جابر عصفور الإنسان والقائد الثقافي

عاصرتُ الهجوم الذي شُنَّ على الدكتور جابر عصفور عندما صدر  قرار توليه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 1993، ولم يكن هذا المجلس ملء السمع والبصر قبل تولي أمانته الدكتور عصفور، فلم أرَ  هذا المجلس فاعلًا أو متفاعلًا مع الحياة الثقافية سوى وقت الإعلان عن أسماء الحاصلين على جوائز الدولة التي كانت دائمًا محل انتقاد وهجوم. عدا ذلك لم أكن أسمع عن فعاليات المجلس شيئًا يُذكر، ولم أتذكر أصحاب هذا المنصب الذين تولوه قبل الدكتور جابر عصفور، سوى الدكتور عز الدين إسماعيل.

 

تعاطفتُ مع الرجل الذي عمل بجامعة الكويت عددًا من السنوات، ثم عاد إلى مصر بحماس شديد للمشاركة الفاعلة في حياتنا الثقافية، فتولى منصبًا في أسرة تحرير مجلة «فصول للنقد الأدبي» التي أتت مجلة نقدية متخصصة من العيار الثقيل، فأحدثت حراكًا نقديًا بين نقاد الوطن العربي، ولم يكن من السهولة بمكان النشر فيها للأدباء والنقاد الذين يكتبون انطباعات نقدية، أو من أصحاب النقد الانطباعي، والإسهامات النقدية الصحفية الخفيفة. وقد وصل الأمر ببعض القرّاء والأدباء ألا يفهموا بعض ما ينشر فيها لأنه متخصص (ربما أكثر من اللازم)، خاصة فيما يتعلق بالبنيوية والألسنية والأسلوبية، وتلك المدارس النقدية التي وفدت إلينا من الغرب. وقد أعلن نجيب محفوظ في أحد حواراته أنه لم يفهم بعض الدراسات النقدية التي نشرت في عدد خاص من مجلة فصول عن أعماله.
وسط هذا اللغط حول «فصول» وحول جابر عصفور الذي رأس تحرير تلك المجلة في عام 1992، التقيته أول مرة في مكتب المجلة بالهيئة المصرية العامة للكتاب، كنتُ وقتها أتعامل مع مجلة «إبداع» التي تصدرها الهيئة ويرأس تحريرها الناقد الدكتور عبدالقادر القط، وعلى الرغم من مقرها في شارع عبدالخالق ثروت بوسط البلد، فإن لها مكتبًا آخر في مبنى الهيئة على كورنيش النيل، وفي المكتب المجاور كانت «فصول». دخلتُ مكتبها وسلمتُ على د. جابر عصفور وقلتُ له: أنا فلان، فرحب بي ترحيبًا حارًا، وقال لي: لماذا لا تُرسل لنا مقالات لنشرها في «فصول»، فقلت له: أنا أعتبر نفسي تلميذًا في مدرسة «فصول»، فضحك وقال: عاوزينك تتخرج منها، وترسل لنا. وعلى الرغم من هذا الود والتقدير، فإنني لم أرسل شيئًا لمجلة «فصول»، واكتفيت بتقدير الدكتور جابر عصفور.
وعندما تولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بدأت الملتقيات والندوات واللقاءات واللجان تعمل بكثافة، وأصبح المجلس خلية عمل ثقافية، خاصة عندما انتقل إلى مبناه الجديد في منطقة الأوبرا بجبلاية الزمالك، فبدأت أتردد عليه، وأتذكر أنني قدمتُ ديوان شعر لنشره ضمن مطبوعات المجلس يحمل عنوان «شمس أخرى بحر آخر» وتأخر نحو أربع سنوات، وما إن تحدثت معه وأخبرته بأن لي ديوانًا تمت الموافقة عليه منذ أربع سنوات حتى بادر بالاهتمام بالأمر، وصدر الديوان بالفعل، فتوجهتُ إلى مكتبه لأشكره، فسألني: هل استلمت نسخك من الديوان، وعندما أجبته بالإيجاب قال لي اكتب طلبًا الآن لأعطيك عشرين نسخة أخرى غير النسخ التي تسلمتها. وقد كان.
وفي أحد ملتقيات الرواية التي دعيتُ لحضورها بالمجلس مع بعض أدباء الإسكندرية، من أمثال: شوقي بدر يوسف ومحمد الجمل وحجاج حسن أدول، وجدنا الدكتور جابر عصفور يجلس مع الكاتب الصحفي الكبير كامل زهيري إلى جوار الباب الرئيسي للمجلس، فما إن شاهدنا إلا وقال ضاحكًا: أهلاً بالإسكندرانية، وذكر أسماءنا واحدًا فواحدًا. فسلمنا عليهما واتجهنا إلى منفذ بيع الكتب بالمجلس، وعندما خرجنا منه محملين ببعض الكتب، أراد أن يعرف ماذا اشترينا من كتب، فأخرج كل واحد منا ما في حقيبته، فأثنى على تلك الكتب التي اشتريناها بالخصم المقرر أثناء انعقاد الملتقى.

معًا في كوريا الجنوبية
غير أنني لم أكتشف الدكتور جابر عصفور الإنسان والقائد إلا في أثناء رحلتنا إلى كوريا الجنوبية عام 2007، حيث شاركنا في افتتاح المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية بمدينة أنتشون، ضمن وفد عربي كبير يترأسه د. جابر عصفور ـ حيث اعتذر السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية في ذلك الوقت عن عدم الحضور في آخر وقت لانشغاله ببعض الأمور السياسية العربية الملحة، وقد شارك عدد كبير من السفراء والدبلوماسيين والمثقفين والكتاب والإعلاميين ورجال الأعمال الكوريين والعرب في ذلك الملتقى، واستقبلنا السفير المصري لدى كوريا الجنوبية محمد رضا الطايفي في منزله بالسفارة، وهناك تم توقيع اتفاقية تبادل ثقافي بين المركز القومي للترجمة بمصر (وكان يرأسه د. جابر عصفور في ذلك الوقت)، والمركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية بكوريا الجنوبية ويمثله د. هان دوك كيو.
وقد نصت الاتفاقية على أن كلًا من المركز القومي للترجمة بمصر والمركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية بكوريا يجاهدان في سبيل إحراز الامتياز الثقافي واضعين نصب أعينهما المدى الواسع للمعرفة قدر الإمكان. ويرتبط مباشرة بهذا الهدف إدراك كل من المركزين أن العلاقات المتبادلة على المستوى الثقافي لأشخاص من خلفيات ثقافية متنوعة، إنما هو توفير وسيلة خصبة للتفاعل الثقافي المثمر على وجه الخصوص. وإذا أمكن الوصول بالعلماء المترجمين الذين لديهم حضارات قوية ومتميزة إلى الاتصال الواسع كل بالآخر، فمن المؤكد أن التبادل الثقافي الفكري الذي سيحدث سيكون ذا قيمة عظيمة. وعليه، فإن المركز القومي للترجمة بمصر والمركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية بكوريا الجنوبية يشعران بأن هذا الهدف يمكن تحقيقه بأقصى فعالية. 
هناك في كوريا الجنوبية كنتُ قريبًا أكثر من الدكتور جابر عصفور، فقد كانت الرحلة نحو عشرة أيام. وحدث أنه ذات عشاء فندقي أحسَّ الدكتور عصفور بالإرهاق والتعب الشديد، لدرجة أنه لم يستطع إكمال العشاء، وطلب مني الصديقان مصطفى عبدالله وناصر عراق أن أقوم بتوصيل
د. عصفور إلى غرفته بالفندق، وبالفعل تركت العشاء واصطحبته إلى غرفته، فكان يتوكأ على ساعدي إلى أن وصلنا إلى غرفته وسط إعيائه الشديد، واقترحت عليه أن أتصل من تليفون غرفته بقسم الاستقبال لإرسال طبيب الفندق الذي أتى مسرعًا، وأجرى الكشف على الدكتور عصفور وأعطاه أقراص علاج، وأقراص تسكين الآلام والتهدئة حتى يتمكن من النوم بعمق.
 وعندما اتصلت على حجرته في الصباح لأطمئن عليه شكرني، قائلاً: أنت أنقذت حياتي يا أحمد. شعرت بالخجل الشديد، وطلبت منه ألا يُجهد نفسه، وعرضت المرور عليه في غرفته إذا رغب في النزول، ولكنه فضَّل أن يرتاح بالغرفة في هذا اليوم.
ومن يومها كلما التقيته يذكرني بأنني أنقذت حياته في تلك الليلة الصعبة، ويذكر أنني لو تركته ولم أستدع له طبيب الفندق ربما كانت حدثت مضاعفات خطيرة له. وكنت أقول له: الأعمار بيد الله يا أستاذنا.

