العرب ومأزق الديمقراطية

هل يمكن زراعة النخيل في الإسكيمو؟ 
الإجابة عن هذا السؤال تقترب من الاستحالة، فهذه الشجرة الفريدة التي ساعدت الإنسان العربي على الحياة وسط طبيعته اللاهبة، وأعطته معظم أسباب الحياة مما يحتاج إليه ماعدا الثياب، رغم شموخها وعمرها الطويل، هي شجرة رقيقة لا تتحمل لفحات البرد ولا ذراته، لكن هذا يقودنا إلى السؤال الأكثر صعوبة: هل يمكن زراعة الديمقراطية في المنطقة العربية؟

 

الإجابة عن هذا السؤال مهمة أصعب من السؤال السابق، لأن زراعة المحميات حققت المستحيل في زراعة أصناف زراعية خارج بيئاتها الطبيعية، لكن كيف يمكن زراعة الديمقراطية في محمية؟

تحولات عالمية دراماتيكية
لقد مرت على العالم موجات متتالية من التحولات «الدراماتيكية» باتجاه أنظمة الحكم الديمقراطية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تلك التحوّلات مرت على المنطقة العربية كعصف الريح من دون أن تتأثر، كأنها كتلة صلبة ظلت صامدة في مكانها.
عندما نتمعّن فيما يدور حولنا نجد أن أوضاعنا تثير الاستغراب، حيث نشاهد موجات الديمقراطية تتمدد إلى قارة أمريكا اللاتينية معقل الديكتاتوريات المعاصرة، لتنهي حقبًا هيمن فيها العسكر على مقاليد السلطة، لقد رفع العسكر هناك أيديهم عن الحكم وتركوا أموره لصناديق الانتخابات. وقد نشأت أنظمة ديمقراطية خجولة في التكون سرعان ما استقوت ليصبح تداول السلطة هو البديل عن النزاعات الدموية، ولم تتوقف رياح التغيير الديمقراطي فهبّت على مناطق أخرى كانت تنام على انقلاب عسكري وتصحو على آخر مثل إفريقيا التي بدأت تنعم بشيء من الاستقرار على الرغم من تردّي الأوضاع الاقتصادية فيها ووقوع بعض الانتكاسات هنا وهناك، إلا أن إفريقيا اليوم لم تعد كما كانت في صورتها النمطية.

الأفكار منتج عقلي
ولأن الأفكار منتج عقلي يمكن النقاش والجدل حول إمكانية انتقالها بخلاف علم الزراعة، فبالطبع لا يمكن زراعة النخيل في الإسكيمو، لكن الأفكار لها خاصية الانتقال والتأثير في الآخرين، أي إن الديمقراطية كفكرة يمكنها الانتقال إلى كل مناطق العالم وأي تجمّع بشري بما فيها المنطقة العربية، لأنها ببساطة تعني أسلوب حكم وإدارة لها إرث فكري وتاريخ من التجارب المتواصلة والمتأصّلة لطريقة المجتمع في تحقيق الاستقرار السياسي والمساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع وحماية حقوق الإنسان وحرياته العامة وأخيرًا تحقيق الرخاء الاقتصادي وتقليل مستويات الفقر والجوع.

جدران صلبة
إذًا تلك الفكرة تقودنا للتساؤل عن أسباب عدم اختراق الأفكار المتعلقة بالنظام الديمقراطي جدران العقل العربي والمنطقة التي يعيش فيها على الرغم من توافر الكثير من ميزات ذلك النظام وسقوط كل العوائق التي تمنع وصول تلك الأفكار بفضل الثورة الرقمية، وهل يعود ذلك إلى غياب بعض أو معظم شروط استقبال الديمقراطية؟ الأمر محير ويجذبنا لطرح المزيد من التساؤلات.

تغيّرت الوجوه وبقيت الأفكار
التاريخ يعلّمنا من دون كلل أو ملل، أن حكم الفرد، أو زمرة من الطغاة، كان سببًا مباشرًا في انهيار الأنظمة ونشوب الحروب الداخلية والخارجية، ورغم أن ثورات الربيع العربي التي وقعت قبل أكثر من عشر سنوات نجحت في تغيير بعض الوجوه إلا أنها حتى الآن لم تحقق الكثير من أهدافها أو تتأثر بموجات الديمقراطية كما حصل في مناطق أخرى من العالم، ربما لأنها كانت تعاني من جفاف الممارسة ولم تتكرس أفكارها في النظم التعليمية والموروثات الاجتماعية، إلا أن الواقع الحالي يقول إن الطريق لا تزال طويلة ونبرة التحسر على الأوضاع المعيشية في عهود الاستبداد لا تجد مَن يستهجنها، فهل يا ترى نعلن استسلامنا ونعترف للعالم بأننا أمة مختلفة،
أم نواصل النضال لكي نكون نسخة أفضل من أنفسنا؟ 
إذًا لا بد من التفكير الذي ينطلق من تجارب الآخرين وتجاربنا - رغم قلّتها - وأن تتحمل النخب المثقّفة مسؤولياتها في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري بأهمية الأخذ بالنظام الديمقراطي وتداول السلطة كأسلوب حياة، وضمن هذا السياق سنحاول طرح بعض الأفكار.

