المغرب.. بَلَدُ الآثارِ والأزْهارِ!
ذاتَ مَساءٍ، بَيْنَما كُنْتُ أتَمَشَّى في الْحَديقَةِ بَيْنَ شَجَرِها الظَّليلِ، لَفَتَتْ نَظَري وَرْدَةٌ ذابِلَةٌ، فَأخْرَجْتُ قِنِّينَةَ ماءٍ مِنْ مِحْفَظَتي الظَّهْرِيَّةِ، ورَشَشْتُ تُرْبَتَها بِقَطَراتٍ، فَانْتَعَشَتِ (نَشِطَتْ) حينًا، وعادَتْ نَضارَتُها (حُسْنُها) إلى وُرَيْقاتِها، ثُمَّ فاحَتْ بِأريـجِها الزَّكِيِّ (طيبِها الْكَثيرِ) قائلَةً في سُرورٍ: شُكْرا، صَديقي، على عَطْفِكَ وإحْسانِكَ!.. لِيَكُنْ أريـجي مُكافَأةً على إنْقاذِكَ لي مِنَ الذُّبولِ، فَلَوْلاكَ لَمَا عُدْتُ أُعَطِّرُ الْجَوَّ بِطيبي، وأَسُرُّ النَّاظِرينَ بِشَكْلي ولَوْني الْجَميلَيْنِ!
في ذَلِكَ الْحينِ، غَلَّفَني أريـجُها، مِنْ رَأسي إلى أخْمُصِ قَدَمي (باطِنِهما) كَأنَّني داخِلَ سَحابَةٍ، ثُمَّ عَلا بي شَيْئًا فَشَيْئًا في الْجَـوِّ، وسارَ بَيْنَ الطُّيورِ الْمُحَلِّقَةِ، تَشُمُّ الأَريجَ تارَةً، تُغَرِّدُ بِصَوْتِها الْعَذْبِ تارَةً أُخْرى. ولَمْ أُحِسَّ بِمُرورِ الْوَقْتِ، أوْ أَنْتَبِهْ مِنْ دَهْشَتي، حَتَّى وَجَدْتُ نَفْسي فَوْقَ أرْضٍ خَضْراءَ، كُلُّها أشْجارٌ وأزْهارٌ وبَيْنَ أطْفالٍ في سِنِّي، يَحْمِلونَ عَلَمًا أحْمَرَ، تَتَوَسَّطُهُ نَجْمَةٌ خَضْراءُ، ويُرَحِّبونَ بي: أهْلًا وسَهْلًا بِأخينا الْعَرَبِيِّ!..اِطْمَئِنَّ ولا تَقْلَقْ، فَأنْتَ بَيْنَ أيْدي إخْوَتِكَ، وفي بِلادِ الْمَغْرِبِ الآمِنَةِ، الَّّتي تُكْرِمُ ضُيوفَها، كَما أكْرَمْتَ الْوَرْدَةَ الذَّابِلةَ!
اِقْتَرَبَتْ مِنِّي طِفْلَةٌ، تَرْتَدي قُفْطانًا مُزَرْكَشًا (مُزَيَّنًا) بالأَلْوانِ، وقَدَّمَتْ لي صينِيَّةً فِضِّيَّةً، تَحْتَوي على صَحْنٍ بِهِ تَمْرٌ مَحْشُوٌّ بِاللَّوْزِ والْجَوْزِ، وسُلْطانِيَّةٍ مَمْلوءَةٍ بِالْحَليبِ الطّبيعي.
ثُمَّ أخَذَني أخوها مِنْ يَدي، ومَشى بي في دُروبِ وأزِقَّةِ مَدينَةِ فاسٍ، الْعاصِمَةِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْمَغْرِبِ.
وفَجْأةً، أشارَ ضاحِكًا إلى أمْكِنَةٍ ضَيِّقةٍ، وهُوَ يُسَمِّيها: هذا دَرْبُ مِشْمِشَةٍ، وذاكَ زُقاقُ الرُّمَّانِ، وهَذِهِ رَحْبَةُ الزَّبيبِ، وهذا بابُ الْخَوْخَةِ، وهذا حَيُّ بُرْقوقَةٍ، وذاكَ دَرْبُ التُّوتَةِ، وهذا جامِعُ الأُتْرُنْجِ (حامِضٌ)!
