المغرب.. بَلَدُ الآثارِ والأزْهارِ!

المغرب..  بَلَدُ الآثارِ والأزْهارِ!

  ‬ذاتَ‭ ‬مَساءٍ،‭ ‬بَيْنَما‭ ‬كُنْتُ‭ ‬أتَمَشَّى‭ ‬في‭ ‬الْحَديقَةِ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬شَجَرِها‭ ‬الظَّليلِ،‭ ‬لَفَتَتْ‭ ‬نَظَري‭ ‬وَرْدَةٌ‭ ‬ذابِلَةٌ،‭ ‬فَأخْرَجْتُ‭ ‬قِنِّينَةَ‭ ‬ماءٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬مِحْفَظَتي‭ ‬الظَّهْرِيَّةِ،‭ ‬ورَشَشْتُ‭ ‬تُرْبَتَها‭ ‬بِقَطَراتٍ،‭ ‬فَانْتَعَشَتِ‭ (‬نَشِطَتْ‭) ‬حينًا،‭ ‬وعادَتْ‭ ‬نَضارَتُها‭ (‬حُسْنُها‭) ‬إلى‭ ‬وُرَيْقاتِها،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬فاحَتْ‭ ‬بِأريـجِها‭ ‬الزَّكِيِّ‭ (‬طيبِها‭ ‬الْكَثيرِ‭) ‬قائلَةً‭ ‬في‭ ‬سُرورٍ‭: ‬شُكْرا،‭ ‬صَديقي،‭ ‬على‭ ‬عَطْفِكَ‭ ‬وإحْسانِكَ‭!.. ‬لِيَكُنْ‭ ‬أريـجي‭ ‬مُكافَأةً‭ ‬على‭ ‬إنْقاذِكَ‭ ‬لي‭ ‬مِنَ‭ ‬الذُّبولِ،‭ ‬فَلَوْلاكَ‭ ‬لَمَا‭ ‬عُدْتُ‭ ‬أُعَطِّرُ‭ ‬الْجَوَّ‭ ‬بِطيبي،‭ ‬وأَسُرُّ‭ ‬النَّاظِرينَ‭ ‬بِشَكْلي‭ ‬ولَوْني‭ ‬الْجَميلَيْنِ‭!‬

  ‬في‭ ‬ذَلِكَ‭ ‬الْحينِ،‭ ‬غَلَّفَني‭ ‬أريـجُها،‭ ‬مِنْ‭ ‬رَأسي‭ ‬إلى‭ ‬أخْمُصِ‭ ‬قَدَمي‭ (‬باطِنِهما‭) ‬كَأنَّني‭ ‬داخِلَ‭ ‬سَحابَةٍ،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬عَلا‭ ‬بي‭ ‬شَيْئًا‭ ‬فَشَيْئًا‭ ‬في‭ ‬الْجَـوِّ،‭ ‬وسارَ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬الطُّيورِ‭ ‬الْمُحَلِّقَةِ،‭ ‬تَشُمُّ‭ ‬الأَريجَ‭ ‬تارَةً،‭ ‬تُغَرِّدُ‭ ‬بِصَوْتِها‭ ‬الْعَذْبِ‭ ‬تارَةً‭ ‬أُخْرى‭. ‬ولَمْ‭ ‬أُحِسَّ‭ ‬بِمُرورِ‭ ‬الْوَقْتِ،‭ ‬أوْ‭ ‬أَنْتَبِهْ‭ ‬مِنْ‭ ‬دَهْشَتي،‭ ‬حَتَّى‭ ‬وَجَدْتُ‭ ‬نَفْسي‭ ‬فَوْقَ‭ ‬أرْضٍ‭ ‬خَضْراءَ،‭ ‬كُلُّها‭ ‬أشْجارٌ‭ ‬وأزْهارٌ‭ ‬وبَيْنَ‭ ‬أطْفالٍ‭ ‬في‭ ‬سِنِّي،‭ ‬يَحْمِلونَ‭ ‬عَلَمًا‭ ‬أحْمَرَ،‭ ‬تَتَوَسَّطُهُ‭ ‬نَجْمَةٌ‭ ‬خَضْراءُ،‭ ‬ويُرَحِّبونَ‭ ‬بي‭: ‬أهْلًا‭ ‬وسَهْلًا‭ ‬بِأخينا‭ ‬الْعَرَبِيِّ‭!..‬اِطْمَئِنَّ‭ ‬ولا‭ ‬تَقْلَقْ،‭ ‬فَأنْتَ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬أيْدي‭ ‬إخْوَتِكَ،‭ ‬وفي‭ ‬بِلادِ‭ ‬الْمَغْرِبِ‭ ‬الآمِنَةِ،‭ ‬الَّّتي‭ ‬تُكْرِمُ‭ ‬ضُيوفَها،‭ ‬كَما‭ ‬أكْرَمْتَ‭ ‬الْوَرْدَةَ‭ ‬الذَّابِلةَ‭!                                      

