وصية جابر عصفور

في مثل هذا الشهر من العام الماضي رحل عن دنيانا الناقد العربي د. جابر عصفور، وهو أحد أعمدة الكتاب في مجلة العربي. د. عصفور ظل وفيًا لمشروع التنوير حتى أيامه الأخيرة وكان أبرز ما يستحق التوقف عنده هو وصيته التي ضمت استراتيجية مصر الثقافية وطبعت تحت عنوان «وصية جابر عصفور - استراتيجية مصر الثقافية».
تلك الوصية حملت معها الكثير من الأسئلة المستحقة مثل تراجع دور مصر في الوقت الحالي، وهل فشلت خارطة طريق طه حسين الثقافية التي تمثلت في كتاب صدر عام 1938م «مستقبل الثقافة في مصر»؟ أم إنها لم تطبق على الإطلاق، أو عفا عليها الزمن، ولم تعد مواكبة للتغيرات في مصر، المصرية والعربية والعالمية؟ وما الفرق بين خارطة طه حسين وخارطة جابر عصفور؟

 

لم يكن د. جابر عصفور وحده الذي صاغ أفكار هذا الكتاب أو هذه الوصية، حيث يشير تقديم رئيس تحرير سلسلة «كتاب اليوم» الكاتب علاء عبدالهادي، إلى أن 61 من صفوة عقول مصر ومثقفيها هم من قاموا بصياغته تحت قيادة جابر عصفور عندما كان وزيرًا للثقافة، حيث وجد أن من أولى مهامه في رحلته في المنصب - التي كان على يقين بأنها قصيرة - أن يحدد نقطة البداية والخريطة التي نسير عليها لكي تستعيد مصر عافيتها ثقافيًا، لذلك خرج هذا العمل ليشكل استراتيجية المنظومة الثقافية 2015-2030. 

التنمية الثقافية المستدامة
لقد آمن د. جابر عصفور - كما تقول أرملته د. هالة فؤاد - بأن تحقيق أي تقدم أو خطوة تنموية متطورة في بلادنا في أي مجال أو على أي مستوى لن يكتب له النجاح الحقيقي أو يكتمل ويتم الحفاظ عليه إلا عبر التنمية الثقافية المستدامة، بل إنه كان يرى أن تجاهل البعد الثقافي، أو إرجاءه، قد يؤدي تدريجيًا إلى انهيار أي مسارات تنموية مادية.
إذن كانت التنمية الثقافية من وجهة نظر جابر عصفور، وفريق عمله، هي العمود الفقري للتنمية الشاملة المستدامة في الميادين والمجالات كافة، والتي ينبغي أن تتطور متوازية مع التطور في باقي المجالات التنموية، بل لعلها تكون حاضنة أساسية.
ويبدو أن نظرة د. جابر عصفور إلى الفعل الثقافي واستدامته على هذا النحو لم تكن مع توليه منصب الوزير، بل قبل ذلك بكثير، ربما منذ أن كان طالبًا في الجامعة، لكنه عندما تولى أمانة المجلس الأعلى للثقافة وجدها فرصة مواتية لأن يقوم هذا المجلس بوظيفته الأساسية المنوطة به، بوصفه العقل الذي يفكر لمصر، حاضرها ومستقبلها على حد تعبيره. وقد استطاع من خلال إعادة تنظيم هذا المجلس وهيكلته مجددًا أن يجعله قادرًا على أداء هذه الوظيفة الأساسية، ليصبح هذا المجلس منارة ثقافية مصرية تستقطب كبار المثقفين المصريين والعرب، بل قامات ثقافية من كل أنحاء العالم.

سياسات ثقافية شاملة وفاعلة
ثم جاءت خطوة إحياء حركة الترجمة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، من خلال مشروع الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، ثم إنشاء المركز القومي للترجمة الذي رأسه د.جابر عصفور لفترة، غير أن الحالم الثقافي د.جابر عصفور لم يكتفِ بهذا، لأن تحقيق التنمية الثقافية في مصر والعالم العربي يحتاج إلى سياسات ثقافية أكثر شمولية واتساعًا وفعالية، فما أنجزه الحالم حتى ذلك الوقت لم يكن سوى مجرد بدايات أولية في طريق الألف ميل. وعندما تولى منصب الوزير سرعان ما قام بإعداد تصور استراتيجي كلي حول آليات تحقيق تلك السياسات الثقافية وتفعيلها كي تحقق الأهداف والغايات المطلوبة منها.  وفي الوقت نفسه رأى ألا يعتمد على رؤية فردية أو على عقل واحد أو تصور أحادي مركزي لأحد، حتى ولو كان هو، فقام بتشكيل فريق عمل تحت مسمى «فريق عمل محور الثقافة في استراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030» لكي يتابع النقاش والحوار حول هذه الاستراتيجية مع مجموعة من الوزارات ذات الصلة بالشأن الثقافي ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية...إلخ.
وتخبرنا زوجته د. هالة فؤاد أن تلك المجموعة نجحت في أن تخرج المحتوى الذي جعل د. جابر عصفور منفتحًا على مزيد من النقاشات والتعليقات والحوارات. لقد تحدث د.عصفور قبل رحيله مرارًا في البرامج الحوارية وكتب في الصحافة عن تلك الاستراتيجية الثقافية، لكنها لم تخرج للنور كاملةً كما هي في هذا الكتاب الذي حمل عنوان «وصية جابر عصفور».
ونحن بدورنا في مجلة العربي نحاول أن نلقي الضوء على تلك الوصية التي تتضمن استراتيجية ثقافية لا أحسبها لمصر وحدها، وإنما لكل الوطن العربي، فماذا عن تلك الاستراتيجية؟

