دافوس تحديات ما بعد الجائحة

في منتجع دافوس الجبلي السويسري انعقد المنتدى الاقتصادي العالمي الذي جمع 2500 شخصية من نخب الاقتصاد والأعمال بالعالم في نسخته الـ71 نهاية شهر مايو الماضي. ودارت نقاشات المنتدى ما بين الأزمات والتحديات الاقتصادية التي يواجهها العالم ما بعد جائحة كورونا وفي ظل الحرب الروسية - الأوكرانية فضلًا عن تنامي تحديات المناخ والبيئة ومصاعب النمو الاقتصادي في ظل تصاعد معدلات التضخم والقيود على سلاسل الإمداد، وبالطبع مناقشات مستفيضة حول شبح الركود أو ما يعرف بالركود التضخمي.
ونشرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية (Financial Times) تقريرًا عن المنتدى، نقل عن كلاوس شواب مؤسس هذا المنتدى الاقتصادي العالمي قوله إنه يعتبِر مؤتمر العام الحالي 2022 الأكثر أهمية منذ إنشاء المنتدى، خصوصًا أن فترة الوباء والحرب زعزعت النظام الذي يمثله دافوس، وأن أحد الموضوعات التي تدور في الجلسات تتناول ما إذا كان نظام العولمة والتعاون الذي يقف من أجله المنتدى لا يزال يعمل.

كانت الحرب الروسية - الأوكرانية محورًا مهمًا ليس فقط في مناقشات المنتدى إنما أيضًا سيطرت على أجوائه، فالخطاب الافتراضي الذي ألقاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالتوازي مع منع حضور ممثلي روسيا من الاقتصاديين والساسة ورجال الأعمال كان حدثًا مهمًا ضمن أعمال المنتدى وفتح نقاشات لم تغلق حتى مع ختام أعمال المنتدى حول قدرة أوربا على مقاطعة واردات النفط الروسية، ومدى تحمل العالم مخاطر أزمة غذاء مرتبطة بارتفاعات غير مسبوقة لأسعار القمح والذرة ومختلف المواد الغذائية الأساسية.

غياب وحضور رمزي
كانت حالات الغياب أو الحضور الرمزي علامة لافتة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام، فلم تتم دعوة الشركات أو النخب السياسية الروسية أو ما يعرف بالطبقة الأوليغارشية. أما الصين، المنشغلة في إجراءات عمليات الإغلاق المتعلقة بـجائحة كوفيد - 19 في أكبر مدينتين فيها، فلم تُرسل إلا مبعوثًا معنيًا بالتغيّر المناخي شيه تشن هوا.  وأبرز الوجوه المشاركة في الوفد الأمريكي جون كيري، المستشار الخاص للولايات المتحدة بشأن المناخ ونائب الرئيس السابق والحائز على لقب نصير البيئة آل غور.
وثمة اعتقاد في دافوس بأن حالات الغياب هذه وعدم التمثيل على مستوى رفيع تعكس زيادة الهوّة بين أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي والواقع خصوصًا مع تداعيات جائحة كوفيد - 19 والآثار الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا؛ وهما حدثان كارثيان لم يتوقع أحد، خلال آخر لقاء للمنتدى الاقتصادي العالمي، إمكانية حصولهما.
ويقول ديفيد باخ، خبير الاقتصاد السياسي بالمعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) في لوزان: «نعيش اليوم في عالم مختلف تمامًا»، ويضيف: «إنه عالم من الكتل المتنافسة ومناطق النفوذ الذي تترتب عليه آثار بعيدة المدى، ليس فقط بالنسبة للسياسة الدولية والاقتصاد العالمي، ولكن أيضًا بالنسبة لاستراتيجية الأعمال التجارية».

