قطر أتعبت من بعدها!

لأيام قليلة تخلى العالم عن حماقاته المعتادة، لحظات تسامت فيها البشرية على نفسها، لم تتوقف الحروب ولكن تراجعت أخبارها، ولم نتعافَ من الأوبئة لكننا تنفسنا هواء جديدًا خاليًا من الجراثيم ولم نتغلب على متاعبنا الاقتصادية لكننا عشنا لحظات من السحر جعلتنا ننسى مؤقتًا وطأة هذه المتاعب، هذه اللحظات دون مبالغة كانت أثناء بطولة كأس العالم لكرة القدم، تلك المسابقة التي ينتظرها الجميع بشغف كل أربع سنوات، ورغم أن هذه المسابقة هي الثانية والعشرين في تاريخ كأس العالم إلا أن هذه المناسبة كانت مختلفة تمامًا، فقد أقيمت للمرة الأولى على أرضنا، أرض العرب قطر، وكانت الأروع والأكثر حفاوة وبهجة.

 

عندما انتهت الدورة وتوقفت الإثارة اليومية انتابت العالم حالة من الإحباط أطلق عليها «اكتئاب ما بعد المونديال»، وهي حالة سوف تطول ربما حتى موعد المونديال القادم،  تأخر انطلاق كأس العالم في قطر بضعة أشهر عن موعده المعتاد في بداية الصيف، كان من الضروري انتظار الانتهاء شهور القيظ في الخليج التي لا يتحملها إلا أهلها، ورغم ذلك جاءت الكأس في موعدها تمامًا، لأن العالم كان على وشك الدخول إلى حالة من الإحباط العام، فالحرب التي اشتعلت فجأة في أوكرانيا قد استطالت وتخطت كل منطق للحل، وبلغ الأمر حتى التهديد باستخدام الأسلحة النووية، وأصبح العالم يعيش على حافة الهاوية، تمامًا كما حدث إبان الحرب الباردة،  ولم يكن الاقتصاد بأفضل حال، فهناك قلة من الدول تعاني من التخمة وفائض الإنتاج بينما تعاني الأكثرية من قلة الموارد وموجات الجفاف والتصحر، أمور عانى منها العالم طويلًا لكنها بلغت ذروتها في الأعوام القليلة الماضية وفاقمت الحرب حدة هذه المشاكل وارتفعت أسعار الطاقة لحد لا يطاق.
وجاء موعد كأس العالم مثل طاقة من النور وسط هذه الظلمة، وعد قصير الأمد بالإثارة والمتعة بعيدًا عن أحوال العالم المتردية، وبدت قطر، تلك الدولة الصغيرة على حافة الخليج، أبعد ما تكون عن تحقيق حلم من المتعة يمنع العالم من التقاط أنفاسه، لكنها أدهشت الجميع وفعلت هذا وأكثر، فقد قدمت في النسخة الثانية والعشرين أفضل نسخة قدمت في هذه المسابقة، وارتدت مدينة الدوحة كلها أبهى زينتها، كل مبانيها المطلة على الخليج متألقة بالأضواء الملونة، وكل شوارعها مزدانة بالأعلام وشعارات الصداقة، توافد الآلاف من المشجعين من كل العالم، وضج بهم سوق واقف ومشرف ومدينة لوسيل وميدان البدع حيث توجد أماكن المشجعين، أماكن تتبعها العالم كله على مدى شهر وخرجت من كونها أماكن محلية إلى أماكن يتلاقى فيها كل أنواع البشر. هذه الصفحة البهية أضيفت إلى بقية صفحات كأس العالم. 
بدأ تاريخ الكأس الأولى في عام 1930 حين غامرت دولة صغيرة في أمريكا الجنوبية هي الأوروجواي بقبول تنظيم أول بطولة، قبلها كانت هذه المسابقة مجرد فكرة تبناها المحامي الفرنسي جول ريميه الذي تم انتخابه رئيسًا للاتحاد الدولي، وبدأ في تنفيذها بصورة محدودة بين أوربا وقارة أمريكا الجنوبية، قبل أن يتم وضع خطوطها النهائية وفتحها أمام بقية العالم للمشاركة، وقد اعتذرت كل الدول الأوربية عن إقامتها بسبب تكلفتها وسبب حالة الكساد التي تعاني منها، واعتذرت إنجلترا عن المشاركة بحجة أنها لم تكن تريد أن تلعب مع الدول التي حاربتها في الحرب العالمية الأولى، لكنها كانت لها أهداف أخرى، وهكذا تطوعت الأوروجواي التي كانت تملك في ذلك الوقت منتخبًا قويًا، استطاع أن يهزم الجميع بما فيهم البرازيل ويفوز بالكأس، ولابد أن التجربة قد أعجبت الأوروجواي كثيرًا لأنها فازت بالكأس للمرة الثانية.
لكن حدث لغز لم يعرف له حل حتى الآن،  فقد كانت مصر هي الدولة العربية والإفريقية الوحيدة التي تمت دعوتها للمشاركة، ورغم بعد المسافة فقد خرجت من ميناء الإسكندرية سفينة تحمل الفريق وبقية أعضاء البعثة، وكان من المقرر أن تستغرق الرحلة 16 يومًا، لكن السفينة لم تصل إلى شواطئ الأوروجواي إلا بعد انتهاء الدورة بشهر كامل، فماذا حدث للسفينة خلال هذا الشهر؟ هل تعرضت لعواصف عاتية؟ هل قذفت بها الأمواج إلى دولة أخرى؟ كل هذه التفاصيل ظلت غامضة، ولابد أن هناك لجنة تحقيق قد قامت بذلك لكن لم يتم الإعلان عن نتائجها، وظل اللغز المصري قائمًا، لكن المهم أنه أصبحت هناك بطولة لكأس العالم.
خفت نجم الأوروجواي فجأة وظهرت قوى كروية جديدة، من أوربا ظهرت إيطاليا التي فازت بالكأس الثالثة، ومن أمريكا الجنوبية ظهرت البرازيل، وتعد إيطاليا أطول دولة احتفظت بكأس العالم، فقد اشتعلت الحرب العالمية الثانية والكأس في حوزتها، وخوفًا من أن تستولى عليه قوات ألمانيا النازية قام رئيس اتحاد الكرة الإيطالي بوضع الكأس داخل صندوق أحذية وخبأه تحت السرير وظل الكأس في هذا المخبأ لمدة 16 عامًا حتى انتهت الحرب وعاد النشاط الرياضي بداية الخمسينيات. 

