النوستالجيا... حنين وألم

فكرت كثيرًا في موضوع شغلني منذ مدة وهو حالة الشعور بالحنين التي تداهم من تجاوزت أعمارهم الخمسين، وربما قبل ذلك، تجاه الأماكن التي عاشوا فيها وكل شيء يذكرهم بالماضي مثل الصور والأغاني والأفلام والمطاعم والشوارع، هذا الوضع يزداد تأججًا مع تقدم العمر وتناقص الأهل والرفاق وحتى الشخصيات التي نعاصرها ثم ترحل عنا فجأة، في هذا الزمن الذي أصبح استرجاع مواد الماضي في غاية السهولة بفضل الهواتف الذكية زادت مشاعر الحنين وتفجرت كالبركان بلا توقف.

 

إنها مشاعر إنسانية متناقضة، سعادة وألم، هذا ما تثيره فينا مشاعر الحنين إلى الماضي، السعادة لأننا نستعيد ذكريات جميلة، رائقة ومصفاة من أي مشاعر للإحباط والألم، لأنها قادمة من ماض ذهب وراح ومن المستحيل استرجاعه، استعادة الماضي أو النوستالجيا كما يطلق عليها مشكلة بشرية محضة، فالإنسان لا يستطيع أن يتخلص من ماضيه، لأن المستقبل قائم فوق ركامه، وهناك دائمًا خوف من الحاضر، والأيام القادمة بكل ما تحمل من مجهول، وهو مصطلح يوناني لأصل يختلط فيه الألم مع الشعور بالسعادة الوقتية، ولكن ما سر هذا الشعور، وما الذي يدفعه فجأة إلى سطح الذاكرة؟
يحدث أحيانًا عندما تزور بيتك القديم، المكان الذي شاهد نشأتك وطفولتك، الوقت الذهبي الذي لم تكن تحمل فيه أي مسؤولية، أو تعاني من مشاكل ضاغطة، ويحدث أيضًا عندما نتصفح الصور القديمة، حيث تبعث هذه الصور الباهتة نوعًا من الدفء للنفس في مواجهة ببرودة الحاضر، تقوم الذاكرة هنا بما يشبه «الفلتر» أو المرشح حيث يتم احتجاز كل الذكريات الضارة، ولا تبقي فقط إلا على الذكريات الدافئة والإيجابية.
في داخل كل منا العديد من الذكريات، خاصة إذا كان حبًا قديمًا لا تريد أن تنساه، ولا تبوح به للآخرين، فإنه يبقى بداخلك كصندوق أسود مغلق، مفتاحه ليس في يدك، ولكنه مخبأ في طبقات داخلية من اللاوعي، هناك من يستطيع أن يسيطر على هذه الذكرى وأن يعود نفسه على البدء من جديد، وهناك من تسيطر هذه الذكرى على داخله، وتجعله يعيش فيها رغم أنها لم تعد لها وجود. 
 