  ‬اِقْتَرَبَتْ‭ ‬مِنِّي‭ ‬طِفْلَةٌ،‭ ‬تَرْتَدي‭ ‬قُفْطانًا‭ ‬مُزَرْكَشًا‭ (‬مُزَيَّنًا‭)  ‬بالأَلْوانِ،‭ ‬وقَدَّمَتْ‭ ‬لي‭ ‬صينِيَّةً‭ ‬فِضِّيَّةً،‭ ‬تَحْتَوي‭ ‬على‭ ‬صَحْنٍ‭ ‬بِهِ‭ ‬تَمْرٌ‭ ‬مَحْشُوٌّ‭ ‬بِاللَّوْزِ‭ ‬والْجَوْزِ،‭ ‬وسُلْطانِيَّةٍ‭ ‬مَمْلوءَةٍ‭ ‬بِالْحَليبِ‭ ‬الطّبيعي‭.‬

‭ ‬ثُمَّ‭ ‬أخَذَني‭ ‬أخوها‭ ‬مِنْ‭ ‬يَدي،‭ ‬ومَشى‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬دُروبِ‭ ‬وأزِقَّةِ‭ ‬مَدينَةِ‭ ‬فاسٍ،‭ ‬الْعاصِمَةِ‭ ‬الْعِلْمِيَّةِ‭ ‬لِلْمَغْرِبِ‭.            ‬‭                     

  ‬وفَجْأةً،‭ ‬أشارَ‭ ‬ضاحِكًا‭ ‬إلى‭ ‬أمْكِنَةٍ‭ ‬ضَيِّقةٍ،‭ ‬وهُوَ‭ ‬يُسَمِّيها‭: ‬هذا‭ ‬دَرْبُ‭ ‬مِشْمِشَةٍ،‭ ‬وذاكَ‭ ‬زُقاقُ‭ ‬الرُّمَّانِ،‭ ‬وهَذِهِ‭ ‬رَحْبَةُ‭ ‬الزَّبيبِ،‭ ‬وهذا‭ ‬بابُ‭ ‬الْخَوْخَةِ،‭ ‬وهذا‭ ‬حَيُّ‭ ‬بُرْقوقَةٍ،‭ ‬وذاكَ‭ ‬دَرْبُ‭ ‬التُّوتَةِ،‭ ‬وهذا‭ ‬جامِعُ‭ ‬الأُتْرُنْجِ‭ (‬حامِضٌ‭)!     ‬‭                      

فَكَّرْتُ‭ ‬قَليلًا،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬قاطَعْتُهُ‭ ‬باسِمًا‭: ‬

‭- ‬لَقَدْ‭ ‬فَهِمْتُ‭!.. ‬تَقْصِدُ‭ ‬أنَّ‭ ‬كَثيرًا‭ ‬مِنْ‭ ‬أماكِنِ‭ ‬الْمَدينَةِ‭ ‬تُطْلَقُ‭ ‬عَلَيْها‭ ‬أسْماءُ‭ ‬الْفَواكِهِ‭!                      ‬‭                       

  - ‬أجَلْ،‭ ‬صَديقي‭!.. ‬كما‭ ‬تُطْلَقُ‭ ‬عَلَيْها‭ ‬أسْماءُ‭ ‬الْحَيَواناتِ،‭ ‬كَمَسْجِدِ‭ ‬الْحوتِ،‭ ‬ومَسْجِدِ‭ ‬سَيِّدي‭ ‬حَمامَةٍ،‭ ‬وعَيْنِ‭ ‬الْبَغْلِ،‭ ‬وعُقَيْبَةِ‭ ‬الْفِئْرانِ،‭ ‬وعَيْنِ‭ ‬الْخَيْلِ،‭ ‬وجِنانِ‭ ‬الْقُرودِ،‭ ‬ودَرْبِ‭ ‬الْحَنَشِ،‭ ‬وسِقايَةِ‭  ‬الكِلابِ‭..!‬

