلك‭ ‬أمس‭ ‬فالشجرات‭ ‬الثلاث‭ ‬أخذت‭ ‬أوراقها‭ ‬بالذبول،‭ ‬ولاحظت‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬أغصانها‭ ‬تتيبّس،‭ ‬وقد‭ ‬انتشرت‭ ‬عليها‭ ‬حشرات‭ ‬سوداء‭ ‬صغيرة‭.‬

فقال‭ ‬أبي‭:‬‭ ‬أظن‭ ‬أنها‭ ‬حشرات‭ ‬المنّ‭... ‬فطلبت‭ ‬أمي‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬حلاً‭ ‬سريعاً‭ ‬لنعالج‭ ‬الأشجار‭ ‬الجميلة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬عليها‭ ‬المنّ،‭ ‬وشعرنا‭ ‬جميعنا‭ ‬بالحزن‭ ‬الشديد‭ ‬لأن‭ ‬أشجارنا‭ ‬التي‭ ‬ننتظر‭ ‬ثمارها‭ ‬الجديدة‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر‭ ‬قد‭ ‬مرضت،‭ ‬سأذهب‭ ‬إلى‭ ‬الصيدلية‭ ‬الزراعية‭ ‬وأستشير‭ ‬الصيدلاني‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفعله‭.‬

وفي‭ ‬المساء‭ ‬قال‭ ‬أبي‭: ‬لقد‭ ‬أعطاني‭ ‬الصيدلاني‭ ‬دواء‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬يجب‭ ‬رِشّ‭ ‬الأشجار‭ ‬به،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحذروا‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬ملامسة‭ ‬الدواء‭ ‬وعليكم‭ ‬أن‭ ‬تتوقفوا‭ ‬عن‭ ‬اللعب‭ ‬بالحديقة‭ ‬بضعة‭ ‬أيام،‭ ‬وألا‭ ‬تتناولوا‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬الثمار‭ ‬قبل‭ ‬غسلها‭ ‬جيداً‭ ‬بالماء‭ ‬والصابون‭.‬

فقلت‭ ‬له‭: ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬قال‭ ‬لك‭ ‬الصيدلاني‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬الإصابة‭ ‬بهذه‭ ‬الحشرة‭ ‬السيئة؟

فأجابني‭: ‬لقد‭ ‬أخبرني‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬حشرات‭ ‬نافعة‭ ‬تتغذى‭ ‬على‭ ‬حشرة‭ ‬المنّ‭ ‬وتمنع‭ ‬انتشار‭ ‬الأمراض‭ ‬بين‭ ‬الأشجار،‭ ‬وإذا‭ ‬قلّ‭ ‬عدد‭ ‬الحشرات‭ ‬النافعة‭ ‬فإن‭ ‬الحشرات‭ ‬الضارّة‭ ‬تتكاثر‭ ‬بسرعة‭ ‬وتقضي‭ ‬على‭ ‬الأشجار‭ ‬والثمار‭.‬

فسألته‭ ‬أمي‭:  ‬وهل‭ ‬أخبرك‭ ‬عن‭ ‬الحشرات‭ ‬النافعة‭ ‬التي‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬المن؟‭  ‬قال‭ ‬أبي‭: ‬لقد‭ ‬أخبرني‭ ‬الصيدلاني‭ ‬بأن‭ ‬الخنفساء‭ ‬الحمراء‭ ‬المنقّطة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الحشرات‭ ‬التي‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬المنّ‭.‬

فنظرت‭ ‬إليّ‭ ‬أمي‭ ‬قائلة‭: ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬أعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحشرات‭ ‬الجميلة‭ ‬وقد‭ ‬رأيتك‭ ‬مراراً‭ ‬وأنت‭ ‬تلعب‭ ‬بها‭ ‬يا‭ ‬أحمد‭.. ‬فشعرت‭ ‬بالخجل‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭: ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الزيز‭ ‬حشرة‭ ‬مفيدة‭ ‬ونافعة‭.‬

فقال‭ ‬أبي‭: ‬وهل‭ ‬كنت‭ ‬تؤذي‭ ‬هذه‭ ‬الحشرات‭ ‬اللطيفة‭ ‬يا‭ ‬أحمد؟
فأغمضت‭ ‬عينيّ‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬أبي‭ ‬أنا‭ ‬آسف‭.. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬فائدتها‭.‬

وقالت‭ ‬مرح‭: ‬لقد‭ ‬حذرتك‭ ‬يا‭ ‬أحمد‭ ‬من‭ ‬لعبك‭ ‬بهذه‭ ‬الحشرة‭ ‬الجميلة‭ ‬ولكنك‭ ‬سخرت‭ ‬مني‭. ‬فازداد‭ ‬شعوري‭ ‬بالإحراج‭ ‬وأدركت‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬أخطأت‭ ‬كثيراً‭.‬

فقلت‭ ‬لأبي‭:  ‬أبي‭ ‬أرجوك‭ ‬أن‭ ‬تسامحني‭ ‬فقد‭ ‬أخطأت‭.‬
ابتسم‭ ‬أبي‭ ‬مخففاً‭ ‬عني‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬تعلمنا‭ ‬جميعاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الدرس‭.‬

وفجأة‭ ‬تذكرت‭ ‬شيئا‭ ‬فقلت‭ ‬بفرحة‭: ‬أبي‭ ‬إن‭ ‬لديّ‭ ‬بعض‭ ‬الخنافس‭ ‬التي‭ ‬مازلت‭ ‬أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬علبة‭ ‬صغيرة،‭ ‬فسأقوم‭ ‬وأضعها‭ ‬على‭ ‬الأشجار‭.‬

فقال‭ ‬أبي‭: ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬هذا‭ ‬الآن‭ ‬لأن‭ ‬الأدوية‭ ‬الكيماوية‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬الحشرات‭ ‬السيئة‭ ‬والمفيدة‭ ‬معاً‭. ‬سنضع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬والأغصان‭ ‬الصغيرة‭ ‬المصابة‭ ‬في‭ ‬علبة‭ ‬كبيرة‭ ‬مهوَّاة‭ ‬جيداً‭ ‬لتتغذى‭ ‬عليها‭ ‬الخنافس،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يزول‭ ‬أثر‭ ‬الأدوية‭ ‬الكيماوية‭ ‬نعيد‭ ‬الخنافس‭ ‬إلى‭ ‬أشجارها‭ ‬لتتكاثر‭ ‬وتحميها‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهرين‭ ‬كانت‭ ‬الأشجار‭ ‬الثلاث‭ ‬قد‭ ‬استردت‭ ‬رونقها‭ ‬ونضارتها،‭ ‬وأخذت‭ ‬الخنافس‭ ‬الحمراء‭ ‬تزداد‭ ‬وكنت‭ ‬أتابع‭ ‬بسعادة‭ ‬حركاتها‭ ‬الجميلة‭ ‬وسعيها‭ ‬الدؤوب،‭ ‬بينما‭ ‬أغني‭ ‬لها‭: ‬زيز‭ ‬زيز‭ ‬يا‭ ‬لذيذ‭.. ‬أنت‭ ‬الصديق‭ ‬العزيز‭.‬

 

رسوم‭: ‬عفراء‭ ‬اليوسف