الحنين إلى «إيثاكا»
الحنين ليس إلى الماضي فقط، ولا للمشاعر المجردة، ولكن إلى أشياء صلبة وموجودة، ولكن لا يمكن الوصول إليها، الحنين الى الوطن هو أقدم هذه المشاعر وأكثرها قوة، الاشتياق إلى مسقط الرأس كما يطلقون على الأرض التي شهدت صرخة ولادتنا الأولى، ولكن مصطلح الحنين يعود أساسًا إلى الأساطير الإغريقية القديمة، إلى البطل أوديسيوس، أو عوليس كما نطلق عليه بالعربية، لقد كان واحدًا من المحاربين الذين شاركوا في حصار مدينة طروادة في حرب طويلة، وكان أوليس صاحب فكرة الحصان الخشبي الذي اختبأ في بطنه الجنود حتى دخلوا مدينة طروادة واستولوا عليها وذبحوا أهلها، لذلك حلت عليه لعنة عرافة المدينة بأن يتيه في البحر بلا مستقر، وقد كان عندما حاول العودة إلى بلدته «إيثاكا»، ضاع في البحر المتوسط، بين أمواجه وجزره لمدة عشر سنوات كاملة، يدخل مغامرات إثر أخرى ويقابل وحوشًا أسطورية وحوريات قاتلات، ولكنه يتغلب على كل ذلك بدافع من حنينه الذي لا يهدأ من أجل الوصول إلى إيثاكا، هذا الحنين للوطن قد توسع في النهاية ليشمل كل ما يفتقد إليه الإنسان.
في حضارة أخرى لم يؤمن قدماء المصريين بأن هناك حياة واحدة نعيشها، وأن لدينا جسدًا واحدًا قابلًا للفناء، لكن كان لديهم هوس بالخلود، لذلك اخترعوا الأساطير التي تتكلم عن العالم الآخر والحياة بعد الموت، واهتموا كثيرًا بالتحنيط حتى لا يفنى الجسد ويبقى الإنسان على هيئته التي كان يعيش بها قبل الموت، كان هناك شعور متأصل ليس في إطالة العمر فقط ولكن في عيش حياتين مختلفتين، ففي القبر المغلق لا يجد الميت بعد عودته للحياة مناصًا من العيش في دوامة لا تنتهي من الحنين، إنه يتذكر كل حيواته السابقة بكل ما فيها من أفراح وأتراح، ولكن الذكرى فقط كانت هنا هي الحياة البديلة.
الحنين يمحو الذكريات السيئة ويضخم الذكريات الطيبة. وهو يقوم بفعله هذا ونحن على قيد الحياة،  فمن خلال الأفلام، خاصة الأبيض والأسود منها، ومن الموسيقى وسماع الأغاني القديمة تنتقل بخيالنا إلى عالم آخر، لم نعشه ولكننا حفظنا تفاصيله من خلال هذه الصور القديمة، السينما هي مصنع الأحلام، وهي  تعيد تجسيد الأزمنة القديمة وتبعث فيها الحياة، وبشكل أو بآخر تربط الأفلام بكل المراحل العمرية التي نمر بها، فلا أحد ينسى أول فيلم شاهده، والذي يصبح بعد ذلك هو فيلمه المفضل على الرغم من سذاجة قيمته الفنية، وقد بنت السينما شهرتها على الذكريات، وعلى تجسد مشاعر العواطف التي نمر بها وتضيف إليها أبعادًا أخرى، العديد من مخرجي السينما حاولوا مشاركتنا مشاعر الحنين التي فاضت لديهم، فهي لم تعد مشاعر داخلية تخص أصحابها ولكنهم استطاعوا أن يحولوها إلى صور مرئية.

الفيلم الروسي «نوستالجيا»
لعل أشهر الأفلام التي حملت الاسم نفسه هو فيلم نوستالجيا للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي الذي يطلق عليه شاعر السينما، وهو إنتاج روسي - إيطالي مشترك، عن مخرج روسي يرحل إلى إيطاليا بحثًا عن موسيقار مات مغمورًا هناك، وتتداخل الأحداث المعاصرة مع وقائع الماضي التي تتكشف مع مواصلة البحث، ولا يستطيع التفريق بين ما يحدث له في واقع البحث وما يحمله داخله من ذكريات، المهم أن هذا الفيلم حصل على العديد من الجوائز، ويعد واحدًا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، ومن إيطاليا يقدم لنا المخرج الإيطالي تارتيللي تجربة من طفولته عندما ارتبط بدار العرض الصغيرة في قريته، ومن خلال النافذة الصغيرة لآلة العرض استطاع أن يشاهد عشرات الأفلام التي لونت طفولته وجعلت منه مخرجًا شهيرًا، ولا ننسى تجارب المخرج الكبير فلليني، وعلى المستوى العربي هناك العديد من أفلام الحنين، منها فيلم «إسكندرية ليه»، الذي يستعرض فيه مخرجه يوسف شاهين جانبًا من شبابه المبكر، حين كان يحلم بالسفر إلى هوليوود ليتعلم إخراج الأفلام، وعلى نفس المنوال صنع أسامة فوزي فيلم «بحب السيما» ليتحدث عن الأفلام التي شكلت وجدانه ودفعته لعشق السينما، أفلام كثيرة يروي فيها صناع السينما تجاربهم الذاتية وكلها حققت نجاحًا كبيرًا لأنها مست وترًا حساسًا في نفوس المشاهدين، فالحنين للماضي هو لغة مشتركة بين العديد من الناس.