وهَكَذا‭ ‬سِرْنا‭ ‬مِنْ‭ ‬حَيٍّ‭ ‬إلى‭ ‬حَيٍّ،‭ ‬حَتَّى‭ ‬بَلَغْنا‭ ‬مَكانًا‭ ‬يَتَلأْلأُ‭ ‬بِأضْواءِ‭ ‬الشُّموعِ‭ ‬الْمُلَوَّنَةِ،‭ ‬فَتَوَقَّفَ‭ ‬بِمَدْخَلِهِ‭:  ‬هذا‭ ‬سوقُ‭ ‬الْفَواكِهِ‭ ‬الْجافَّةِ،‭ ‬ويُسَمَّى‭ (‬الشَّمَّاعينَ‭) ‬نَشَأ‭ ‬فيهِ‭ ‬الْجُغْرافِيُّ‭ ‬الْعَرَبِيُّ‭ ‬الْكَبيرُ‭ ‬الْحَسَنُ‭ ‬الْوَزَّانُ‭ (‬لْيونْ‭ ‬الإفْريقِي‭).. ‬وقُبالَةَ‭ ‬هذا‭ ‬السُّوقِ‭ (‬الْقَرَوِيِّينَ‭) ‬أقْدَمُ‭ ‬جامِعَةٍ‭ ‬إسْلامِيَّةٍ‭ ‬في‭ ‬تاريـخِ‭ ‬الْعالَمِ،‭ ‬بَنَتْها‭ ‬فاطِمَةُ‭ ‬بِنْتُ‭ ‬مُحَمَّدٍ‭ ‬الْفِهْري‭ ‬الْقيرَواني،‭ ‬الْمُلَقَّبَةُ‭ ‬بِـ«أُمِّ‭ ‬الْبَنينَ‮»‬‭ ‬سَنَةَ‭ ‬859‭ ‬ميلادِيَّةً‭. ‬ودَرَسَ‭ ‬فيها‭ ‬الْفَرَنْسي‭ ‬سِلْفِسْتِرْ‭ ‬الثَّاني،‭ ‬فَنَقَلَ‭ ‬مِنْها‭ ‬إلى‭ ‬أوربَّا‭ ‬الأرْقامَ‭ ‬الْعَرَبِيَّةَ‭ (‬1،‭ ‬2،3،4،5‭...)..!         

سَألْتُهُ،‭ ‬وعَيْنايَ‭ ‬تُحَمْلِقانِ‭ ‬في‭ ‬الْفَواكِهِ‭ ‬الْمَعْروضَةِ‭ ‬بِواجِهَةِ‭ ‬الدَّكاكينِ،‭ ‬ويَدايَ‭ ‬تُطَبْطِبانِ‭ ‬على‭ ‬بَطْني‭: ‬حَسَنًا،‭ ‬صَديقي‭!.. ‬وماذا‭ ‬يوجَدُ‭ ‬وَراءَ‭ ‬هذا‭ ‬السُّوقِ‭ ‬الَّذي‭ ‬يُغْري‭  ‬الْبُطونَ‭ ‬بِالأَكْلِ؟‭!‬

أجابَني‭ ‬بِابْتِسامَةٍ‭: ‬يوجَدُ‭ ‬خَلْفَهُ‭ ‬ضَريحُ‭ ‬الْمَوْلى‭ ‬إدْريسَ‭ ‬الثاني،‭ ‬باني‭ ‬مَدينَةِ‭ ‬فاسٍ‭ ‬في‭ ‬4‭ ‬يَنايَر‭ ‬808‭.. ‬وساحَةُ‭ ‬النَّجَّارينَ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تُؤَدِّي‭ ‬إلى‭ ‬زُقاقِ‭ ‬الْحَجَرِ،‭ ‬وهُناكَ‭ ‬وُلِدَ‭ ‬الْوَلِيُّ‭ ‬أحْمَدُ‭ ‬الْبَدَوي،‭ ‬الَّذي‭  ‬هاجَرَ‭ ‬إلى‭ ‬مَدينَةِ‭ ‬طَنْطا‭ ‬بِمِصْرَ،‭ ‬وتُوُفِّيَ‭ ‬بِها‭..!‬

