البيضاوات

البيضاوات

لا يُعدّ اللون (الأبيض) لونًا من وجهة النظر الفيزيائية، لأنه خليط من موجات ضوئية لعدد من الألوان الأساسية، تداخلت وأنتجت ما يمكن اعتباره (لا لون)، هو ما نسميه بالأبيض. وذلك ينطبق أيضًا على (لا لونٍ) آخر، نسميه الأسْوَد! فماذا تفعلُ الكائنات الحية التي وجدت نفسها مفتقدة للألوان الزاهية المُبهرة؟ 
ثمّة كائنات اكتست بالأبيض مصادفةً، عن طريق طفرات وراثية، وكائنات أخرى ترضى بالأبيض والأسود، وتصنع منهما مزيجًا تتزيّنُ به، وينجح في جعلها ذات جاذبية، ويؤدّي من أجلها بعض خدمات حيوية.
فمَن منَّا لا يجتذبه مرأى حيوان الباندا الذي تغطي مساحات من الأبيض والأسود رأسه وجسمه الضخم. إنه نوع من الدببة الضخمة، موطنه الأصلي جبال وسط الصين، ويعيش أفراد قليلون منه في أماكن متفرقة من العالم، في حدائق الحيوانات ومراكز الأبحاث التي تهتم به وتبحث في خطط لإكثاره، لكونه مهددًا بالانقراض، لأنه يسلك سلوكًا غريبًا في حياته، فالأنثى تلد صغيرين، لكنها لا تشمل برعايتها إلا واحدًا، وتترك الثاني يهلك! ومن غرائب طباعه أيضًا أن جهازه الهضمي مهيَّأ، كسائر الدببة، لأكل اللحوم، لكنه لا يفعل، وإنما يكتفي بقائمة طعام تحتوي على نوع واحد من الطعام، هو أقصاب البامبو!
ويعرف المطبخ الصيني نوعًا من الفطريات المقبولة في قائمة الطعام، اسمها العلمي (تريميللا)، ويشار إليها بأكثر من اسم، فهي (فطر الجليد)، و(فطر الأذن الفضية)، و(عيش الغراب الهلامي الأبيض). تريميللا تخلو من النكهة وقوامها الهلامي يفيد في إعداد بعض أطباقٍ من المأكولات الحلوة والآيس كريم. والحقيقةُ هي أن ما يؤكلُ هو ثمارٌ بيضاء اللون، ولا ينتجها هذا الفطر إلاَّ في وجود نوع آخر من الفطريات، لا تستقيمُ لأيِّهِما الحياةُ إلا بوجودهما معًا.
أما طائر الـ (بيكا بيكا)، أو العَقْعَق الأوراسي، فقد ظلمته الثقافة الأوربية حين صورته كلِصٍّ، والحقيقة هي أنه طائر فَطِن ذكي، ينتمي لعائلة الغربان التي يتمتع أفرادُها بدرجة عالية من الذكاء، لدرجة أنها تستطيع التعرف على نفسها في المرآة! كما تتمتع طيور العقعق، بذكاء اجتماعي متطور للغاية، بما في ذلك القدرة على التنبؤ بسلوك أفراد آخرين من جنسهم. كما تمارس سلوكيات معقدة متصلة بطعامها، مثل التخزين، والقدرة على تقطيع الطعام بما يتناسب وأفواه صغارها. وللعقعق شغفٌ بالأشياء اللامعة، ويتوزع في جسمها اللون الأبيض، فيغطي معظم الجذع وطرفيَ الجناحين، مجاورًا للّون الأسود الذي يلتمع عند النظر إليه من زوايا بعينها، فيبدو كالبنفسجي أو الآخر الغامقين.
واللون الأبيض في حالة الدب القطبي لون مخادع، فهو في حقيقته، كلون كل الدببة، أسود. فالجلد أسود، ويتأكد ذلك من سواد منطقتَي الفم والأنف؛ غير أن الشعر المكوّن للفراء شفاف ومُجوَّفٌ، فيؤدي ذلك إلى تشتيت الضوء الواقع عليه، مما يجعله يبدو أبيض، مضاهيًا للجليد المحيط به في بيئته الطبيعية بالقطب الشمالي، وهي بيئة تواجه ظروفًا سيئة، إذ يؤدي الاحترار الكوني، إلى ذوبان الجليد القطبي، فتتقلص مساحته. وتجعل هذه الأحوال الدب القطبي معرّضًا أيضًا لخطر الانقراض.
ويلفت النظر في عالم النبات (القرنبيط)، بلونه الأبيض، وهو نبات حسّاس، لا تنمو رؤوسه البيضاء بأحجام كبيرة إلا إن توفرت له ظروف باردة يتوافق معها. ونحن نأكل هذه الرؤوس البيضاء، التي هي في حقيقتها عبارة عن سيقان تأخر نموها، وأزهار لا تتفتح. وتحتوي بعض أنواع القرنبيط على مستويات متزايدة من أصباغ (بيتا كاروتين أو الأنثوسيانين)، مما يؤدي إلى ظهور رؤوس قرنبيط برتقالية وبنفسجية زاهية.
ويعيش في البحار كائنات بيضاء تمامًا، مثل حوت البيلوجا، ليتماهى والجليد القطبي، فهو من سكّان القطبين؛ ويشترك الأبيض مع الأسود في تغطية جسم نوع من الدلافين، اسمه الشائع (الحوت القاتل)، أو الأوركا، فله بطن بيضاء وظهر أسود، يوفّران له ما يُسمى بالتظليل التبايني، حيث يمتزج لون البطن الأبيض، مع إضاءة السماء المفتوحة، عند النظر إليه من جهة القاع، فإن كان النظر إليه من أعلى، تطابق سواد الظهر مع عتمة المياه العميقة. ومن جهة أخرى، فإن تواجد الأبيض والأسود يساعد الأوركا في اجتذاب فرائسه! والجدير بالذكر أن أفرادًا بيضاء تمامًا من الأوركا قد رُصدت مؤخّرًا في المحيطات ، ويردّ العلماء غياب المساحات السوداء في أجسامها إلى حدوث طفرات أدّت إلى اختفاء الصبغيات تحت جلدها. 
ويماثل الحمارُ الوحشي الحوتَ القاتل في اتّخاذ أردية الأبيض والأسود، وإن كان رداء الأول، المخطّط، يضفي عليه نوعًا من الجمال، كما أن الخطوط البيضاء والسوداء متّسقة ومتفرّدة، فلا يشترك اثنان في نمط التخطيط، وقد توصّل العلماء إلى أن أجداد الحمار المخطط القدامى كانت جلودهم سوداء تمامًا، وكانت تتعرض لهجمات ضارية من ذبابة (تسي تسي)، الشرهة للدماء، والتي كانت تهلكهم حتى أوشكت على الانقراض، لكنه لم يلبث أن (استجاب) ليواجه الخطر المحدق به، وبدأ يكتسب خطوطًا بيضاء، أخذ عددها يتزايد، متبادلة مع السوداء، بنسبة 50%، فقلّت هجمات الذبابة الشريرة، وتزايدت فرصة استمراره في خريطة الحياة، بنفس النسبة!