اسكُتـلَنـدا.. أرضُ الخُيولِ!
في الْيَوْمِ الأوَّلِ من عُطْلةِ الرَّبيعِ، نَهَضَ أحمد مبكِرًا، وانْصَرَفَ خارِجًا مِنَ الْبَيْتِ، فَسَمِعَ أنينًا خافِتًا (وَجَعًا ضَعيفًا)!... تَوَقَّفَ لَحْظَةً لِيَتَأكَّدَ مِمَّا سَمِعَهُ، ولَمَّا تَكَرَّرَ الأنينُ، تَتَبَّعَهُ خُطْوَةً خُطْوَةً، حَتَّى دَخَلَ إسْطَبْلًا (حَظيرَةً) فَوَجَدَ حِصانًا بارِكًا على الأرْضِ، والدَّمْعَةُ تِلْوَ الدَّمْعَةِ تَسيلُ على خَدَّيْهِ.
مَسَحَ دُموعَهُ بِمِنْديلٍ شَفَّافٍ (رَقيقٍ جِدًا) ثُمَّ سَألَهُ:
- مِمَّ تَشْكو، صَديقي؟!
رَدَّ الْحِصانُ، وهُوَ يَشْهَقُ:
- لَقَدْ أصابَ قائِمَتي الأمامِيَّةَ الْتِواءٌ، وأنا أجْري، لَمْ أشْعُرْ بِهِ، حَتَّى عُدْتُ إلى الإسْطَبْلِ، فَأخَذَ يُؤْلِمُني!
اِبْتَسَمَ أحْمَدُ، وقامَ واقِفًا:
- لا عَلَيْكَ، صَديقي، سَأَعودُ حالًا، لأُعالِجَكَ مِنْ أَلَمِكَ، كَأنَّ شَيْئًا لَمْ يُصِبْكَ!
أحْضَرَ أحْمَدُ مِنَ الْبَيْتِ مَرْهَمًا ودَهَنَ مَوْضِعَ الاِلْتِواءِ، الْمَرَّةَ تِلْوَ الأُخْرى، فَهَدَأَ الألَمُ، ولَمْ يَعُدِ الْحِصانُ يُحِسُّ بِأيِّ شَيْءٍ!
ولَمَّا أرادَ أنْ يَنْصَرِفَ، حَنى الْحِصانُ ظَهْرَهُ، وقالَ لَهُ:
- تَعالَ، إلى أيْنَ أنْتَ ذاهِبٌ؟!... اِرْكَبْ على ظَهْري بِخِفَّةٍ، أُريدُكَ أنْ تَزورَ بِلادَ الْخُيولِ، مُكافَأةً لَكَ على عِلاجي!
قالَ أحْمَدُ، وهُوَ يَقْفِزُ فَوْقَهُ فَرِحًا:
- شُكْرًا، صَديقي، سَأَصْحَبُكَ إلى أرْضِ الْخُيولِ!.. لَكِنْ، لا يَنْبَغي أنْ تَظُنَّ أنَّني عالَجْتُكَ كَيْ تُكافِئَني، فَأنْتَ مِثْلي، تُحِسُّ بِما أُحِسُّ بِهِ، ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ سُبْحانَهُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}؟!
أكَّدَ الْحِصانُ قائلًا:
- حَقًاّ ما قُلْتَ، يا لَكَ مِنْ طِفْلٍ ذَكِيٍّ!... نَحْنُ الْحَيَواناتِ نُفيدُ الْبَشَرَ، ونُعينُهُمْ في أعْمالِهِمْ!
ظَلَّ الْحِصانُ يَجْري ويَقْفِزُ، يَجْري ويَقْفِزُ مِنْ هُنا إلى هُناكَ، يَصْعَدُ الْجِبالَ، ويَعْبُرُ الأنْهارَ، ويَجْتازُ الصَّحارى، حَتَّى وَصَلَ إلى أرْضٍ مُنْبَسِطةٍ في مَدينةِ (فالْكيريكْ) يُطِلُّ مِنْها رَأْسا حِصانَيْنِ حَديدِيَّيْنِ، فَتَوَقَّفَ عِنْدَهُما، وهُوَ يَلْهَثُ مِنَ الْجَرْيِ والْقَفْزِ:
- هَذانِ هُما رَمْزُ أرْضِ الْخُيولِ (اسْكُتْلَنْدا)!
سَألَ أحْمَدُ في دَهْشَةٍ:
- يا لَهُما مِنْ رَأسَيْنِ ضَخْمَيْنِ!... مَنْ نَحَتَهُما؟!