حضور ناشطي البيئة
في دافوس كان الحديث عن الانبعاثات الكربونية حاضرًا، إذ إنه منذ عام 2021 ارتفعت الانبعاثات العالمية بنسبة 6 في المئة، بينما زاد استخدام الفحم بنسبة 9 في المئة. وكان المبعوث الرئاسي الخاص الذي يمثل الولايات المتحدة في مسألة المناخ جون كيري قد صرّح في دافوس، حيث شارك المنصة مع نظيره الصيني شي جينهوا:  «بأن هذا الوضع غير مقبول». وأضاف قائلًا: «على مدى السنوات الثماني المقبلة على أقل تقدير، علينا أن نغيّر آليات نظامنا الاقتصادي بشكل جذري ونحدّ من اعتمادنا على الوقود الأحفوري، إذا أردنا أن نظل متماشين مع أهداف اتفاقية باريس. هذه هي معركتنا الحقيقية في عصرنا هذا».
وتقول نينا غوالينغا - ناشطة بيئية - إن مجتمعها الأصلي في منطقة الأمازون الأكوادورية، يرتعد خوفًا عندما تحاول الحكومة هناك والشركات الدولية الترويج لفكرة أن بناء الطرق سيساعد في تنمية المنطقة. لقد علّمت التجربة أولئك الذين يعيشون في منطقة الأمازون أن إنشاء الطرق يعتمد على الصناعات الاستخراجية، مما يؤدي إلى إزالة الغابات وحدوث التلوث، وهو ما يهدد أسلوب حياتهم التقليدي. وحثت غوالينغا على «العمل بغية التخلص التدريجي من استخدام الوقود الأحفوري» الذي اتهمته قائلة: «هذا هو السبب في تغيّر المناخ».
كانت غوالينغا واحدة من العديد من النشطاء الشبان المعنيين بمسائل المناخ الذين أعربوا عن أسفهم لأن المحادثات في دافوس لا تزال تركز بشدة على كيفية تعزيز الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبدرجة أقل على تطوير وتوسيع نطاق طرق حماية البيئة. وقالت خلال حدث جانبي في المنتدى الاقتصادي العالمي: «لقد قمنا بتطبيع انتهاك البيئة»، واستطردت: «في الإكوادور نسجل ما بين اثنين إلى خمسة حوادث تسرّب للنفط في الأسبوع. ولا أحد يتحدث عن مخاطر ذلك. يعنينا الأمر فقط عندما يحدث مثلًا أسوأ تسرّب نفطي منذ عقود».

تحديات التحول المناخي
ناقش المنتدى قضية تغير المناخ التي باتت أحد أهم الأخطار التي تواجه البشرية وتشير التقديرات إلى احتمالية مواجهة الاقتصاد العالمي لعواقب غير مسبوقة، ومنها التقلص بنسبة تصل إلى 18 في المئة في السنوات الثلاثين المقبلة، في حال عدم اتخاذ أي إجراء متعلق بحماية المناخ، وهو الأمر الذي يتطلب جهودًا عالمية من أجل الوصول إلى ما يعرف بـ«الحياد الصفري» بحلول عام 2050.
كما تشير تقارير «البنك الدولي» إلى أن درجة حرارة الأرض قد ترتفع 4 درجات مئوية في نهاية القرن الحالي، الأمر الذي ستنتج عنه آثار مدمّرة على الزراعة والموارد المائية وصحة البشر، وسيكون الفقراء أشد المتضررين من هذه الآثار، التي لن تستثني أيًا من مناطق العالم. ويبقى على دول العالم الحاجة إلى موارد مالية واستثمارات رشيدة لمواجهة التغيرات المناخية، وذلك لتقليل الانبعاثات، وتعزيز التكيف مع الآثار التي تحدث بالفعل.

ثروات وأوبئة
ناقش المنتدى التنامي الضخم في ثروات الأثرياء حول العالم في زمن الجائحة وهو ما عبّر عنه المؤلف الاقتصادي أناند جيريدهارداس بأن العامين الماضيين «أوضحا بشكل درامي ما كان صحيحًا لفترة من الوقت، وهو أن طبقة النخبة الثرية لا تترك بقية العالم وراءها فحسب، بل تزدهر بدقة من خلال الدوس على أعناق الجميع». 
لقد أثرت عمليات البيع المكثفة في الأسواق المالية هذا العام على أصحاب الثراء الفاحش، لكن هذا لن يكون بمنزلة عزاء للناس في كل من الاقتصادات المتقدمة والعديد من الاقتصادات النامية التي تعاني من أسوأ أزمات تكلفة المعيشة منذ عقود.  يتسبب ارتفاع أسعار الغذاء والوقود بالفعل في الجوع والمصاعب، ويزيد من عدم الاستقرار، ويفجر الاحتجاجات ويشجع المتمردين السياسيين.