فَكَّرْتُ قَليلًا، ثُمَّ قاطَعْتُهُ باسِمًا:
- لَقَدْ فَهِمْتُ!.. تَقْصِدُ أنَّ كَثيرًا مِنْ أماكِنِ الْمَدينَةِ تُطْلَقُ عَلَيْها أسْماءُ الْفَواكِهِ!
- أجَلْ، صَديقي!.. كما تُطْلَقُ عَلَيْها أسْماءُ الْحَيَواناتِ، كَمَسْجِدِ الْحوتِ، ومَسْجِدِ سَيِّدي حَمامَةٍ، وعَيْنِ الْبَغْلِ، وعُقَيْبَةِ الْفِئْرانِ، وعَيْنِ الْخَيْلِ، وجِنانِ الْقُرودِ، ودَرْبِ الْحَنَشِ، وسِقايَةِ الكِلابِ..!
وهَكَذا سِرْنا مِنْ حَيٍّ إلى حَيٍّ، حَتَّى بَلَغْنا مَكانًا يَتَلأْلأُ بِأضْواءِ الشُّموعِ الْمُلَوَّنَةِ، فَتَوَقَّفَ بِمَدْخَلِهِ: هذا سوقُ الْفَواكِهِ الْجافَّةِ، ويُسَمَّى (الشَّمَّاعينَ) نَشَأ فيهِ الْجُغْرافِيُّ الْعَرَبِيُّ الْكَبيرُ الْحَسَنُ الْوَزَّانُ (لْيونْ الإفْريقِي).. وقُبالَةَ هذا السُّوقِ (الْقَرَوِيِّينَ) أقْدَمُ جامِعَةٍ إسْلامِيَّةٍ في تاريـخِ الْعالَمِ، بَنَتْها فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ الْفِهْري الْقيرَواني، الْمُلَقَّبَةُ بِـ«أُمِّ الْبَنينَ» سَنَةَ 859 ميلادِيَّةً. ودَرَسَ فيها الْفَرَنْسي سِلْفِسْتِرْ الثَّاني، فَنَقَلَ مِنْها إلى أوربَّا الأرْقامَ الْعَرَبِيَّةَ (1، 2،3،4،5...)..!
سَألْتُهُ، وعَيْنايَ تُحَمْلِقانِ في الْفَواكِهِ الْمَعْروضَةِ بِواجِهَةِ الدَّكاكينِ، ويَدايَ تُطَبْطِبانِ على بَطْني: حَسَنًا، صَديقي!.. وماذا يوجَدُ وَراءَ هذا السُّوقِ الَّذي يُغْري الْبُطونَ بِالأَكْلِ؟!
أجابَني بِابْتِسامَةٍ: يوجَدُ خَلْفَهُ ضَريحُ الْمَوْلى إدْريسَ الثاني، باني مَدينَةِ فاسٍ في 4 يَنايَر 808.. وساحَةُ النَّجَّارينَ، الَّتي تُؤَدِّي إلى زُقاقِ الْحَجَرِ، وهُناكَ وُلِدَ الْوَلِيُّ أحْمَدُ الْبَدَوي، الَّذي هاجَرَ إلى مَدينَةِ طَنْطا بِمِصْرَ، وتُوُفِّيَ بِها..!
سِرْنا قَليلًا، فَوَجَدْنا مَدارِسَ تاريـخِيَّةً، مِنْها مَدْرَسَةُ الصَّفَّارينَ، والْعَطَّارينَ، والْمِصْباحِيَّةُ، والْعِنانِيَّةُ!.. ولَمَّا خَرَجْنا مِنْ بابِ الْمَدينَةِ الضَّخْمِ (أبو الْجُنودِ) وَجَدْنا (جِنانَ السَّبيلِ) الْحَديقَةَ الأنْدَلُسِيَّةَ، الَّتي تَصِلُ مِساحَتُها إلى ثَمانِيَةَ هِكْتاراتٍ، وبِها أكْثَرُ مِنْ ألْفِ فَصيلَةٍ نَباتِيَّةٍ، كَالْعُشْبَةِ الْعِمْلاقَةِ (الْخَيْزُرانِ).. كما تُزَيِّنُها أشْكالٌ مِنَ الزُّهورِ الْمُلَوَّنَةِ، قَلَّما نَراها في بَلَدٍ آخَرَ!