جابر عصفور الوزير
في يناير 2011 كنت أعمل محررًا في مجلة «العربي»، وحضر الدكتور جابر عصفور مشاركًا في ملتقى المجلة السنوي، واندلعتْ أحداث ثورة يناير، وتفجرت الأحداث أكثر، ولم يكن لكل العرب والأجانب المشاركين في الملتقى من حديث في أروقة فندق الملتقى إلا عما يحدث في مصر، بعد ما حدث في تونس، وكان يؤكد أنه
لابد من وجود الدولة المدنية. وأتذكر أن الدكتور جابر عصفور كان يرتدي بذلة بنية اللون، وفور عودته إلى مصر في آخر يناير تم اختياره وزيرًا للثقافة، ووجدته مرتديًا البذلة نفسها أثناء تأدية القسم في الحكومة الجديدة قبل تنحي الرئيس مبارك عن الحكم، ما يدل على أنه لم يجد الوقت الكافي ليغير بذلته التي كان يرتديها في الكويت، لكنه لم يستمر في تلك الوزارة سوى عشرة أيام، واعتذر عنها في 9 فبراير 2011 (قبل تنحي مبارك بيومين) «بسبب عدم رغبته في المشاركة في وزارة ذات وجوه وزارية من العهد البائد وتعدي بعض الوزراء بوصف شباب ثورة الغضب بأنهم بلطجية رغم وقوفهم على روح شهداء الثورة دقيقة حداد»، كما أعلن الدكتور جابر عصفور نفسه في أكثر من وسيلة إعلامية عن هذا الأمر الذي حدث في أول اجتماع لمجلس الوزارء برئاسة الفريق أحمد شفيق. لكنه عاد بعد ذلك إلى تولي حقيبة وزارة الثقافة في الفترة من شهر يونيو 2014 حتى نهاية فبراير 2015.
واستمرت العلاقة بيني وبينه بعد عودتي من العمل بالكويت 2016، وكنت ألتقيه في القاهرة كثيرًا وفي الإسكندرية قليلاً، ومن هذه المرات لقاؤنا في احتفالية القاهرة بمرور ستين عامًا على إنشاء مجلة «العربي»، بحضور الأستاذ إبراهيم المليفي رئيس التحرير الحالي، والدكتور سليمان العسكري رئيس التحرير الأسبق، والفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق، وسفير الكويت بالقاهرة، وعدد كبير من المثقفين والأدباء والإعلاميين من مصر والكويت.

قفشة عصفورية ولفتة إنسانية
أهديت الدكتور جابر عصفور ليلتها روايتي «اللون العاشق»، فشكرني ونظر إلى بذلتي وبذلته، وكانتا باللون الأزرق وبهما خطوط صفراء رفيعة جدًا، فقال لي ضاحكًا: «احنا لابسين نفس البدلة»، فضحكت على هذه «القفشة» العصفورية. فقلت له: ولي الشرف، وأخبرته أن اللون العاشق في الرواية هو اللون الأزرق الذي نرتديه، فضحك، وأكد لي أنه سيقرأها. ثم التقيته في ملتقى الشعر العربي الخامس الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 13 إلى 16 يناير 2020، وعندما سلمت عليه، قال لي «الرواية ماشية كويس». فقلت له: أي رواية؟ قال: روايتك عن محمود سعيد. خجلتُ جدًا وقتها من أنني نسيت إهدائي الرواية له.
أما اللفتة الإنسانية الرائعة التي فاجأنا بها الدكتور جابر عصفور في هذا الملتقى فكانت حضوره بصحبة الصديق الشاعر رفعت سلام، الذي أصرَّ عصفور على وجوده في الحفل الختامي للملتقى والمشاركة في عضوية لجنة التحكيم، وكان رفعت سلام وقتها مريضًا مرض الوفاة. فصعد على مسرح الهناجر وصفقنا كثيرًا له، وفي 6 ديسمبر من العام نفسه رحل رفعت سلام.
أما آخر لقاء كان بيني وبين الدكتور جابر عصفور فكان في ندوة «مصر- المغرب... علاقات ثقافية» التي عقدت بالمجلس الأعلى للثقافة مساء الأربعاء 14 يوليو 2021، وكنت أجلس بجواره في القاعة، وكان متوقد الذهن، رائق الحديث، وتحدث باستفاضة عن عمق العلاقات الثقافية المصرية المغربية، وأعرب عن حبه الشديد للمغرب الشقيق، وألقى الضوء على التنوع الخلاق في الثقافة المغربية، من خلال الاهتمام بكل دروب الثقافة والمعرفة.
وبعدها بشهور قليلة، وفي 31 ديسمبر من العام نفسه، رحل الدكتور جابر عصفور، الذي ترك فراغًا إنسانيًا ونقديًا وثقافيًا كبيرًا في حياتنا المعاصرة. فليرحمه الله ■