سِرْنا‭ ‬قَليلًا،‭ ‬فَوَجَدْنا‭ ‬مَدارِسَ‭ ‬تاريـخِيَّةً،‭ ‬مِنْها‭ ‬مَدْرَسَةُ‭ ‬الصَّفَّارينَ،‭ ‬والْعَطَّارينَ،‭ ‬والْمِصْباحِيَّةُ،‭ ‬والْعِنانِيَّةُ‭!.. ‬ولَمَّا‭ ‬خَرَجْنا‭ ‬مِنْ‭ ‬بابِ‭ ‬الْمَدينَةِ‭ ‬الضَّخْمِ‭ (‬أبو‭ ‬الْجُنودِ‭) ‬وَجَدْنا‭ (‬جِنانَ‭ ‬السَّبيلِ‭) ‬الْحَديقَةَ‭ ‬الأنْدَلُسِيَّةَ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تَصِلُ‭ ‬مِساحَتُها‭ ‬إلى‭ ‬ثَمانِيَةَ‭ ‬هِكْتاراتٍ،‭ ‬وبِها‭ ‬أكْثَرُ‭ ‬مِنْ‭ ‬ألْفِ‭ ‬فَصيلَةٍ‭ ‬نَباتِيَّةٍ،‭ ‬كَالْعُشْبَةِ‭ ‬الْعِمْلاقَةِ‭ (‬الْخَيْزُرانِ‭).. ‬كما‭ ‬تُزَيِّنُها‭ ‬أشْكالٌ‭ ‬مِنَ‭ ‬الزُّهورِ‭ ‬الْمُلَوَّنَةِ،‭ ‬قَلَّما‭ ‬نَراها‭ ‬في‭ ‬بَلَدٍ‭ ‬آخَرَ‭!     

  ‬رَكِبْنا‭ ‬حافِلَةً،‭ ‬فَتَوَجَّهَتْ‭ ‬بِنا‭ ‬إلى‭ ‬مَدينَةِ‭ ‬مَكْناسَ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تَحُفُّها‭ ‬أشْجارُ‭ ‬الزَّيْتونِ،‭ ‬وأسْوارُ‭ ‬ضَخْمَةٌ،‭ ‬كانَتْ‭ ‬تَحْميها‭ ‬عَبْرَ‭ ‬الْعُصورِ،‭ ‬فَأصْبَحَتِ‭ ‬الْيَوْمَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الآثارِ‭ ‬الَّتي‭ ‬يَزورُها‭ ‬السُّيَّاحُ،‭ ‬لِيَعْرِفوا‭ ‬عَظَمَةَ‭ ‬الْمَغارِبَةِ‭ ‬في‭ ‬التَّشْييدِ‭. ‬كما‭ ‬أنَّ‭ ‬لِلْمَدينَةِ‭ ‬أبوابًا،‭ ‬مِنْها‭ (‬مَنْصورُ‭ ‬الْعَلْجِ‭) ‬الَّذي‭ ‬تُزَيِّنُهُ‭ ‬النُّقوشُ،‭ ‬وتَمْتَدُّ‭ ‬حَوْلَهُ‭ (‬ساحَةُ‭ ‬الْهديـمِ‭).. ‬وبِالْقُرْبِ‭ ‬مِنْها‭ (‬حَديقةُ‭ ‬الْحُبولِ‭) ‬الْفاتِنةُ‭  ‬بِوُردِها‭ ‬وزُهورِها‭. ‬وكَمْ‭ ‬سَرَّني‭ ‬أنْ‭ ‬أُشاهِدَ‭ ‬مَسْبَحًا‭ ‬كَبيرًا،‭ ‬كَأنَّهُ‭ ‬سَدٌّ،‭ ‬يُسَمَّى‭ (‬صِهْريـجَ‭ ‬السَّواني‭) ‬بُنِيَ‭ ‬عامَ‭ ‬1695‭ ‬لِتَزْويدِ‭ ‬الْخُيولِ‭ ‬والْحُقولِ‭ ‬والْبَساتينِ‭ ‬والدُّورِ‭ ‬والْمَساجدِ‭ ‬والْحَمَّاماتِ‭ ‬بالْماءِ‭ ‬النَّقي‭.  ‬ولَمَّا‭ ‬بَلَغْنا‭ ‬مَحَطَّةَ‭ ‬الْقِطارِ‭ (‬الأميرِ‭ ‬عَبْدِالْقادِرِ‭) ‬سَألَني‭: ‬هَلْ‭ ‬تُريدُ‭ ‬أنْ‭ ‬تَزورَ‭ ‬مَدينَةَ‭ (‬الرِّباطِ‭)‬؟

  ‬كِدْتُ‭ ‬أطيرُ‭ ‬فَرَحًا،‭ ‬فَأجَبْتُهُ‭: ‬كَيْفَ‭ ‬لا‭ ‬أزورُها،‭ ‬وهِيَ‭ ‬عاصِمَةُ‭ ‬الْمَغْرِبِ،‭ ‬أَسَّسَها‭ ‬يَعْقوبُ‭ ‬بْنُ‭ ‬الْمَنْصورِ‭ ‬سَنَة‭ ‬593‭. ‬وَكانَ‭ ‬اسْمُها‭ (‬رِباطُ‭ ‬الْفَتْحِ‭) ‬أَيْ‭ (‬مُعَسْكَرَ‭ ‬النَّصْرِ‭)‬؟‭!‬