رَكِبْنا حافِلَةً، فَتَوَجَّهَتْ بِنا إلى مَدينَةِ مَكْناسَ، الَّتي تَحُفُّها أشْجارُ الزَّيْتونِ، وأسْوارُ ضَخْمَةٌ، كانَتْ تَحْميها عَبْرَ الْعُصورِ، فَأصْبَحَتِ الْيَوْمَ مِنَ الآثارِ الَّتي يَزورُها السُّيَّاحُ، لِيَعْرِفوا عَظَمَةَ الْمَغارِبَةِ في التَّشْييدِ. كما أنَّ لِلْمَدينَةِ أبوابًا، مِنْها (مَنْصورُ الْعَلْجِ) الَّذي تُزَيِّنُهُ النُّقوشُ، وتَمْتَدُّ حَوْلَهُ (ساحَةُ الْهديـمِ).. وبِالْقُرْبِ مِنْها (حَديقةُ الْحُبولِ) الْفاتِنةُ بِوُردِها وزُهورِها. وكَمْ سَرَّني أنْ أُشاهِدَ مَسْبَحًا كَبيرًا، كَأنَّهُ سَدٌّ، يُسَمَّى (صِهْريـجَ السَّواني) بُنِيَ عامَ 1695 لِتَزْويدِ الْخُيولِ والْحُقولِ والْبَساتينِ والدُّورِ والْمَساجدِ والْحَمَّاماتِ بالْماءِ النَّقي. ولَمَّا بَلَغْنا مَحَطَّةَ الْقِطارِ (الأميرِ عَبْدِالْقادِرِ) سَألَني: هَلْ تُريدُ أنْ تَزورَ مَدينَةَ (الرِّباطِ)؟
كِدْتُ أطيرُ فَرَحًا، فَأجَبْتُهُ: كَيْفَ لا أزورُها، وهِيَ عاصِمَةُ الْمَغْرِبِ، أَسَّسَها يَعْقوبُ بْنُ الْمَنْصورِ سَنَة 593. وَكانَ اسْمُها (رِباطُ الْفَتْحِ) أَيْ (مُعَسْكَرَ النَّصْرِ)؟!
حينًا، رَكِبْنا الْقِطارَ، فَمَرَّ بِنا عَبْرَ مُدُنِ سَيِّدي قاسِمٍ، وسيِّدي سُلَيْمانَ، وسَيِّدي يَحْيى، والْقُنَيْطِرَةِ، وسَلا، ثُمَّ تَوَقَّفَ بِالرِّباطِ، فَقابَلَنا بابُ الأحَدِ بِحَرَكَتِهِ النَّشيطةِ؛ فَهُناكَ باعَةُ الْمَلابِسِ التَّقْليدِيَّةِ والْعَصْرِيَّةِ، والأَجْهِزَةِ الرَّقْمِيَّةِ والْجَرائِدِ والْمَجَلاَّتِ، وعلى أرْصِفَتِهِ، مَطاعِمُ شَعْبِيَّةٌ مُصْطَفَّةُ. وقُبالَتُهُ توجَدُ (نُزْهَةُ حَسَّانَ) وهِيَ حَديقَةٌ فَسيحَةٌ (واسِعَةٌ) بُنِيَتْ سَنَةَ 1924 تَسُرُّ الزَّائرينَ بِأشْجارِها وأزْهارِها الْمُتَنَوِّعَةِ. كما شاهَدْنا صَوْمَعَةَ حَسَّانَ، الَّتي تَرْتَفِعُ بِأرْبَعَةٍ وأرْبَعينَ مِتْرًا، وتُطِلُّ على الضِّفَّةِ الْجَنوبِيَّةِ لِنَهْرِ أبي رَقْراقٍ. وهِيَ إِحْدَى الأَخَواتِ الْمُوَحِّدِيَّاتِ الثَّلاَثِ: أَلْخيرالْدا في أَشْبيلْيةَ، الْكُتُبِيَّةُ في مُرَّاكُشَ، وهَذِهِ في الرِّباطِ. و(حَسَّانُ) مَسْجِدٌ، مِساحَتُهُ سِتَّةٌ وَعِشْرونَ أَلْفَ مِتْرٍ مُرَبَّعٍ، وَطولُهُ ماِئَةٌ وَسِتَّةٌ وَثَمانونَ مِتْرًا، وَعَرْضُهُ مِائَةٌ وَاثْنانِ وَأَرْبَعونَ مِتْرًا. سَرَّحْنا بَصَرَنا، فَظَهَرَ لَنا أَبورَقْراقٍ يَجْري بِمِياهِهِ لِيَلْتَقِيَ بِالْمُحيطِ الأَطْلَسِيِّ. وَعَلى ضِفَّتَيْهِ قَوارِبُ تَنْقُلُ النَّاسَ بَيْنَ سَلاَ وَالرِّباطِ. ونَظَرْنا إلى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَراقَتْنا (قَصَبَةُ الأُودايَةِ) أَوِ (الْمَهْدِيَّةُ) نِسْبَةً إلى الْمَهْدِيِّ بْنِ تومَرْتَ، تُطِلُّ عَلى أَبي رَقْراقٍ وَالْمُحيطِ الأَطْلَسِيِّ، وَتَحْميها أَبْراجٌ، كَبُرْجِ الدَّارِ وَبُرْجِ الْمُحيطِ. ثُمَّ نَظَرْنا إلى الْجِهَةِ الشَّرْقِـيَّةِ، فَرَأَيْنا (مَدينَةَ شالَّةَ) بَيْنَ بَساتِينِها الْغَـنَّاءِ، وأَطْلالَ بَني مَرينٍ وَقُبورَ مُلوكِهِمُ الْعُظَماءِ.
عُدْنا إلى الْقِطارِ، فقَصَدْنا الدَّارَ الْبَيْضاءَ، الْعاصِمَةَ الاِقْتِصادِيَّةَ، فَميناؤُها مِنْ أَكْبَرِ الْمَوانِئِ الإِفْريقِيَّةِ، والْعاشِرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوانِئِ الأُوربِّيَّةِ، طولُ أَرْصِفَتِهِ ثَمانِيَةٌ وَأَرْبَعونَ أَلْفًا وَسَبْعُمِائَةِ مِتْرٍ، وَعُمْقُهُ يَصِلُ إلى عَشْرَةَ أَمْتارٍ!..إِنَّها عَروسُ الْمُحيطِ الأَطْلَسِيِّ، فَشَواطِئُها جَذَّابَةٌ، ذاتُ رِمالٍ ذَهَبِيَّةٍ: هَذا شاطِئُ (عَيْنِ الذِّئابِ) وَذاكَ شاطِئُ (سَيِّدي عَبْدِالرَّحْمانِ) وهَذِهِ (حَديقَةُ الْجامِعَةِ الْعَرَبِيَّةِ) وتِلْكَ حَدائِقُ (ليرْميطاجَ) وهاتِ، يا حَدائِقُ...!
والدَّارُ الْبَيْضاءُ، وإنْ كانَتْ تَظْهَرُ حَديثَةَ الْبِناءِ بِعِماراتِها الْعالِيَةِ، وشَوارِعِها الْواسِعَةِ، وأسْواقِها التِّجارِيَّةِ، فَهِيَ قَديـمَةٌ جِدًاّ، إذْ كانَتْ سوقًا لِلْفينيقِيِّينَ، يُسَمُّونَها (أنْفا) وهِيَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ على الرَّبْوَةِ، وتَعْني الأَرْضَ الْمُرْتَفِعَةَ قَليلًا.
