مستقبل المكتبات الرقمية

تُعد المكتبات الرقمية إحدى أهم تجليات شبكة الإنترنت، والتي أصبح لا غنى عنها للباحث والعالِم والمثقف والأديب والفنان والمهندس، ومختلف طوائف المجتمع العربي والعالمي. وأصبح من السهولة بمكان أن يستدعي الباحث أو طالب المعلومة كتابًا أو مقالًا أو بحثًا... إلخ بمجرد كتابة الاسم المرجعي أو الكلمة المفتاح في خانة محرك البحث، وفي لحظات قصيرة تنهال على الشاشة أسماء مكتبات عربية وعالمية بمجرد الدخول في دهاليزها يجد الباحث المعلومة بين يديه، بل يجد فضاء معلوماتيًا رحبًا يعادل في أهميته فضاء الإنترنت العام.
ويتفق الكثيرون على أن المكتبة الرقمية أو المكتبة الإلكترونية هي «مجموعة من المواد (نصوص وصور وفيديوهات وغيرها) مخزَّنة بصيغة رقمية ويمكن الوصول إليها عبر عدة وسائط منها الشبكات الحاسوبية، وبصفة خاصة الإنترنت».

 

كان الحال قبل ظهور المكتبات الرقمية، أن يذهب هاوي القراءة أو الباحث إلى المكتبات العامة، أو حتى الخاصة، للاطلاع على ما يريد من كتب ووثائق وخرائط وجرائد ومجلات قديمة وغيرها من المواد الورقية، وكان يستغرق هذا الأمر عددًا من الساعات أو الأيام، وربما ينجح في استعارة أحد هذه الكتب، أو إحدى هذه المواد، فيأخذها معه إلى منزله، ثم يعيدها بعد وقت معلوم، أو أن تكون المادة المطلوبة - أو الكتاب - ممنوعة من التداول خارج المكتبة، إما لندرتها أو لعدم توافر نسخ كثيرة منها، وفي هذه الحالة يلجأ القارئ أو الباحث أو طالب المعلومة إلى الجلوس في المكتبة للاطلاع، في جو فيه من الهدوء والراحة ما فيه، أو قد يلجأ إلى تصوير هذا الشيء النادر أو الممنوع من التداول، وقد حددت الكثير من المكتبات نسبة معينة للتصوير من الكتب التي تمتلكها، بما لا يزيد على عدد معين من الصفحات، أو نسبة معينة لا تتخطى 20  في المئة من عدد صفحات الكتاب، فضلًا عن أن المكتبة العامة أو حتى الخاصة لها مواعيد معينة تتعلق بالفتح والإغلاق والإجازات الأسبوعية أو الموسمية والعطلات الرسمية، كما أن المكتبة مرتبطة بوجود أمناء المكتبة الذين يزودون المترددين عليها بالكتب والمواد المطلوبة، سواء للاطلاع الداخلي أو الاستعارة الخارجية، فضلًا عن وجود عمال للخدمات الأخرى، وصيانة المبنى الذي تقع فيه المكتبة، وتوفير الإضاءة والتهوية الجيدة والنظافة وما إلى ذلك.
وغالبًا ما تحرر استمارة ورقية عند الاستعارة يوضح فيها اسم المؤلف وعنوان الكتاب وعدد الأجزاء ونمرة الحجم واسم المطالع وعنوانه وتاريخ الاستعارة، والتوقيع على مسؤوليته عن الكتاب منذ لحظة  تسلمه حتى إعادته للموظف المختص.
وكانت المكتبات تتنافس في حجمها وضخامتها وعدد أدوارها وكثرة موظفيها، فكلما كانت المكتبة كبيرة المساحة ومتعددة الأدوار دلَّ ذلك على ثرائها وكثرة محتوياتها، تمامًا مثل المتاحف والمعارض العالمية، وسوف تنهار هذه النظرية (نظرية الحجم والاتساع وتعدد الأدوار) مع ظهور أولى المكتبات الرقمية، وهو مشروع غوتنبرغ الذي قدمه الشاب مايكل هارت في عام 1971. 