أزمات وخطوات
مثلت الأزمات المالية والاقتصادية مؤخرًا خاصة منذ ظهور كورونا، وزاد من حدتها الحرب الروسية الأوكرانية، ضررًا كبيرًا للدول النامية والفقيرة، وفي هذا الشأن دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى ضرورة إصلاح النظام المالي العالمي، وكذلك ضبط التضخم القياسي، وتقلص الحيز المالي، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. ودعا غوتيريش، خلال كلمته الافتراضية أمام منتدى دافوس، إلى التركيز على ثلاثة مجالات عاجلة، أولها في مواجهة جائحة كورونا بعدالة وإنصاف، وضرورة التركيز على المساواة في اللقاحات، كما طالب بإعادة هيكلة الديون، بشكل عاجل، وإصلاح هيكل الديون طويلة الأجل، وتوسيع الإطار المشترك لمعالجة الديون إلى البلدان ذات الدخل المتوسط، إلى جانب مطالبته بالاهتمام بالعمل المناخي.

سلاسل التوريد
شكّلت مسألة عقبات سلاسل التوريد العالمية واحدة من أبرز القضايا التي دار حولها النقاش في منتدى دافوس هذا العام، ففيما تشهد حركة الشحن البحري في منطقة البحر الأسود مخاطر غير مسبوقة بسبب الحرب، والتي أدت إلى وقف عدد من الخطوط الملاحية من وإلى أوكرانيا، وهو ممر مهم لشحنات الحبوب والمعادن والنفط الروسي إلى بقية العالم. 
كما توقفت حركة الشحن الجوي أيضًا، بعد أن أعلن الاتحاد الأوربي إغلاق مجاله الجوي أمام الطائرات الروسية، وقد أدى ذلك إلى صعوبة الحصول ليس فقط على القمح والذرة، بل أيضًا العديد من المعادن المهمة ومنها البلاديوم الذي تمد به روسيا دول أوربا بنسبة تصل إلى أكثر من 40 في المئة، في حين يأتي 90 في المئة من لوازم النيون المطلوب لصناعة أشباه الموصلات من أوكرانيا، وقد تواجه شركات صناعة السيارات والشركات المصنّعة للأجهزة الإلكترونية وصانعو الهواتف والعديد من القطاعات الأخرى التي تعتمد على تصنيع شرائح أشباه الموصلات مخاطر كبيرة بسبب الصراع الراهن، مما جعل المنتدى هذا العام يناقش هذه المعضلة وأثرها على الإمدادات العالمية لا سيما تلك المتعلقة بالغذاء والدواء للعديد من الدول النامية أو الفقيرة.

تفاقم التضخم
مع أن التضخم المتسارع كان نتيجة عودة الطلب بعد جائحة كورونا إلا أن الحرب الروسية - الأوكرانية أماطت اللثام عن تطورات عديدة تتعلق بارتفاع الأسعار وتفاقم معدلات التضخم في وقت لم يتعاف فيه الاقتصاد العالمي من جائحة كورونا بشكل كامل، نتيجة اختلالات العرض والطلب، وارتفاع تكاليف النقل والشحن، والاختناقات القائمة في سلاسل الإمداد العالمية، فضلًا عن عودة الإغلاقات التحوّطية تجاه تفشي فيروس كورونا في أكثر من منطقة صينية. وأصبح التضخم يشكّل خطرًا واضحًا وحاضرًا في بلدان عديدة، ففي الولايات المتحدة وألمانيا وعدد من البلدان الأوربية، بلغ التضخم أعلى مستوياته على الإطلاق خلال 40 عامًا. كما ظهر شبح الركود التضخمي في ظل الحرب الدائرة، حيث شهدت أسعار السلع والمعادن والطاقة والحبوب ارتفاعات قياسية وسط تراجع آفاق نمو الاقتصادات العالمية.  ويتوقع المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، أن الحرب في أوكرانيا قد تضيف ثلاث نقاط مئوية إلى التضخم العالمي المُتفاقم بالفعل، بينما قد تمحو واحدًا في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي هذا العام. وناقش المنتدى الارتفاع الشديد في معدلات التضخم في أوربا إلى جانب الولايات المتحدة، كذلك في الأسواق الصاعدة والنامية، ويستمر هذا التضخم حتى عام 2022، وقد ينخفض بشكل ملحوظ في عام 2023 إذا توقفت الحرب الروسية - الأوكرانية، وذلك وفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي.