  ‬حينًا،‭ ‬رَكِبْنا‭ ‬الْقِطارَ،‭ ‬فَمَرَّ‭ ‬بِنا‭ ‬عَبْرَ‭ ‬مُدُنِ‭ ‬سَيِّدي‭ ‬قاسِمٍ،‭ ‬وسيِّدي‭ ‬سُلَيْمانَ،‭ ‬وسَيِّدي‭ ‬يَحْيى،‭ ‬والْقُنَيْطِرَةِ،‭ ‬وسَلا،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬تَوَقَّفَ‭ ‬بِالرِّباطِ،‭ ‬فَقابَلَنا‭ ‬بابُ‭ ‬الأحَدِ‭ ‬بِحَرَكَتِهِ‭ ‬النَّشيطةِ؛‭ ‬فَهُناكَ‭ ‬باعَةُ‭ ‬الْمَلابِسِ‭ ‬التَّقْليدِيَّةِ‭ ‬والْعَصْرِيَّةِ،‭ ‬والأَجْهِزَةِ‭ ‬الرَّقْمِيَّةِ‭ ‬والْجَرائِدِ‭ ‬والْمَجَلاَّتِ،‭ ‬وعلى‭ ‬أرْصِفَتِهِ،‭ ‬مَطاعِمُ‭ ‬شَعْبِيَّةٌ‭ ‬مُصْطَفَّةُ‭.‬‭ ‬وقُبالَتُهُ‭ ‬توجَدُ‭ (‬نُزْهَةُ‭ ‬حَسَّانَ‭) ‬وهِيَ‭ ‬حَديقَةٌ‭ ‬فَسيحَةٌ‭ (‬واسِعَةٌ‭)  ‬بُنِيَتْ‭ ‬سَنَةَ‭ ‬1924‭ ‬تَسُرُّ‭ ‬الزَّائرينَ‭ ‬بِأشْجارِها‭ ‬وأزْهارِها‭ ‬الْمُتَنَوِّعَةِ‭. ‬كما‭ ‬شاهَدْنا‭ ‬صَوْمَعَةَ‭ ‬حَسَّانَ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تَرْتَفِعُ‭ ‬بِأرْبَعَةٍ‭ ‬وأرْبَعينَ‭ ‬مِتْرًا،‭ ‬وتُطِلُّ‭ ‬على‭ ‬الضِّفَّةِ‭ ‬الْجَنوبِيَّةِ‭ ‬لِنَهْرِ‭ ‬أبي‭ ‬رَقْراقٍ‭. ‬وهِيَ‭ ‬إِحْدَى‭ ‬الأَخَواتِ‭ ‬الْمُوَحِّدِيَّاتِ‭ ‬الثَّلاَثِ‭: ‬أَلْخيرالْدا‭ ‬في‭ ‬أَشْبيلْيةَ،‭ ‬الْكُتُبِيَّةُ‭ ‬في‭ ‬مُرَّاكُشَ،‭ ‬وهَذِهِ‭ ‬في‭ ‬الرِّباطِ‭. ‬و‭(‬حَسَّانُ‭) ‬مَسْجِدٌ،‭ ‬مِساحَتُهُ‭ ‬سِتَّةٌ‭ ‬وَعِشْرونَ‭ ‬أَلْفَ‭ ‬مِتْرٍ‭ ‬مُرَبَّعٍ،‭ ‬وَطولُهُ‭ ‬ماِئَةٌ‭ ‬وَسِتَّةٌ‭ ‬وَثَمانونَ‭ ‬مِتْرًا،‭ ‬وَعَرْضُهُ‭ ‬مِائَةٌ‭ ‬وَاثْنانِ‭ ‬وَأَرْبَعونَ‭ ‬مِتْرًا‭. ‬سَرَّحْنا‭ ‬بَصَرَنا،‭ ‬فَظَهَرَ‭ ‬لَنا‭ ‬أَبورَقْراقٍ‭ ‬يَجْري‭ ‬بِمِياهِهِ‭ ‬لِيَلْتَقِيَ‭ ‬بِالْمُحيطِ‭ ‬الأَطْلَسِيِّ‭. ‬وَعَلى‭ ‬ضِفَّتَيْهِ‭ ‬قَوارِبُ‭ ‬تَنْقُلُ‭ ‬النَّاسَ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬سَلاَ‭ ‬وَالرِّباطِ‭. ‬ونَظَرْنا‭ ‬إلى‭ ‬الْجِهَةِ‭ ‬الْغَرْبِيَّةِ،‭ ‬فَراقَتْنا‭ (‬قَصَبَةُ‭ ‬الأُودايَةِ‭) ‬أَوِ‭ (‬الْمَهْدِيَّةُ‭) ‬نِسْبَةً‭ ‬إلى‭ ‬الْمَهْدِيِّ‭ ‬بْنِ‭ ‬تومَرْتَ،‭ ‬تُطِلُّ‭ ‬عَلى‭ ‬أَبي‭ ‬رَقْراقٍ‭ ‬وَالْمُحيطِ‭ ‬الأَطْلَسِيِّ،‭ ‬وَتَحْميها‭ ‬أَبْراجٌ،‭ ‬كَبُرْجِ‭ ‬الدَّارِ‭ ‬وَبُرْجِ‭ ‬الْمُحيطِ‭. ‬ثُمَّ‭ ‬نَظَرْنا‭ ‬إلى‭ ‬الْجِهَةِ‭ ‬الشَّرْقِـيَّةِ،‭ ‬فَرَأَيْنا‭ (‬مَدينَةَ‭ ‬شالَّةَ‭) ‬بَيْنَ‭ ‬بَساتِينِها‭ ‬الْغَـنَّاءِ،‭ ‬وأَطْلالَ‭ ‬بَني‭ ‬مَرينٍ‭  ‬وَقُبورَ‭ ‬مُلوكِهِمُ‭ ‬الْعُظَماءِ‭.‬