وفرة المواد وضآلة المساحة
ضربت المكتبة الرقمية مثالًا على وفرة المواد مع ضآلة المساحة، فضلًا عن الأمور الأخرى المتعلقة بالموظفين وإدارة المبنى وخدمات الإضاءة والتهوية وما إلى ذلك، ففي عالم المكتبات الرقمية لن نحتاج إلى كل هذا.
أذكر أنه عندما اكتمل بناء مكتبة الإسكندرية الجديدة في عام 2002، وبلغت من الضخامة وتعدد الأدوار ما بين ما تحت الأرض وفوقها، ووصل عدد مقتنياتها من الكتب إلى الملايين، خرجت علينا بعض الآراء تسفِّه من فكرة إحياء مكتبة الإسكندرية، بقولها إننا في عصر المصغَّرات والمكتبات الرقمية تجيء مكتبة الإسكندرية لتشغل مساحة كبيرة وتتألف من إدارات متعددة ومتنوعة وعدد ضخم من الموظفين، وكأنها تعيش عصرًا غير عصرها، وتشير تلك الآراء إلى أننا نعيش العصر الرقمي الذي يتنافى معه وجود مكتبة ضخمة مثل مكتبة الإسكندرية، مع أن مكتبة الإسكندرية تمتلك أيضًا مكتبة رقمية بداخلها.
أيًّا كان الغرض السياسي والسياحي من تسفيه فكرة وجود مكتبة كبرى مثل مكتبة الإسكندرية في العصر الرقمي، فإننا - في ظل وجود المكتبات الرقمية - لم نعد في حاجة إلى ضخامة المباني وتعدد الإدارات وتنوعها، ويكفي وجود عدد قليل من الموظفين الأكفاء لإدارة المكتبات الرقمية الضخمة التي تحتوي على ملايين الكتب الرقمية أو المرقمنة، وملايين المواد الأخرى من مستندات ووثائق ومخطوطات وخرائط وأفلام وغيرها، فالمكتبة الرقمية حاليًا يتعدى محتواها الكتب الرقمية إلى غيرها من الوسائط، لدرجة وصف شبكة الإنترنت بأنها المكتبة الرقمية العالمية. 
إن مساحة التخزين في المكتبات التقليدية محدودة؛ في حين أن للمكتبات الرقمية القدرة على تخزين معلومات كثيرة في مكان ضيق، فالمعلومات الرقمية لا تحتاج سوى لفضاء مادي صغير جدًا لتخزينها. وعلى ذلك، فإن تكلفة صيانة مكتبة رقمية تعد أقل بكثير من صيانة مكتبة تقليدية. ولعل هذا السبب كان تكِئةً للهجوم على مكتبة الإسكندررية.

سلاسل وموسوعات
سنجد في المكتبة الرقمية العربية الواحدة كتبًا وسلاسل وموسوعات في موضوعات متنوعة ومختلفة ومتعددة مثل: الأدب العربي، الأدب العالمي، قانون، لغة، صحة وطب، فنون، إقتصاد وأعمال، بيوغرافي ومذكرات، كتب أطفال، تاريخ وجغرافيا، غرائب وأساطير، صحافة وإعلام، المرأة والعائلة، كتب دينية، علوم إسلامية، العلوم والطبيعة، كتب سياسية، كتب الفلسفة، علوم اجتماعية، سفر ورحلات، علوم عسكرية، علم النفس، كتب ثقافة جنسية، كتب التنمية البشرية، كتب الخيال العلمي، علوم الحيوان، علوم الهندسة، الزراعة والإنتاج، طرائف ونوادر، كتب تعليمية، طبخ وطعام، المصاحف الشريفة، رياضة وتسالي، قضايا فكرية، علم الآثار،... إلخ.
ومعظم محتويات هذه المكتبات يتم الاطلاع عليها وتحميلها بالمجان، والقليل منها الذي يطلب مقابلًا ماليًا رمزيًا مقابل التحميل على جهاز الكمبيوتر أو جهاز التليفون المحمول، أو الوسائل والوسائط الأخرى من آيباد وآيفون وغيرهما.
بعض المكتبات الرقمية مثل «مكتبة نور» ترى أن المكتبة عبارة عن محرك بحث كتب بالذكاء الاصطناعي، وتهدف إلى ترويج وإشهار الكتب العربية عبر الإنترنت، وإنشاء أكبر قاعدة بيانات لمؤلفي الكتب العربية عبر التاريخ. وقد بلغ عدد الكتب الموجودة بها - حتى لحظة كتابة هذا المقال - 865،275 كتابًا، منها ما نشره المؤلف بنفسه أو فريق المكتبة.
وقد تحولت مكتبة نور مؤخرًا إلى ناشر وكتبت على صفحتها إنها أكبر منصة عربية مفتوحة للكتب المتخصصة بنشر الكتب الإلكترونية العربية مجانًا بدون أي تكلفة. فإذا كان كتابك جاهزًا يمكنك بدء النشر الآن في ثوان. وتؤكد أن النشر مجانيٌّ، ويظهر الكتاب في الأماكن الأولى إذا بحث أي شخص عنه، لكن لو أن كتابك غير مشهور يمكنك الترويج المدفوع له لإظهاره في الأماكن الأولى للآلاف من العرب المهتمين بالكتب العربية حول العالم.
أما عن حقوق الملكية الفكرية لدى مثل هذه المكتبة، فهي محفوظة للمؤلفين المذكورين على الكتب، والمكتبة غير مسؤولة عن أفكار المؤلفين. ويتم نشر الكتب القديمة والمنسية التي أصبحت في الماضي للحفاظ على التراث العربي والإسلامي، والكتب التي يتم قبول نشرها من قبل مؤلفيها. وعندما يكون الكتاب خاضعًا لحقوق الملكية الفكرية، فإنه لا يمكن قراءته أو تحميله حفاظاً على حقوق نشر المؤلف ودار النشر. ومن خلال عدَّاد الزوار أوضحت مكتبة نور أن عدد زائريها يبلغ أكثر من سبعة ملايين في الشهر الواحد، وخمسمائة ألف عملية بحث يومية.
وبالإضافة إلى خدمات مكتبة نور، هناك مكتبات أخرى رقمية خدمية وتجارية مثل نيل وفرات وموقع أمازون (الذي يبيع كتبًا عربية إلى جانب الكتب الأجنبية)، وهناك موقع مكتبة الورَّاق، ويضم أمهات الكتب التراثية العربية، وآليات بحث ممتازة، وهناك مكتبة المسجد النبوي الشريف التي تقوم بجمع كل الكتب الإسلامية في صيغة إلكترونية ووضعها في قواعد بيانات وإتاحة البحث فيها للباحثين والروَّاد. ومن المكتبات الرقمية القديمة نسبيًا مكتبة آسك زاد التي أنشئت عام 1998 وتعرض كتبًا ودراسات جامعية ومؤتمرات علمية.
وهناك مكتبة هنداوي التي تتبع مؤسسة هنداوي للنشر والترجمة، والتي أنشأت موقع مكتبة هنداوي الرقمي الذي يحتوي على العديد من الكتب بصيغة بي دي إف متاحة مجانًا بعد حصولهم على حق نشرها، توجد بها كتب لكبار الكتَّاب العرب. ومن الميزات الأساسية لهذه المكتبة إمكانية الاقتباس والتصفح والحصول على الكتاب بصيغ مختلفة لتلائم قراءتك أو بحثك دون الشعور بالذنب من كونك حاصلًا على كتاب بصيغة بي دي إف بصورة غير شرعية أو لا تراعي حقوق الكاتب ودور النشر الفكرية. كما تحتوي المكتبة على مجموعة منتقاة من الكتب النادرة التي أعيد نشرها وكتابتها، في موضوعات مثل سير الأعلام واللغة العربية وآدب الرحلة.
 