عمل جماعي ومؤسسي
تستند بنود الاستراتيجية إلى تنسيق وتعاون بين مجموعة الوزارات المعنية بتنوير العقل وترشيد الفكر من جهة، وبين منظمات وهيئات المجتمع المدني المهتمة في عملها بالبعد الثقافي في بناء الشخصية الوطنية المصرية من جهة أخرى.
وتؤكد الاستراتيجية أنه إذا كانت وزارة الثقافة هي الوزارة المنوط بها بشكل أساسي تحمل أعباء العمل الثقافي الحكومي في مصر، فإنها مع ذلك لا تنفرد بتنمية ثقافة المجتمع أو ثقافة المواطن، فهناك وزارات ومؤسسات حكومية أخرى، ومؤسسات للمجتمع المدني تلعب أدوارًا موازية ربما أكثر تأثيرًا، والمؤكد أنه عن طريق العمل المؤسسي المتكامل بين الأطراف الفاعلة كافة في الشأن الثقافي يمكن النهوض بالعمل الثقافي عبر الارتقاء بالمستوى الثقافي والفني والأخلاقي والجمالي وتعزيز روح الانتماء الوطني، وتأكيد المسؤولية الاجتماعية للمواطن. لكن ما هي الثقافة التي تكرر لفظُها كثيرا في تلك الاستراتيجية؟

مجموع السمات الروحية والمادية
تقدم الاستراتيجية الثقافية تعريفًا محددًا للثقافة سبق لمنظمة اليونسكو أن تبنته منذ عام 1982، والذي يرى أن الثقافة هي: مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي يتسم بها مجتمع أو جماعة اجتماعية بعينها، ويتضمن مفهوم الثقافة إلى جانب الفن والأدب، أساليب الحياة وطرق العيش المشترك، وأنساق القيم والتقاليد والمعتقدات.
ومن أهم بنود الاستراتيجية الثقافية تحليل الوضع الراهن، من خلال مصفوفة عناصر القوة والضعف والفرص والتهديدات، وتكمن عناصر القوة في الموارد البشرية بمجالات الثقافة والفكر والفنون والأدب، فمصر ليست أمةً فقيرة ثقافيًا يتعين عليها أن تبدأ من الصفر، بل لديها رصيد هائل لا حصر له ومنذ زمن بعيد يشمل الإمكانيات المادية والبشرية وعناصر القوى الناعمة.
أما عناصر الضعف فتتمثل في سيطرة البُعد الخدمي للثقافة، حيث هيمنة فكرة أن الثقافة خدمة، وليست صناعة، فانسحبت الدولة تدريجيًا من مجال دعم الصناعات الثقافية الثقيلة؛ كالسينما والمسرح والموسيقى. ومع عدم وفاء الميزانية بمتطلبات العمل الثقافي المتغيرة والمتجددة على مر الزمن، تدنّت الخدمات الثقافية في جودتها وفعاليتها.
ومن عناصر الضعف أيضًا تفاقم الفجوات الثقافية بين الدولة والمجتمع، بحيث وصلت إلى أقصاها في السنوات الأخيرة. مع خلل مؤسسي تعاني منه المؤسسات الثقافية يحول دون قدرتها على تقديم منتج ثقافي جيد، بالإضافة إلى ضعف المنتج الثقافي نفسه.
ومن المخاطر التي تواجه العمل الثقافي في مصر قصور مفهوم التنمية البشرية في السياسات العامة للدولة، وغلبة العقلية الإقصائية على إدارة المؤسسات الثقافية، وفقدان الدولة للدور الثقافي المؤثر، وظهور التنظيمات السلفية الجهادية ذات البعد الأممي.
وعلى الرغم من ذلك هناك فرص متاحة ينبغي استثمارها وتعظيم العائد منها، مثل: وجود الموارد البشرية، والتراث الثقافي المادي وغير المادي المحلي الهائل الذي يتمتع بالثراء والتنوع في المجالات كافة، بالإضافة إلى التسهيلات الإلكترونية الكبيرة من خلال بنية تحتية ضخمة من الاتصالات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات والإنترنت، كما أن هناك رأسمالًا كبيرًا لدى رجال الأعمال يمكن توظيفه في الصناعات الثقافية، فضلًا عن المخصصات المالية للأنشطة الثقافية والترفيهية في كثير من الهيئات والوزارات المختلفة. 