بحثًا عن الزمن الضائع
في الأدب العالمي تبدو ظاهرة النوستالجيا أكثر وضوحًا،  ففي العادة  يعتمد الكاتب على تجربته الذاتية خاصة في أعماله المبكرة قبل أن يصبح محترفًا ويمتلك القدرة على الاستفادة من تجارب الآخرين، والتجربة مركبة يختلط فيها الماضي بالحاضر، ولعل أشهر نموذج لذلك هو الرواية الأشهر «بحثًا عن الزمن الضائع» للأديب الفرنسي مارسيل بروست، وهو ملحمة طويلة يستحضر الكاتب فيها كل ذكريات طفولته ويربطها بالإشارات الموجودة في الحاضر، فكل تصرف يقوم به، أو مشاعر يحس بها، يعود في جزء منه إلى أحداث الطفولة، إنها رواية الحنين الأولى بحثًا عن زمن الطفولة الذي يهمله الآخرون رغم أنه هو الذي يبني شخصية الإنسان في المستقبل.
في الأدب العربي هناك العديد من الأعمال لكن أشهرها رواية «الأيام» للدكتور طه حسين، فهو  يتذكر طفولته بإحدى القرى الفقيرة في صعيد مصر، ويستعيد بأسى وحزن كيف أن آخر لون يتذكره كان اللون الأحمر، فقد أصيب وهو صغير بحمى «الحصبة»، وألبسه أهله ثوبًا أحمر اللون، اعتقادًا منهم بأن هذا اللون سيجعله يبرؤ من هذا  المرض، لكن  المضاعفات تحدث وأرخى الظلام أسداله على عينيه، رواية حزينة ولكن هذه الإعاقة لم توقفه، ودفعه التحدي لأن يكون عميدًا للأدب العربي. 
على عكس المتوقع، فإن الدراسات الحديثة تؤكد أن الحنين ليس مجرد استغراق في الماضي، وقد كشف التشخيص بواسطة أجهزة المسح الدماغي، أن هناك جزءًا في المخ يختص بهذه الذكريات،  لذلك فإنها يمكن أن تكون مصدرًا للإلهام وبث مشاعر لراحة في النفس البشرية، ويمكن أن تساعد الذين يعانون من لحظات عصيبة في حياتهم المهنية على اجتياز هذه اللحظات، بل تحفيزهم على تأدية أعمالهم بشكل أفضل عندما يتخلصون من ضغوط الحياة الحديثة، فيمكن للفرد من العودة إلى فترة يختارها عن قصد، كـمشاهدة فيلم قديم أو رؤية مسرحية، أو قراءة كتاب قديم.
أما بالنسبة لكبار السن، فغالبًا ما تؤدي استعادة الماضي إلى الشعور بمشاعر إيجابية، لأنها تذكر الفرد بمكامن قوته القديمة وتمحو عنه وهن الشيخوخة. يقول الدكتور «كلاي روتلدج» عالم النفس الاجتماعي في جامعة ولاية نورث داكوتا: إن الحنين إلى الماضي أو النوستالجيا، يمكن أن يعزز من المزاج، والتفكير الإيجابي، واحترام الذات، ومشاعر الترابط الاجتماعي، والتفاؤل بشأن المستقبل.

آلية دفاع تحد من الاكتئاب
النوستالجيا هي إذًا، كما يعرفها علماء النفس، آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، وهي تكسر حالة الشعور بالملل أو الوقوع في أسر الوحدة خاصة عند شعور الإنسان بأنّ حياته فقدت قيمتها، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي واللحظات السعيدة والدافئة، الأمر الذي يساعده على الاستمرار في حياته، فالنوستالجيا هي إحدى السبل الناجحة التي تحد من الاكتئاب ولو بشكل مؤقت، وهناك علاقة وثيقة بين انخفاض الثقة بالنفس والشعور بالوحدة، فالأشخاص الذين ينخفض لديهم مستوى الثقة بالنفس يُعانون أكثر من  الوحدة، وقد يُخفف وطأة هذا الأمر أنّ الشعور بالوحدة يدفع المرء إلى العودة إلى اللحظات السعيدة في الماضي، وهذا بدوره يسهم في تعزيز الثقة الاجتماعية لدى الشخص ويولد نوعًا من المشاعر الأفضل.
«النوستالجيا» إذن ليست تأسيًا على الماضي، بل يمكن أن تكون دافعًا لاستمرار الحياة ومواجهة المستقبل ■