معـــاذة وخـروف العـيد

معـــاذة  وخـروف العـيد

ماذا سيحكي الجدّ هذه المرة؟
 فكّر الجدّ قليلًا ثم قال لأحفاده: بما أننا الآن في عيد الأضحى ننتظر ما تصنعه لنا الجدّة بلحم أضحية خروفنا الطيّب على الغداء، فسوف أحكي لكم حكاية معاذة العنبرية وخروف العيد الذي لم يُترك منه شيء.. أصغى الأحفاد للجدّ وقد بدأ الحكي:

 هذه قصة تاريخية -أقرب للنادرة - أوردها الجاحظ في كتابه البخلاء، قائلًا: إن ثمّة امرأة فقيرة تُدعى «معاذة العنبرية»، وبعد أن مات زوجها، فاقت الجميع في البخل، وذات يوم أهداها ابن عم لها خروفًا لأضحية العيد؛ فحزمت أمرها بألا تترك جزءًا فيه دون الاستفادة منه، قائلة: أما اللحم فما أيسر أمره، فقد جعلته قـديدًا - تجفيف اللحم لحفظه - وأما القـرن، فقد جعلته كالخطاف أعلق عليه إناء الماء وكل ما أخاف عليه من الفأر والحشرات، وأما المصران، فأستخدمه أوتارًا للمـنـدفـة - آلةُ ندف الصوف - وأما عظام الرأس والفكّين، فأطبخها، فما علا من دسم كان للمصباح والعصيدة*، ثم تُؤخذ العظام فتُجفّف ويوقد بها، فلا يرى الناس وقودًا أصفى ولا أحسن لهبًا منه، وهي أسرع لتسخين القدر - إناء الطعام - لِقلّة ما يخالطها من الدخان. وأما ما في داخل الأمعاء من مخـلّـفات، فيُجفّف أيضًا ليكون حطبًا. وأما الجلد، فأصنع منه وسائد، والصوف نستدفئ به في ليالي الشتاء.
 ثم بعد ستة أشهر سألها أحد جيرانها ممّن يعرف عِظَم بخلها: كيف حال قدورك يا معاذة - ويقصد هل طهت لحم الخروف فيها، فأجابت مبتسمة: لم يحن بعد وقت الطبخ، وما زلنا نأكل في الشحم، والعظم، وسيأتي أوان الطبخ قريبًا لا محالة.
 وبعد أن أنهى الجدّ حكايته جال بنظره بين أحفاده سائلًا: هل أصاب الجاحظ حين وصف معاذة بالبخل؟
تبادل الأحفاد النظرات، ثم بادرت ديمة بالإجابة: 
بما أن التدبير - وفق ما تعلّمته من المدرسة - هو القدرة والاستفادة من جميع الموارد؛ فإنني أرى أن الجاحظ قد ظلم السيدة معاذة حين وصفها بالبخل، وكان الأجدر به أن يصفها بالمدبّرة البارعة. 
أما آسر فقال: السيدة معاذة لا تستحق منّا إلا الثناء والتقدير؛ لأنها لم ترمِ بقايا الخروف ومخلّفاته حتى لا تلوّث بها البيئة، أو يتأذّى منها أحد، بل على العكس أعادت استخدامها فيما نطلق عليه اليوم إعادة التدوير. 
أما سامر فقال: لو أن الجاحظ يعيش بيننا الآن، ورأى كيف نستخدم قرون الحيوانات في أعمال الزينة، وجلدها في صناعة أفخر الحقائب والملابس الشتوية، لَقال عنّا أيضًا بخلاء.
وتعقيبًا على ما قاله سامر ابتسم الجد مضيفًا: أعتقد أن الجاحظ لو رأى جدّتكم وهي تصنع لكم على مدار العام الفائت من أمعاء خروف العيد بعد تنظيفها ألذّ الأكلات، ومن عظامه حساءً يكسبكم الدف في الشتاء، ويقوّي عظامكم ومناعتكم، لقال عنها كما قال عن معاذة. 
 وعلى إثر ذلك ضحك الجدّ والأحفاد، وبعد أن نادت الجدّة معلنة الانتهاء من إعداد الغداء؛ اقترب الجدّ من أحفاده، وهمس مداعبًا: أرجو أن تكتموا رأي الجاحظ في معاذة عن جدّتكم؛ حتى لا تغضب من الجاحظ دفاعًا عن معاذة ونفسها.

 

* دقيق يُطبَخ بلبَن حليب أو دَسَم.