الاستثمار في الصناعات الثقافية
لعل من أهم بنود استراتيجية مصر الثقافية المطروحة في «وصية د. جابر عصفور» تطوير العمل بوزارة الثقافة، ويدخل في ذلك تطوير أدوات العمل الثقافي الذي يجب أن يعتمد على فلسفة جديدة تقوم على عدة مبادئ، وهي: دور الدولة الراعي للخدمات والصناعات الثقافية، والشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني في الشأن الثقافي، والاستثمار في الصناعات الثقافية، والتوزيع العادل للخدمات والمنتجات الثقافية، واحترام التعددية الثقافية وحماية التنوع الثقافي، وانفتاح العمل الثقافي المصري على العالم.
وليس هناك شك أن تطوير العمل الثقافي المؤسسي يشمل إعادة هيكلة وزارة الثقافة نفسها ككل، والقيام بمراجعة وتطوير كل القوانين والتشريعات والقرارات واللوائح التي تعوق العمل الثقافي، وتفعيل قانون الملكية الفكرية للمبدعين في مجالات الثقافة والفنون والتراث الشعبي، ووضع آليات مؤسسية للشراكة المجتمعية بين وزارة الثقافة والوزارات والهيئات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالشأن الثقافي العام، وتوظيف كل الطاقات العاملة في مؤسسات وزارة الثقافة للتشغيل الكامل لأنشطة المواقع الثقافية، والعمل بروح الفريق، واتخاذ تدابير تدريجية وفعالة لتطوير الموارد البشرية بما يسهم في رفع كفاءة الجهاز الإداري لوزارة الثقافة، مع ضمان حرية الإبداع الثقافي والفني، وضمان حرية تبادل المعلومات ودعم الموهوبين والنابغين.
ولم تغب العقبات المتوقعة عن واضعي هذه الاستراتيجية، ومنها: ضعف الكوادر البشرية بوزارة الثقافة، وقلة الموارد المالية المتاحة، ومحدودية الإمكانيات المادية والتجهيزات اللازمة لممارسة العمل الثقافي في بعض المجالات.
ولم تُترك هذه العقبات دون حلول ممكنة، حيث يمكن توظيف التعاون القائم مع الوزارات والهيئات المختلفة بما يتيح الفرصة لتعويض بعض أوجه القصور في الموارد البشرية عن طريق الدورات التدريبية لرفع قدرات العاملين بالوزارة، وترشيد الإنفاق والتوظيف الجيد والفعَّال للموارد المتاحة على أفضل وجه، وتحفيز رجال الأعمال والمجتمع المدني على المشاركة في دعم الأنشطة الثقافية بوصفهم رعاة، والبحث عن موارد غير تقليدية من عائد الصناعات الثقافية، واستثمار التعاون مع الوزارات والهيئات المختلفة في استخدام الإمكانيات المالية المتاحة لديها لممارسة الأنشطة الثقافية بصورة فعَّالة، بما يخفِّف العبء على الموازنة العامة للدولة.

السياحة الثقافية
وتسعى الاستراتيجية لخلق مجالات تعاون مع بعض الوزارات والهيئات تسهم في تحقيق العدالة الثقافية، ورعاية الموهوبين، ورفع شعار «الثقافة من أجل التنمية»، مع الأخذ في الاعتبار حماية التراث الوطني والتنوع الثقافي، وتجديد الخطاب الديني، والسياحة الثقافية.
ولا يفوت الاستراتيجية عرض تصور شامل لمشروعات التعاون المشترك مع وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الشباب والرياضة، ووزارة الأوقاف، ووزارة التنمية المحلية، ووزارة التضامن الاجتماعي، ووزارة التطوير الحضري والعشوائيات، ووزارة القوى العاملة والهجرة، ووزارة الآثار، ووزارة السياحة، ووزارة الصحة، ووزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة، ووزارة البيئة، ووزارة الموارد المائية والري، ووزارة الاتصالات، فضلًا عن التعاون المشترك مع الهيئات والمجالس القومية، مثل المجلس الأعلى للإعلام، والمجلس القومي للمرأة، والتعاون مع جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني مثل مؤسسة دوم الثقافية وساقية الصاوي.
ولا شك أن هذه الرؤية التي قدمها د. جابر عصفور وفريق عمله تقترب من رؤية طه حسين لمستقبل الثقافة في مصر، بقدر ما تبتعد عنها، فهي تقترب في نواحي التعليم الذي كرَّس طه حسين معظم فصول كتابه للحديث عنه، فلا ثقافة دون إصلاح التعليم العام والتعليم العالي، فمهمة التعليم الأولى أخطر من محو الأمية، ومرحلة التعليم الأولى لا تكفي، كما تحدث العميد عن مشكلات التعليم العام، وإعداد المعلم للقيام بالتعليم العام، والاهتمام بالصحافة والسينما والراديو، أو وسائل الإعلام المختلفة.
أما ما يباعد بين الرؤيتين فهو اهتمام طه حسين باللغتين اليونانية واللاتينية، وسبل تعلمهما في التعليم العام، وحرصه على مراقبة الدولة للأطفال، أو الاهتمام بالأطفال عامة، وهو ما لم تتحدث عنه استراتيجية الراحل د.  جابر عصفور ■