معركة الخطوط

معركة الخطوط

على شاشة الحاسب المضيئة في ظلام الغرفة، كانت الفأرة الصغيرة واقفة عند قائمة الخطوط المفتوحة.
لقد نام (شادي) وهو يعمل على الموضوع الذي يكتبه عن الحضارة الإسلامية، كان على وشك اختيار الخطوط الأنسب لموضوعه، لكن غلبه النعاس فرأى أن ينام برهة ثم يستيقظ ليكمل العمل. 
كانت القائمة مليئة بأنواع الخطوط المختلفة التي تنسدل في طابور طويل تنتظر أن يتمّ اختيارها. من بين الخطوط، قفز خطّ (الكوفي) على الصفحة المفتوحة والمليئة بالكلمات المكتوبة بالخط البسيط. فور أن انتقل (الكوفي) إلى الصفحة، تحوّلت جميع الكلمات إلى ما يشبه زخارف هندسية رائعة، ذات زوايا حادّة واضحة، كأنّما رُسمت بِمسطرة.
- تهادى (الكوفي) بِخُيلاء، وصاح بِثقة: «أنا أفْضل خطٍّ يُكتب به موضوع عن الحضارة الإسلامية. أنا أوّل خطٍّ استُخدم لتدوين القرآن الكريم، ثم إنني استُخدمت في الدول الإسلامية الكبرى، وسُمّيتُ باسمها، ألا تعلمون أن هناك الكوفي المملوكي، والكوفي الأيوبي، والكوفي الفاطمي، والكوفي الأندلسي؟ وإنني بالتأكيد الأعظم في الشكل والتنظيم، وحروفي منضبطة ويابسة، ومظهري جادّ ووقور...».
قفز خط (الثُّلُث) من القائمة مُزاحمًا الكوفي  على الصفحة المفتوحة، فتحوّلت الكلمات بسرعة إلى رسوم وزخارف، كل الحروف مزيّنة بعلامات الصرف والضبط، وحِلْيات دقيقة تبدو مثل الفراشات الصغيرة، وجُمل بكاملها التفّت حول نفسها في تصميم دائري أو أسطواني بديع، وكأنها لوحات مرسومة لا كلمات.
- قال (الثُّلُث) مباهيًا: «أنا ملك الخطوط وأجملها، وأنا أصعبها كتابة؛ مَن يتقنني يستطيع إتقان غيري بسهولة، وأنا ملِك الزخارف في الكتابة العربية، لأنني مرن ومتعدّد الأشكال، ولست يابسًا مثلك أيها الكوفي».
- صاح (الكوفي): «لكنّي أيضًا أساس في التزيين والزخارف، وقد رُسمَت حروفي كأوراق الشجر، وكالضفيرة، وكَلَوح الشطرنج...».
بينما يتراشق الكوفي والثُّلُث بعبارات المباهاة، قفز من القائمة خطّ (الديواني)، فتحوّلت الصفحة إلى حروف ناعمة مستديرة، تبدو وكأنها تتراقص على السطور. 
- قال (الديواني) بصوت خفيض: «إن ظننتما أنكما الاثنان فقط ملكا الزخارف فقد أخطأتما، لقد نسيتما الخطّ الديواني. صحيح أنني وُلدت بعدكما في زمن الدولة العثمانية، لكنني لا أقلُّ شهرة ولا بهاءً عنكما. لقد كنت في بداياتي سرًا من أسرار القصور، واستُخدمتُ فقط في الدواوين الحكومية، في كتابة الأوسمة والنياشين والتعيينات».
من القائمة قفز خطّ آخر هو الخط (الفارسي)، فتحوّلت الصفحة إلى حروف ناعمة رشيقة، تتمدّد باسترخاء شديد على السطور، وكأنها تسبح في نهر... . 
- صاح (الفارسي): «تتحدثّون عن الزخرفة بدوني! ألا ترون حروفي الليِّنة الممتدّة الجميلة؟ إنها الأطول في الرسم، ولطالما كنت مجالاً لإبداع الخطّاطين والفنّانين، فكتبوا بي الأشعار والحِكَم مستخدمين حيويتي وطواعيتي».
وسط انشغال المتباهين، قفز خطّ (النسخ) إلى الصفحة، ففقدت الحروف رخاوتها، وتراصّت الكلمات في جدّية، واضحة كاملة، قصيرة، بلا امتدادات أو التواءات زائدة. 
- صاح خطّ (النسخ): «أتتشاجرون حول العظمة والزخارف؟ هذه الصفحات هي موضوع علمي طويل سيقدّمه (شادي) للمسابقة الأدبية في مدرسته، وليست نقوشًا أو زخارف على أعمدة قصر أو مسجد، لذلك كلما كان الخطّ أكثر وضوحًا وبساطة مثلي كان ذلك أفضل.
أتعلمون أنني كنت المفضّل في نسخ الكتب الطويلة، مثل كتب الفقه والعلوم المختلفة، لأنني الأقلّ تعقيدًا، ممّا يساعد الذي يستخدمني على النسخ بسرعة، ولهذا سمّيتُ بِخطّ النسخ».
- قال (الكوفي):  «إن جهاز الحاسب قد سهّل عملية النسخ، فلن يكون (شادي) مضطرًا لأن يستخدم الأقلام المخصّصة والدواة والمحبرة، أو أن يتعلّم القياسات الهندسية اللازمة ليستخدم أيًا منّا، كما يفعل الخطّاطون، عليه فقط أن يختار نوع الخطّ من قائمة الخطوط».
- قال (الثُّلُث): «إن النسخ معه حق يا كوفي، فبعيدًا عن سهولة الخطّ أو صعوبته، سيبدو شكل الصفحات غريبًا وغير مألوف لو كُتبت كل السطور بِخطوط زخرفية مثلنا».
- أومأ (الفارسي) برأسه: «نعم أتّفق معك، أظن أننا أنسب في عناوين الكتب، خاصّة كتب التاريخ والفنون والأدب، وربما استخدمنا الخطّاطون في تصميم اللافتات والإعلانات لِما تتطلّبه من تزيين يجذب النظر... لكن بالنسبة لبحث علمي طويل فالأنسب هو الخطّ البسيط».
- قال (الكوفي) وقد استحالت ثقته حزنًا: «ولكن قديمًا كان الناس يكتبون بي المصحف بكامله...!».
- قال (النسخ): «ما زلت رائعًا وبهيًا يا كوفيّ، وقد دُوّنتْ بك كثير من المخطوطات المهمّة، ومازال الإعجاب بك والإقبال عليك قائمًا إلى اليوم، لكن...».
عند ذلك أضاء نور الغرفة فجأة، إذ استيقظ (شادي) وعاد للحاسب مرّة أخرى، وفور أن أمسك الفأرة قام بتظليل سطور مقاله كلها، واختار لها خطّ النسخ. 
وبِخطٍّ فارسي رشيق، كتب (شادي) اسمه وصفّه واسم مدرسته، وأضاف اسم المدرسة أعلى يمين الصفحة بِخطّ الثُّلُث.
أما العنوان الرئيس، فقد ظلّله شادي، ونقر على الخط الكوفي، واختار حجمًا كبيرًا جدًا لِلخطّ. هكذا هلّ الكوفي كبيرًا واثقًا سعيدًا، فتوسّط الصفحة الأولى حيث كتب: (معالم من تاريخ الحضارة الإسلامية).