الأطفال ليسوا قِطَعًا من الطين كيْفَ يكونُ ابنُكَ صَاحبَ شَخصيّةٍ مُتَمَيِّزةٍ؟

في كتابه «مشكلات الآباء في تربية الأبناء» يقول د. بنجامين سبوك، طبيب الأطفال الأمريكي، الذي يُطلقون عليه في أمريكا لقب «مُربي هذا الجيل»، إن بعض الآباء يقعون في خطأ إصدار الأوامر للأبناء، ويريدون الابن آلة مطيعة لتنفيذ كل الأوامر، ويريدون كذلك أن يجردوه من شخصيته ليجعلوا منه نسخة سخيفة من شخصياتهم. في المقابل هنالك آباء يعثرون على الطريق الصحيح بوضعهم أسس بناء شخصية الطفل ليكتشف ما في أعماقه من مواهب. 
وموجهًا كلامه إلى الأب، يتساءل د. بنجامين: هل تريد أن يكون ابنك مثل بقية أبناء الآخرين، مجرد إنسان ترعاه لينمو ويحصل على وظيفة ويضمن رحلة العمر في سلامة، ويموت بعد عمر طويل دون أن يترك أي أثر؟ أم إنك تريد أن يكون ابنك صاحب شخصية متميزة، تُغيّر في المجتمع وتضيء الطريق أمام الآخرين؟

د. بنجامين يؤكد أن هناك العديد من الكتب والمقالات التي صدرت في السنوات الأخيرة تفضح أسلوب حضارة الغرب التي تحاول أن تجعل من كل إنسان نسخة من الإنسان الآخر، دون أن يشعر أحد بأنه مجرد نسخة مكررة خرجت من مطبعة كبيرة اسمها حضارة الغرب. إنه طفل لا يبدع كثيرًا، رغم أن كل مَن حوله قال له: إنك كي تكون عظيمًا يجب أن تفعل كذا.  وكلما نفّذ الطفلُ الأمرَ وحاز إعجاب الآخرين ازداد اندماجه في الدور المرسوم له كي يصبح مستهلِكًا لما تعطيه هذه الحضارة من أشياء. 
كما يعلن د. بنجامين أنه يشعر داخله بالتمرد الشديد على هذه الحضارة التي تحاول أن تجعل الأطفال كلهم متشابهين، وتخدعهم وتقتل فيهم إمكانات الإبداع. كذلك يقول د. بنجامين: إن أكثر من أب سأله هذا السؤال: ما رأيك، هل نربي الطفل على التفرد، وأن يجد في أعماقه متعة في مناقشة كل أمر يُلقى إليه، أم نجعله إنسانًا مطيعًا لكل الأوامر، ونَصُبَّه في قالب الطاعة؟ ويرد د. بنجامين على هذا السؤال قائلًا: إن الأب الأمريكي يهتم بتربية ابنه على أساس أنه يجب أن يحظى بحب الآخرين واحترامهم، ويفسر الأمريكيون هذا التكيف الاجتماعي بأنه الطاعة الدائمة والدخول في القالب الاجتماعي.

التمرد على القالب
بينما الأسرة الفرنسية تختلف عن الأسرة الأمريكية في أنها تطالب الابن بأن يضع لنفسه أهدافًا في الحياة، وأن يطبّق المُثُل العليا للأسرة، وهو حر بعد ذلك في اختيار الطريق. لكن لا يوجد مجتمع في حضارة الغرب كلها يسمح للإنسان بأن يتمرد على القالب، رغم أن الإنسان بطبيعته وفي فترة الشباب يرغب في أن يتمرد على القالب وأن يجد لنفسه مسلكًا آخر غير مسلك الأب أو المجتمع، ويمكنه أن يكون مبدعًا وعبقريًّا وخلاقًا إذا أحيطت الموهبة بالتشجيع، وإذا لم يحاول أحد أن يقتل فيه الموهبة. 
ولا ينكر د. بنجامين إعجابه بالاستقلال النسبي الذي يتمتع به الإنسان الفرنسي عندما يعبر عن رأيه في أي موضوع. وما زال يحلم بالمجتمع الذي ينمي في الطفل الموهبة ويبتعد به عن القالب، غير أنه يرى أن هذا الحلم يبدو بعيد المنال. هذا، ويحاول د. بنجامين أن يتوصل في رحلة بحثه إلى الفرق بين الإنسان المصبوب في القالب، ويقصد به من يطيع سواه طاعة عمياء من دون تفكير، وبين الإنسان الذي تتفجر فيه الموهبة، وكيف يُصنع القالب وكيف يُحطَّم. ويذكر أن الذي يتحكم في هذا الأمر هو علاقة التفاعل بين الأسرة والطفل أثناء نموه وتطوره وهذا ليس أمرًا سهلاً. 
كما يقول أيضًا إن الطفل يحاول أن يكون شبيهاً لأبيه، وكذلك نجد الأمر في الأسرة التي تعوّد الأب فيها على الرأي المستقل، والتفكير قبل التدبير، وعدم التسليم بالقواعد الاجتماعية، وإخضاع كل شيء للمناقشة وكذلك الأم، فمن المؤكد أن أبناء هذه الأسرة سيتميزون بالفردية والاستقلال والمناقشة والقدرة على إبداء الرأي. لكن هذا المعنى ما زال يحمل قدرًا كبيرًا من الاتساع، فليس هناك تطابق كامل في كل الأسر بين الآباء والأبناء.  هذا، ويضيف د. بنجامين: إن الأب الذي دخل في أحد قوالب المجتمع قد ينجب ابنًا متمردًا على ذلك ومهما حاول الأب أن يجعله مصبوبًا في قالب فإن الابن سيرفض وسينجح في هذا الرفض.  وكذلك الأب الذي تعود أن يرفض القوالب الاجتماعية فإنه قد يُنجب ابنًا تقليديًّا يغرق في احترام الأصول والقواعد.

كائن حي
هنا يصل د. بنجامين إلى خلاصة يقول نَصُّها: علينا نحن الآباء أن نعرف الحقيقة وهي أنه ليس باستطاعة أحد أن يخلق عامدًا متعمدًا ابنًا مصبوبًا في قالب وابنًا متميزًا... إذ يتمثل ذلك في حركة المجتمع نفسه. إن الطفل ليس قطعة من الطين في يد نحات، إنه كائن حي، يعيش آلاف التجارب، ويمر بمختلف الظروف، وعملية إكراهه على انتهاج طريق معين يفشل فيه الابن، ويصاب من جرائه الأب بالإرهاق العصبي. إن كل ما نستطيع أن نحيط أبناءنا به هو الأمن والاطمئنان، وأن نترك لهم حرية الاختيار. صحيح يمكننا أن نحدد إطارات معينة ومعقولة لسلوك الأبناء، مثل الأب والإحساس بالمسؤولية، ونحن قادرون على ذلك عندما نكون نحن قدوة لهم على هذا الطريق، لكن لن ينجح أحد في إكراه الابن على أن يكون مثلما يريد الأب، إلا إذا أراد الابن ذلك. الجدير بالذكر، أن معظم الآباء والأمهات لا يجدون الوقت الكافي لإكراه الأبناء على أن يكونوا مجرد نسخ منهم أو نسخ من أحلامهم، كما أن الآباء والأمهات يتمتعون غالبًا بطاقة من الحب والتفاني تسمح للابن أن يختار طريقه ■