وإذا كانَتِ الدَّارُ الْبَيْضاءُ عَروسَ الْمُحيطِ الأَطْلَسي، فإنَّ مُرَّاكُشَ عَروسُ الْجَنوبِ، تُحيطُ بِها أشْجارُ النَّخيلِ. فَهِيَ الْمَدينَةُ الْمَغْرِبِيَّةُ الَّتي يَأْتيها السُّيَّاحُ مِنَ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ والأُوربِّيَّةِ والأَمْريكِيَّةِ والآسْيَوِيَّةِ، لِلتَّمَتُّعِ بِجَمالِ طَبيعَتِها السَّاحِرِ، وجَوِّها الدَّافِئِ، وآثارِها التَّاريـخِيَّةِ الْعَظيمَةِ، وسُكَّانِها الْمَرِحينَ الْفَكِهينَ. وأوَّلُ ما يُدْهِشُكَ فيها (جامِعُ الْفِناءِ) أيْ ساحَةُ الْمَسْجِدِ، الَّتي كانَ الْحُكَّامُ والْقَبائِلُ والْجُنودُ يَجْتَمِعونَ فيها، ويُقيمونَ الْمُناسَباتِ الدِّينِيَّةَ والْوَطَنِيَّةَ، ولَيْسَ كما يَظُنُّ الْبَعْضُ (جامِعُ الْفَناءُ) ـ نِهايَةُ الْحَياةِ، بَلْ بِدايَتُها لِوُجودِ ألْعابٍ وأنْشِطَةٍ رِياضِيَّةٍ وفَنِّيَّةِ وتَمْثيلِيَّةٍ وبَهْلَوانِيَّةٍ... وأمامَها تَجِدُ مَسْجِدَ الْكُتُبِيَّةِ، الَّذي بَناهُ الْخَليفَةُ الْمُوَحِّدِيُّ عَبْدُالْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ الْكومي، وشَيَّدَ صَوْمَعَتَهُ الْمَلِكُ يَعْقوبُ الْمَنْصورُ سَنَةَ 594 هِجْرِيَّةً. وتَفْخَرُ هَذِهِ الْمَدينَةُ بِمَدارِسِها التَّاريـخِيَّةِ، كَاليوسُفِيَّةِ والْعَبَّاسِيَّةِ، وحَدائِقِها كَعَرْصَةِ مَوْلايَ عَبْدِالسَّلامِ.
ولَمَّا دَخَلْتُ (حَديقَةَ الْحارِثي) لَمْ يَسَعْني إلاَّ أنْ أُلْقِيَ بِجِسْمي فَوْقَ كُرْسِيٍّ طَويلٍ، أتَأمَّلُ الْوَردَ والزُّهورَ حَوْلي، والطُّيورَ والْعَصافيرَ فَوْقي، فَقالَ صَديقي: يَظْهَرُ لي أنَّكَ تَشْعُرُ بِالتَّعَبِ، فَهَيَّا إلى بَيْتي، تُمْضِي مَعي أيَّامًا، لِتَزورَ خِلالَها مُدُنا أُخْرى، فَأنْتَ لَمْ تُشاهِدْ عَدَدًا كَبيرًا مِنْها، مِثْلَ طَنْجَةَ وتِطْوانَ وأَصيلا والْقَصْرِ الْكَبيرِ وشَفْشاوُنَ، والنَّاظورِ والْحُسَيْمَةِ ووَجْدَةَ وفِجيجَ وتازَةَ، وبَني مَلاَّلٍ وأزْرو وإفْرانَ، والدَّاخِلَةِ والْعُيونِ وأغاديرَ وتارودانْتَ وتِزْنيتَ وسَيِّدي إفْني، وغَيْرُها كَثيرٌ لا يُحْصى (لا يُعَد)...!
أجَبْتُهُ، والنَّوْمُ يُداعِبُ عَيْنَيَّ (يُلاعِبُهُما): حَقًاّ ما قُلْتَ، صَديقي!..سَأعودُ ثانِيَةً لأَزورَ الْمُدُنَ الأُخْرى، ويا لَيْتَني أجِدُ مَنْ يَحِنُّ عَلَيَّ فَيَحْمِلَني الآنَ إلى بَلَدي!
في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، نَطَقَتْ وَرْدَةٌ بَيْضاءُ: كَيْفَ لا نُلَبِّي طَلَبَكَ، وأنْتَ أنْقَذْتَ أُخْتَنا مِنَ الذُبولِ؟!.. اِسْتَعِدَّ، أيُّها الْوَلَدُ الْمُحْسِنُ، لِتَرْجِعَ حالًا إلى بَلَدِكَ!
قالَتِ الْوَرْدَةُ، وأطْلَقَتْ أريـجَها الزَّكِيَّ، فَغَلَفَني مِنْ كُلِّ جوانِبي، ثُمَّ صَعِدَ بي (عَلا) في الْجَوِّ..!
رسوم: عبدالله درقاوي