مشكلات وتحديات
على الرغم من ذلك فإن هناك مشكلات وتحديات كثيرة تواجه المكتبات الرقمية، منها عدم حسم موضوع حقوق النشر والتأليف، وطريقة حفظ المواد الرقمية التي تتأثر بالجديد في هذا المجال، على سبيل المثال لم تعد الأسطوانات المدمجة أو المضغوطة، التي عليها عدد كبير من الموسوعات والمعاجم والتي تشتغل بنظام معين، لم تعد صالحة للتشغيل على نظام آخر. وتم اعتماد «الفلاش ميموري» بدلًا منها، والتي قد تصيبها الفيروسات جراء انتقالها من جهاز إلى جهاز، وكذلك بعض أجهزة القراءة لا تصلح لكل الأجهزة، وإنما يلزمها جهاز معين للعمل عليه.
وعلى فرض أنه في يوم من الأيام تعرضت شبكة الإنترنت لكارثة كبيرة، كأن انقطعت كابلاتُها وموصّلاتُها - كما حدث من قبل وانقطعت تلك الكابلات في البحر المتوسط - فكيف سيتم التواصل والدخول على تلك المكتبات وقت الحاجة إليها؟
ومن هذه التحديات أنه يجب أن يطوِّر العاملون في هذا المجال من أنفسهم وقدراتهم بصفة مستمرة ليجاروا كل جديد في هذا المجال. كما أننا لم نصل بعد إلى نسق عالمي موحد لتدفق المعلومات، مع الأخذ في الاعتبار هيمنة دولة واحدة على مقاليد الأمور في عالم الإنترنت، وعدم تدويل الإشراف على تلك الشبكة حتى الآن، رغم كل ما وصلت إليها من فتوحات ونجاحات. فضلًا عن مسألة الأمان والتحقق من هوية المستخدمين.
إن مستقبل المكتبات الرقمية في العالم مرتبط بحلول جذرية لمثل هذه التحديات، وإلا فإن المكتبات التقليدية - الصديقة الوفية للكتاب الورقي - ستعود لتعتلي عرشها من جديد ■