  ‬عُدْنا‭ ‬إلى‭ ‬الْقِطارِ،‭ ‬فقَصَدْنا‭ ‬الدَّارَ‭ ‬الْبَيْضاءَ،‭ ‬الْعاصِمَةَ‭ ‬الاِقْتِصادِيَّةَ،‭ ‬فَميناؤُها‭ ‬مِنْ‭ ‬أَكْبَرِ‭ ‬الْمَوانِئِ‭ ‬الإِفْريقِيَّةِ،‭ ‬والْعاشِرُ‭ ‬بِالنِّسْبَةِ‭ ‬لِلْمَوانِئِ‭ ‬الأُوربِّيَّةِ،‭ ‬طولُ‭ ‬أَرْصِفَتِهِ‭ ‬ثَمانِيَةٌ‭ ‬وَأَرْبَعونَ‭ ‬أَلْفًا‭ ‬وَسَبْعُمِائَةِ‭ ‬مِتْرٍ،‭ ‬وَعُمْقُهُ‭ ‬يَصِلُ‭ ‬إلى‭ ‬عَشْرَةَ‭ ‬أَمْتارٍ‭!..‬إِنَّها‭ ‬عَروسُ‭ ‬الْمُحيطِ‭ ‬الأَطْلَسِيِّ،‭ ‬فَشَواطِئُها‭ ‬جَذَّابَةٌ،‭ ‬ذاتُ‭ ‬رِمالٍ‭ ‬ذَهَبِيَّةٍ‭: ‬هَذا‭ ‬شاطِئُ‭ (‬عَيْنِ‭ ‬الذِّئابِ‭) ‬وَذاكَ‭ ‬شاطِئُ‭ (‬سَيِّدي‭ ‬عَبْدِالرَّحْمانِ‭) ‬وهَذِهِ‭ (‬حَديقَةُ‭ ‬الْجامِعَةِ‭ ‬الْعَرَبِيَّةِ‭) ‬وتِلْكَ‭ ‬حَدائِقُ‭ (‬ليرْميطاجَ‭) ‬وهاتِ،‭ ‬يا‭ ‬حَدائِقُ‭...!‬