- أجَلْ، إنَّهُما بُرْجانِ ضَخْمانِ، يَصِلُ عُلُوُّ كُلٍّ مِنْهُما إلى ثَلاثينَ مِتْرًا، ويَزِنانِ ثَلاثَمِائةِ طنٍّ مِنَ فولاذٍ لا يَصْدَأُ.. صَمَّمَهُما الْفَنَّانُ (أنْدي سْكوتْ) وقَضى في نَحْتِهِما سَبْعَ سَنَواتٍ كامِلَةٍ، وهُما أكْبَرُ مَنْحوتَيِ الْخُيولِ في الْعالَمِ!
صَهَلَ الرَّأسُ الأوَّلُ صَهْلَةً عالِيَةً (صَوَّتَ) فَقَفَزَ أحْمَدُ مُنْزَعِجًا فَقالَ لَهُ الرَّأسُ الثَّاني ضاحِكًا:
- لا تَنْزَعِجْ، إنَّهُ يُرَحِّبُ بِكَ فَقَطُ، لأنَّكَ أنْقَذْتَ صَديقَنا مِنْ ألَمِهِ، والْتِواءِ قائِمَتِهِ!
رَدَّ أحْمَدُ بِتَقْليدِ صَهْلَتِهِ، فَضحِكَت الأحْصِنَةُ الثَّلاثَةُ مِنْهُ، لأنَّ صَوْتَهُ كانَ رَقيقًا، ثُمَّ قالَ الرَّأسُ الأوَّلُ:
- سَتَأْخُذُكَ صَديقَتُنا الطِّفْلَةُ النَّشيطَةُ (أغْنيسْ) صُحْبَةَ حِصانٍ حَديدِيٍّ، في جَوْلَةٍ بِأرْضِنا الْخِصْبَةِ!
- شُكْرًا جَزيلًا، أصْدِقائي الْظُّرَفاءَ!
اِلْتَفَتَتْ أغْنيسْ إلى أحْمَدَ قائلةً:
- يَجِبُ أنْ تَعْرِفَ، أوَّلًا، أنَّ الدُّوَلَ الأَرْبَعَ: اسْكُتْلَنْدا، وإنْجِلتِرّا، وويلْزْ، وأيْرَلَنْدا الشَّمالِيَّةَ، تُكَوِّنُ جَميعُها (بَريطانْيا الْعُظْمى) وبِلادي تُجاوِرُ إنجلتِرّا مِنَ الْجَنوبِ. ويُقالُ في الْمَثَلِ عِنْدَنا: «إذا وَقَعْتَ في أسْكُتْلَنْدا، فَتَعَلَّقْ بِإنجِلتِرّا» لأنَّهُما بَلَدانِ يَقَعانِ جَنْبًا إلى جَنْبٍ!
وعاصِمَةُ بِلادي هِيَ (إدِنْبَرَةُ) مَدينَةُ الْعِلْمِ والأدَبِ والثَّقافةِ والْمَعْرِفَةِ والْفَنِّ. تَزْخَرُ (تَمْتَلِئُ كَثيرًا) بِقُصورِها ودُورِها الْعَتيقةِ (الْقَديـمةِ) وبِجامِعَتِها الَّتي دَرَسَ فيها الْكَثيرُ مِنَ الْعُلَماءِ الْكِبارِ، وبِأزِقَّتِها الْحَجَرِيَّةِ الضَّيِّقةِ، الَّتي تَعودُ إلى مِئاتِ السِّنينَ...!
تَلأْلأَتْ عَيْنا أحْمَدَ، كَأنَّ شَيْئًا خَطَرَ بِبالِهِ (تَذَكَّرَ):
- لَمْ تَقولي إلاَّ حَقًاّ، يا أغْنيسْ!.. فَأنا أُحِسُّ الآنَ، كَأنَّ هَذِهِ الأزِقَّةَ والْبِناياتِ التَّاريـخِيَّةَ، نَقَلَتْني مِنَ الْقَرْنِ الحَادِي والْعِشْرينَ إلى الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ!
سارا وسارا إلى أنْ بَلَغا (شارِعَ الأَميرَةِ) وهُوَ الأكْبَرُ والأهَمُّ في الْمَدينَةِ، توجَدُ فيهِ الْمَتاحِفُ والآثارُ، والْعَدَدُ الْكَبيرُ مِنَ الْمَكْتَباتِ والْفَنادِقِ التَّقْليدِيَّةِ، والسَّاحاتِ الْفَسيحةِ (الْواسِعةِ) والْحَدائقِ الْبَهِيَّةِ (الْحَسَنَةِ) كما تَنْشَطُ بِها الْحَرَكَةُ التِّجارِيَّةُ.