المجتمع هو خط الدفاع الأول 
لفهم الديمقراطية كجوهر وأنظمتها المتعددة التي تمارس بطرق مختلفة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، لا بد من وجود نظام تعليمي يعزز حضور الوعي بالديمقراطية وقيمها، لأن التعليم أداة مهمة في جعل المجتمع بأسره هو خط الدفاع الأول الذي يحمي النظام الديمقراطي والاستقرار بكل معانيه.
يقول الكاتب يوسف إدريس: إن كمية الحرية الموجودة في عالمنا العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا يريد أن يعبّر عن رأيه، وفي زمن الثورة الرقمية أصبح وجود القوانين المقيّدة لحرية التعبير عبئًا هزليًا وتمثيليًا ورمزًا لأساليب متخلفة تتصادم مع الأجيال الجديدة التي لا يمكن تكبيلها أو إخراسها.
إن وجود ديمقراطية من دون حرية تعبير شيء مستحيل، لأن الكشف عن العيوب وتقديم الحلول هما أساس الإصلاح المرجو، ووجود مناخ ضاغط يلقي بأصحاب الرأي والسياسيين في السجون لن يؤدي سوى إلى الانفجار بطريقة أو بأخرى. 

 نظام اقتصادي حر
من العبث التحدث عن الديمقراطية بوجود نظام اقتصادي يمنع من وجود فرد خاضع لمن يوفر له احتياجاته، ويمنع من وجود قطاع خاص تتفجر فيه المواهب والأفكار الخلّاقة، ومثلما يشترط وجود حق الاختيار في العملية السياسية فلا بد من وجود حق الاختيار في العمل ونوع العمل وحق البدء في إنشاء مشروع اقتصادي يكفل لصاحبه الحياة الكريمة.
لعل النقاط السابقة بدأت ترسم ملامح اشتراطات الديمقراطية وهويتها التي لن تكتمل إلا بوجودها، فلا ديمقراطية من دون حرية تعبير ونظام اقتصادي حر، ونواصل: لا ديمقراطية بوجود مؤسسات تعجّ بالفساد الإداري والمالي والرشوة والتزوير وفريق متسلّط يعمل فوق القانون ولا يحصل منه سوى على المنافع ويترك المغارم على البسطاء والعاجزين عن أخذ حقوقهم بالقانون، ذلك الفساد هو معول هدم أي نظام ديمقراطي، وهو بوابة الشروط التي يدخل منها المستبدون.
ونأتي إلى واحد من الاشتراطات التي تعكس بشكل واضح صحة وعافية الديمقراطية ودولة القانون والمساواة، وهو: احترام الأقليات والتعامل معهم كمواطنين يحق لهم ما يحق لغيرهم في الحقوق والواجبات والفرص التي توفرها الدولة والحق في تولي المناصب على أساس معيار الكفاءة وليس النسب أو اللون أو الدين أو المذهب.
ويكمن داخل هذا الشرط ضمان عدم انهيار السلْم الأهلي من الداخل وتكون مجتمع متماسك تكون فيه الأصوات العنصرية في أضعف حالاتها.

جفاف الممارسة الديمقراطية
سبقت الإشارة إلى جفاف الممارسة الديمقراطية، وهي باختصار تعني أن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يحصل دون وجود مؤسسات مجتمع مدني وأحزاب سياسية وحرية تعبير تشمل منظومة من الحريات مثل حرية الصحافة، تنظم ممارستها تشريعات وقوانين متكاملة.
في تلك البيئة تبرز المواهب والقيادات وتحصل الأخطاء ويتكون رأي عام ضاغط وخافض ورافع تتشكّل فيه آراء البسطاء ويتصارع فيه السياسيون، وتتطاحن المشاريع، كل ذلك وأكثر يحصل في الديمقراطيات الناشئة التي تستطيع اختصار مسيرة تجاربها بالاستفادة من تجارب الآخرين، وعلى الرغم من التعب والمشقة في عملية التحول إلا أنها لا تقارن بأنظمة الاستبداد وهيمنة الرأي الواحد والاختيار التعيس بين سيادة الفرد وسيادة الفوضى.
في الختام، ووسط كل هذه التحولات التي تحدث في العالم وكل هذا الانفتاح، فإن الطريق إلى الديمقراطية ليس مستحيلًا، لأنها كنظام تحاكي في هذا الزمن كل تطلعات الشعوب من دون أن تكترث إلى مصدرها الغربي، لأن الفكرة الجيدة مثل المنتج الجيد الذي نستورده لكي نجعل حياتنا أفضل، والإرادة إذا ما توافرت تذلّلت أمامها الصعاب، والشعوب التي تعتبر نفسها محافظة مثل بعض دول شرق آسيا، ومن بينها الدولة الإسلامية ماليزيا، ركّزت على جوهر الديمقراطية واختطّت لنفسها التفاصيل التي تميّز خصوصياتها الثقافية والاجتماعية لتكسب الرهان في خلق ديمقراطيتها الخاصة ■