تباطؤ النمو
سيطر على نقاشات المنتدى لعام 2022 ما أعلنه صندوق النقد الدولي من خفض توقعات النمو العالمي للمرة الثانية هذا العام من 6.1 في المئة إلى 3.6 في المئة أي أقل بمقدار 0.8 نقطة مئوية عمّا كان متوقعًا في يناير الماضي. ووصف الحرب في أوكرانيا والتضخم بأنهما «خطر واضح وقائم» للعديد من البلدان، حيث إن النمو والتضخم يسيران في اتجاهين معاكسين، إذ تكبح ضغوط الأسعار المتزايدة النشاط الاقتصادي وتدمر القدرة الشرائية للأسر. ويعكس ذلك التأثير المباشر للحرب على أوكرانيا والعقوبات على روسيا، حيث يُتوقع أن يشهد كلا البلدين انكماشات حادة في معدلات النمو. وفي الاتحاد الأوربي، تم تخفيض توقعات النمو الاقتصادي العالمي للعام الحالي بمقدار1.1 نقطة مئوية نتيجة الآثار غير المباشرة للحرب، ما يجعله ثاني أكبر مساهم في تخفيض التوقعات الكلية. ونظرًا لكونه الأقرب من الناحيتين الجغرافية والاقتصادية إلى أوكرانيا، فإن الاقتصاد الأوربي هو الأكثر ضعفًا.

مستقبل المنتدى
يقف المنتدى الاقتصادي العالمي اليوم عند مفترق طرق مع التهديدات التي تتعرّض لها «روح دافوس»، فهل يستطيع المنتدى التعامل مع التحديات الجديدة حول العالم؟ وهل يقدم لها الحلول أم يكتفي بعرض المشكلات؟
تقول غريتا فينر، المديرة الإدارية لمعهد بازل للحوكمة: «في جعبة المنتدى الاقتصادي العالمي أفكار قيّمة يستطيع اقتراحها. لكن إذا ظل هذا المنتدى حكرًا على كبار الأثرياء الذين لا يفهمهم معظم الناس العاديين ويعتقدون أنهم مسؤولون عن العديد من المشاكل، فسوف يستمر في فقدان الدعم لمواصلة أعماله».
وتضيف فينر: «نعم، بإمكانك التطرّق إلى كل المسائل، لكن أين الإجراءات القابل تحقيقها للقياس؟ وأين المساءلة عن جميع البيانات والالتزامات التي قدمها القادة في المنتدى الاقتصادي العالمي؟». وعلى الرغم من أن العضوية في المنتدى الاقتصادي العالمي أضحت أكثر شمولًا للفئات المختلفة، إلا أن هذه العضوية يمكن أن تكلف ما يصل إلى 60 ألف دولار سنويًا، ويظل حضور اجتماعها السنوي الخاضع للحراسة المشدّدة رهنًا بالدعوات المُوجّهة فقط. كما يتوجّه الرؤساء التنفيذيون لكبريات الشركات إلى المنتدى على متن طائراتهم الخاصة على الرغم من تعهدهم بالحد من تغير المناخ.  لكن مع غياب الأسماء الكبيرة والقوى الجاذبة للانتباه عن المنتدى هذه المرة، قد تكون هناك فرصة للعديد من الأصوات ووجهات النظر المتنوعة للحصول على المزيد من فترات البث.  وقد أعلنت اليونان أنه سيكون لها لأول مرّة بيت يوناني في دافوس. 
وكانت الهند قد قامت بالترويج للعديد من الأحداث التي ستجريها في الفترة التي تسبق أسبوع المنتدى الاقتصادي العالمي. كما سيكون للقارة الإفريقية، وعلى نحو غير مسبوق، أعلى تمثيل حتى الآن. وهذا يعني أن المنتدى ربما سيكون خلال السنوات القادمة أقل نخبوية مع تزايد المشكلات العالمية وتشابكها، مما يعطي دورًا لسماع آراء لم يكن صداها يصل إلى منتجع دافوس الجبلي السويسري الفخم ■