    ‬والدَّارُ‭ ‬الْبَيْضاءُ،‭ ‬وإنْ‭ ‬كانَتْ‭ ‬تَظْهَرُ‭ ‬حَديثَةَ‭ ‬الْبِناءِ‭ ‬بِعِماراتِها‭ ‬الْعالِيَةِ،‭ ‬وشَوارِعِها‭ ‬الْواسِعَةِ،‭ ‬وأسْواقِها‭ ‬التِّجارِيَّةِ،‭ ‬فَهِيَ‭ ‬قَديـمَةٌ‭ ‬جِدًاّ،‭ ‬إذْ‭  ‬كانَتْ‭ ‬سوقًا‭ ‬لِلْفينيقِيِّينَ،‭ ‬يُسَمُّونَها‭ (‬أنْفا‭) ‬وهِيَ‭  ‬كَلِمَةٌ‭ ‬تَدُلُّ‭ ‬على‭ ‬الرَّبْوَةِ،‭ ‬وتَعْني‭ ‬الأَرْضَ‭ ‬الْمُرْتَفِعَةَ‭ ‬قَليلًا‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬كانَتِ‭ ‬الدَّارُ‭ ‬الْبَيْضاءُ‭ ‬عَروسَ‭ ‬الْمُحيطِ‭ ‬الأَطْلَسي،‭ ‬فإنَّ‭ ‬مُرَّاكُشَ‭ ‬عَروسُ‭ ‬الْجَنوبِ،‭ ‬تُحيطُ‭ ‬بِها‭ ‬أشْجارُ‭ ‬النَّخيلِ‭.‬‭ ‬فَهِيَ‭ ‬الْمَدينَةُ‭ ‬الْمَغْرِبِيَّةُ‭ ‬الَّتي‭ ‬يَأْتيها‭ ‬السُّيَّاحُ‭ ‬مِنَ‭ ‬الدُّوَلِ‭ ‬الْعَرَبِيَّةِ‭ ‬والأُوربِّيَّةِ‭ ‬والأَمْريكِيَّةِ‭ ‬والآسْيَوِيَّةِ،‭ ‬لِلتَّمَتُّعِ‭ ‬بِجَمالِ‭ ‬طَبيعَتِها‭ ‬السَّاحِرِ،‭ ‬وجَوِّها‭ ‬الدَّافِئِ،‭ ‬وآثارِها‭ ‬التَّاريـخِيَّةِ‭ ‬الْعَظيمَةِ،‭ ‬وسُكَّانِها‭ ‬الْمَرِحينَ‭ ‬الْفَكِهينَ‭. ‬وأوَّلُ‭ ‬ما‭ ‬يُدْهِشُكَ‭ ‬فيها‭ (‬جامِعُ‭ ‬الْفِناءِ‭) ‬أيْ‭ ‬ساحَةُ‭ ‬الْمَسْجِدِ،‭ ‬الَّتي‭ ‬كانَ‭ ‬الْحُكَّامُ‭ ‬والْقَبائِلُ‭ ‬والْجُنودُ‭ ‬يَجْتَمِعونَ‭ ‬فيها،‭ ‬ويُقيمونَ‭ ‬الْمُناسَباتِ‭ ‬الدِّينِيَّةَ‭ ‬والْوَطَنِيَّةَ،‭ ‬ولَيْسَ‭ ‬كما‭ ‬يَظُنُّ‭ ‬الْبَعْضُ‭ (‬جامِعُ‭ ‬الْفَناءُ‭) ‬ـ‭ ‬نِهايَةُ‭ ‬الْحَياةِ،‭ ‬بَلْ‭ ‬بِدايَتُها‭ ‬لِوُجودِ‭ ‬ألْعابٍ‭ ‬وأنْشِطَةٍ‭ ‬رِياضِيَّةٍ‭ ‬وفَنِّيَّةِ‭ ‬وتَمْثيلِيَّةٍ‭ ‬وبَهْلَوانِيَّةٍ‭... ‬وأمامَها‭ ‬تَجِدُ‭ ‬مَسْجِدَ‭ ‬الْكُتُبِيَّةِ،‭ ‬الَّذي‭ ‬بَناهُ‭ ‬الْخَليفَةُ‭ ‬الْمُوَحِّدِيُّ‭ ‬عَبْدُالْمُؤْمِنِ‭ ‬بْنُ‭ ‬عَلِيٍّ‭ ‬الْكومي،‭ ‬وشَيَّدَ‭ ‬صَوْمَعَتَهُ‭  ‬الْمَلِكُ‭ ‬يَعْقوبُ‭ ‬الْمَنْصورُ‭ ‬سَنَةَ‭ ‬594‭ ‬هِجْرِيَّةً‭. ‬وتَفْخَرُ‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْمَدينَةُ‭ ‬بِمَدارِسِها‭ ‬التَّاريـخِيَّةِ،‭ ‬كَاليوسُفِيَّةِ‭ ‬والْعَبَّاسِيَّةِ،‭ ‬وحَدائِقِها‭ ‬كَعَرْصَةِ‭ ‬مَوْلايَ‭ ‬عَبْدِالسَّلامِ‭. ‬