وتَوَقَّفا عِنْدَ مَحَطَّةِ الْحافِلاتِ، فَقالتْ أغْنيسْ:
- لَمْ تُشاهِدْ مِنْ بِلادي الْجَميلَةِ إلا الْعاصِمَةَ، فَفيها توجَدُ ثَمانِيَةُ آلافِ جَزيرَةٍ، وثَلاثَةُ آلافِ قَلْعَةٍ، مِنْها قَلْعَةُ أدَنْبَرَةَ، الْمَبْنِيَّةُ على صَخْرَةٍ بُرْكانِيَّةٍ، يَأتيها الأُدَباءُ والْفَنَّانونَ مِنْ كُلِّ الدُّوَلِ للإقامَةِ فيها أيَّامًا، إمَّا لِرِسْمِ لَوَحاتٍ، وإمَّا لِتَأْليفِ قِصَصٍ ورِواياتٍ، وإمَّا لِتَلْحينِ أغانٍ وقِطَعٍ موسيقِيَّةٍ، وإمَّا...!
قاطَعَها أحْمَدُ مُتَسائلًا:
- كُلُّ هَذِهِ الأنْشِطَةِ، تُفيدُ الطِّفْلَ الأُسْكُتْلَنْدي، فَتُغْني عَقْلَهُ، وتُهَذِّبُ نَفْسَهُ، وتُحَسِّنُ ذَوْقَهُ، لَكِنَّني لَمْ أرَ الرِّياضَةَ، الَّتي تُقَوِّي جِسْمَهُ، وتَحْميهِ مِنَ الأمْراضِ، وتُرَبِّيهِ على الصَّبْرِ والثِّقَةِ بِنَفْسِهِ!
أجابَتْهُ أغْنيسْ، وهِيَ تُشيرُ إلى أرْضٍ خَضْراءَ، تَسْرَحُ فيها الْخُيولُ طَليقةً:
رياضة الفروسية
- تَشْتَهِرُ بِلادي بِتَرْبِيَةِ الْخُيولِ، والْعِنايَةِ بِها، لأنَّنا نَسْتَعْمِلُها في مُمارَسَةِ رِياضَةِ الْفُروسِيَّةِ، ومِنْها سِباقاتُ الْقَفْزِ على الْحَواجِزِ، يُشارِكُ فيها أكْثَرُ مِنْ مِائَـتَـيْ ألْفِ رِياضِيٍّ أُسْبوعِيًاّ. وهِيَ رِياضَةٌ شَعْبِيَّةٌ، يُمارِسُها الْكَبيرُ والصَّغيرُ، الْقَوِيُّ والضَّعيفُ، الْغَنِيُّ والْفَقيرُ. كما يَسْتَعْمِلونَها في الرَّحلاتِ، الَّتي يَقومونَ بِها إلى الْجِبالِ وضِفافِ الْوِدْيانِ...!
وسَتُدْهِشُكَ بِلادي بِمَراعيها الْخُضْرِ، وإسْطَبْلاتِ خَيولِها في كلِّ الأَمْكِنَةِ الَّتي تَزورُها، حَتَّى أنَّنا بَنَيْنا مَدارِسَ خاصَّةً بِتَعْليمِ الْفُروسِيَّةِ.
سَألَ أحْمَدُ أغْنيسْ: لِماذا تُسَمَّى بِلادُكِ بِـ(أُسْكُتْلَنْدا)؟
- يُقالُ إنَّ أرْضَ بِلادي كانَتْ مِلْكًا لِرَجُلٍ غَنِيٍّ، اسْمُهُ (آدَمُ سْكوتْ)..ويَقولُ آخَرونَ إنَّهُ اسْمُ قَبيلَةٍ إيرْلَنْدِيَّةٍ (سْكوتي) هاجَرَتْ إلى بِلادي قَديـمًا. وهُناكَ مَنْ يُنْسِبُها إلى اللُّغَةِ الْيونانِيَّةِ، فَـ(سْكوتي) تَعْني الظَّلامَ، لأنَّ الضَّبابَ يَكْثُر في بِلادي شِتاءً، فَيَجْعَلُ النَّظَرَ صَعْبًا، كَمَنْ يَمْشي في شارِعٍ مُظْلِمٍ!
قالَ أحْمَدُ لأغْنيسْ باسِمًا:
- بِما أنَّ الْجَوَّ صَحْوٌ لَيْسَ فيهِ ضَبابٌ، يَحْجُبُ عَنِّي الطَّريقَ، فَسَأرْكَبُ حِصاني، لأَعودَ إلى بِلادي الْعَرَبِيَّةِ!
وقَفَزَ إلى ظَهْرِ الْحِصانِ، فَانْطَلَقَ بِهِ يَجْري، وأغْنيسْ تُحَيِّيهِ وتُرَدِّدُ بِصَوْتٍ عالٍ:
- لا تَنْسَ أنْ تَزورَ بِلادي الْجَميلَةَ مَرَّةً ثانِيَةً!