الجوهرة بيليه ومنتخب البرازيل
أما منتخب السامبا، البرازيل، فلم تشهد البشرية نظيرًا له، والفضل في ذلك يعود إلى ظهور اللاعب «بيليه»، الملك الحافي، أعظم لاعب عرفته كرة القدم، فقد جاء من أفقر مناطق ريو دي جانيرو، وقضى طفولته حافيًا يلعب الكرة بجورب محشو بورق الجرائد، وعندما تم اكتشافه أدرك الجميع أنهم عثروا على جوهرة لا تتكرر، فقد قاد ناديه سانتوس إلى انتصارات متواصلة، وقاد منتخب البرازيل وسجل في مباريات كأس العالم 70 هدفًا، كانت سببًا في الفوز بالكأس ثلاث دورات، وحسب قانون الكأس فإن الفريق الذي يفوز بالكأس ثلاث مرات يكون من حقه الاحتفاظ به إلى الأبد، وهكذا عادت البرازيل من المكسيك عام 1970 وهي تحمل كأس جولي ريمي حتى تضعه في خزائنها، لكن ما لبث الكأس أن اختفى، فقد استطاع اللصوص سرقته دون أن يتركوا أثرًا، ورغم البحث الدائم ورصد جوائز ضخمة لم يظهر، وفقد العالم أول كأس لكرة القدم، وكلفت الفيفا فنانًا إيطاليًا بتصميم كأس آخر هو «كأس الفيفا» الذي ما زال موجودًا حتى الآن. 
وبعد مقاطعة استمرت عشرين عامًا انضمت إنجلترا للكأس أخيرًا، ولأنها هي التي اخترعت كرة القدم بصورتها الحديثة فقد طلبت نوعًا من المعاملة الخاصة، ولم ترض أن تدخل المسابقة بمقعد واحد مثل بقية الدول، ونجحت بعد مفاوضات طويلة في الظفر بثلاثة مقاعد دفعة واحدة، وإضافة منتخبي ويلز وأسكتلندا بشكل مستقل، وهكذا استطاعت الاشتراك بثلاثة فرق، ليس هذا فقط بل نجحت في تنظيم الكأس عام 1966، وهي  أشهر الدورات، فقد سرق كأس العالم لمدة أسبوع قبل المباراة الأولى، ثم عثر عليه ملفوفًا في ورق الجرائد وملقى بجوار سور إحدى الحدائق، وقد اكتشفه أحد الكلاب الذي أصبح مشهورًا، وحدث الأغرب في المباراة النهائية بين إنجلترا البلد المضيف وألمانيا الغربية، وقد فازت بها إنجلترا بهدف قاتل في الوقت الإضافي، وحصلت على الكأس الأول والأخير لها حتى الآن، ومع التقدم التكنولوجي والقدرة على تحليل الصور تبين أن هدف الفوز غير صحيح فالكرة لم تدخل المرمى بكامل استدارتها، وتأكد أن الفوز كان مزيفًا، ورغم ذلك لم يتغير شيء في الواقع، لكن هذا الهدف كان أشبه باللعنة التي حلت على منتخب إنجلترا، فلم يفز في أي مسابقة دولية بعد ذلك، ولم ينضم إلى خزائنه أي كأس عالم.