ولَمَّا‭ ‬دَخَلْتُ‭ (‬حَديقَةَ‭ ‬الْحارِثي‭)  ‬لَمْ‭ ‬يَسَعْني‭ ‬إلاَّ‭ ‬أنْ‭ ‬أُلْقِيَ‭ ‬بِجِسْمي‭ ‬فَوْقَ‭ ‬كُرْسِيٍّ‭ ‬طَويلٍ،‭ ‬أتَأمَّلُ‭ ‬الْوَردَ‭ ‬والزُّهورَ‭ ‬حَوْلي،‭ ‬والطُّيورَ‭ ‬والْعَصافيرَ‭ ‬فَوْقي،‭ ‬فَقالَ‭ ‬صَديقي‭: ‬يَظْهَرُ‭ ‬لي‭ ‬أنَّكَ‭ ‬تَشْعُرُ‭ ‬بِالتَّعَبِ،‭ ‬فَهَيَّا‭ ‬إلى‭ ‬بَيْتي،‭ ‬تُمْضِي‭ ‬مَعي‭ ‬أيَّامًا،‭ ‬لِتَزورَ‭ ‬خِلالَها‭ ‬مُدُنا‭ ‬أُخْرى،‭ ‬فَأنْتَ‭ ‬لَمْ‭ ‬تُشاهِدْ‭ ‬عَدَدًا‭ ‬كَبيرًا‭  ‬مِنْها،‭ ‬مِثْلَ‭ ‬طَنْجَةَ‭ ‬وتِطْوانَ‭ ‬وأَصيلا‭ ‬والْقَصْرِ‭ ‬الْكَبيرِ‭ ‬وشَفْشاوُنَ،‭ ‬والنَّاظورِ‭ ‬والْحُسَيْمَةِ‭ ‬ووَجْدَةَ‭ ‬وفِجيجَ‭ ‬وتازَةَ،‭ ‬وبَني‭ ‬مَلاَّلٍ‭ ‬وأزْرو‭ ‬وإفْرانَ،‭ ‬والدَّاخِلَةِ‭ ‬والْعُيونِ‭ ‬وأغاديرَ‭ ‬وتارودانْتَ‭ ‬وتِزْنيتَ‭ ‬وسَيِّدي‭ ‬إفْني،‭ ‬وغَيْرُها‭ ‬كَثيرٌ‭ ‬لا‭ ‬يُحْصى‭ (‬لا‭ ‬يُعَد‭)...!‬

  ‬أجَبْتُهُ،‭ ‬والنَّوْمُ‭ ‬يُداعِبُ‭ ‬عَيْنَيَّ‭ (‬يُلاعِبُهُما‭): ‬حَقًاّ‭ ‬ما‭ ‬قُلْتَ،‭ ‬صَديقي‭!..‬سَأعودُ‭ ‬ثانِيَةً‭ ‬لأَزورَ‭ ‬الْمُدُنَ‭ ‬الأُخْرى،‭ ‬ويا‭ ‬لَيْتَني‭ ‬أجِدُ‭ ‬مَنْ‭ ‬يَحِنُّ‭ ‬عَلَيَّ‭ ‬فَيَحْمِلَني‭ ‬الآنَ‭ ‬إلى‭ ‬بَلَدي‭! ‬

  ‬في‭ ‬تِلْكَ‭ ‬اللَّحْظَةِ،‭ ‬نَطَقَتْ‭ ‬وَرْدَةٌ‭ ‬بَيْضاءُ‭: ‬كَيْفَ‭ ‬لا‭ ‬نُلَبِّي‭ ‬طَلَبَكَ،‭ ‬وأنْتَ‭ ‬أنْقَذْتَ‭ ‬أُخْتَنا‭ ‬مِنَ‭ ‬الذُبولِ؟‭!.. ‬اِسْتَعِدَّ،‭ ‬أيُّها‭ ‬الْوَلَدُ‭ ‬الْمُحْسِنُ،‭ ‬لِتَرْجِعَ‭ ‬حالًا‭ ‬إلى‭ ‬بَلَدِكَ‭!‬

    ‬قالَتِ‭ ‬الْوَرْدَةُ،‭ ‬وأطْلَقَتْ‭ ‬أريـجَها‭ ‬الزَّكِيَّ،‭ ‬فَغَلَفَني‭ ‬مِنْ‭ ‬كُلِّ‭ ‬جوانِبي،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬صَعِدَ‭ ‬بي‭ (‬عَلا‭) ‬في‭ ‬الْجَوِّ‭..!‬

 

  ‬رسوم‭: ‬عبدالله‭ ‬درقاوي