صبر جميل وجزاء أجمل
لقد تحملت قطر الكثير حتى تقدم تلك النسخة المبهرة من كأس العالم 2022، وقد أنفقت المليارات على بناء الملاعب المطلوبة وجدّدت بنيتها الأساسية، ومدّت خطوط المترو وأنشأت مناطق جديدة وأحضرت فنادق عائمة، باختصار حققت قطر كل ما كانت «الفيفا» تحلم به، وما لم يتحقق في أي دورة سابقة، كما أعلنت استعدادها لاستقبال أي متفرج من أي جنسية، لكنها في المقابل لم تتنازل عمّا يخص قيمها ومعتقداتها، فقد رفضت أن تنتشر الخمور في مدرجات الملاعب، ورفضت رفع شعارات المثليين وأعلام قوس قزح سواء على أذرع اللاعبين أو في أيدي الجمهور، كما حظرت كل مظاهر العري والانحلال، وبقدر ما كانت منفتحة أمام كل الثقافات المختلفة فقد كانت صارمة أمام كل ما يمس تقاليدها ودينها، وتحملت كل حملات التشكيك والرفض التي شنتها بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية، حيث أغمضت هذه الوسائل عيونها عن الجهد الذي بذل على الأرض على مدى 12 عامًا، وأخذت تردد المقولات العنصرية القديمة. 
لقد صبرت الدوحة صبرًا جميلًا حتى انتهت الدورة وفوجئ العالم بالنجاح المدوي الذي حققته على مستوى التنظيم والإدارة وكذلك الصورة المبهرة التي ظهرت بها ملاعبها ومدنها على شاشات العالم، وعلى الفور تغيرت اللغة نفسها، فلم تجد بدًا من الإشادة بما حدث خلال الشهر الذي مر على الجميع كأنه حلم، وركزت العديد من هذه الوسائل ليس على جودة المباريات وحدة المنافسة فحسب بل ركزت على أن  الدورة حققت حلم واحد من أشهر اللاعبين المحبوبين هو «ليونيل ميسي» الذي رفع الكأس للمرة الأولى قبل أن يداهمه الزمن، فهذا اللاعب الذي تغلب على فقر أسرته وتأخر نموه وتعرضه للتنمّر تحوّل ليصبح أسطورة كروية لبلده الأرجنتين وللعالم كله. 

الجماهير والمنتخبات العربية
أما التطور الأهم من وجهة نظري الخاصة، فهو انعكاس هذه الدورة على المنتخبات العربية المشاركة، لقد شعرت تلك الفرق بأنها تلعب على أرضها وبين جمهورها، وتحولت الجماهير العربية إلى كتلة واحدة خلف كل فريق من الرباعية العربية،  وزينت المدرجات بأعلام الدول الأربعة: قطر والسعودية وتونس والمغرب، إضافة إلى علم فلسطين في شهادة ساطعة أمام العالم على أن قضيتها لا تموت، وقدمت المنتخبات الأربعة وبخاصة المغرب أفضل مستوياتها، فالسعودية استطاعت أن تهزم الأرجنتين في مباراتها الأولى لكنها لم تستطع المواصلة وخرجت من الدور الأول، رغم أنها كانت قد تخطت هذا الدور في دورات سابقة، واستطاعت تونس التغلب على منتخب فرنسا بطل العالم، لكنها كانت مجرد مباراة شرفية لأنها ودعت بها البطولة، أما المغرب فقد استمرت، وتحول فريقها الذهبي ليكون أمل العرب، واجتاز أسود الأطلسي مستويات البطولة وتغلبوا على فرق عريقة مثل إسبانيا وبلجيكا، وهي من الفرق المرشحة، وواصل المنتخب المغربي تقدمه حتى وصل إلى المربع الذهبي لأول مرة ليحتل المركز الرابع،  ولولا الإجهاد وكثرة الإصابات لوصلوا أبعد من ذلك، ولم يكتفوا باللعب الجيد ولكنهم قدموا صورًا جميلة للسلوك حين حرصوا على السجود شكرًا لله، واستدعوا أمهاتهم إلى أرض الملعب لشكرهن وتقديم لفتة إنسانية جميلة عن الأسرة العربية.
قدمت قطر بطولة استثنائية في وقت استثنائي وسيكون من الصعب على الدول التي تليها أن تصل إلى هذا المستوى، لكن بقي أن تكون هذه بداية لانطلاقة مهمة لكل الرياضة العربية، وأن تتيح هذه المنشآت لقطر أن تصبح عاصمة للرياضة تلجأ إليها الأجيال الجديدة من الشباب في كل الألعاب، وأن تستثمر الشهرة العالمية التي اكتسبتها في العديد من المسابقات ■