النورس الخامل

النورس الخامل

في‭ ‬بكرة‭ ‬الصباح‭ ‬حط‭ ‬سرب‭ ‬من‭ ‬الحمَام‭ ‬على‭ ‬الحديقة‭. ‬كانت‭ ‬حينئذ‭ ‬شبه‭ ‬خالية‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬بستاني‭ ‬منشغل‭ ‬بسقي‭ ‬الأعشاب‭ ‬والأغراس‭, ‬وشاب‭ ‬يركض‭ ‬في‭ ‬الممر‭ ‬كعدّاء‭ ‬محترف‭, ‬وكهل‭ ‬بدين‭ ‬تارةً‭ ‬يمشي‭ ‬مهرولاً‭, ‬وتارةً‭ ‬يتوقف‭ ‬ليقوم‭ ‬بحركات‭ ‬رياضية‭ ‬خفيفة‭. ‬

انهمك‭ ‬الحمَام‭ ‬في‭ ‬التنقيب‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬لعله‭ ‬يجد‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬بذور‭ ‬أخطأتها‭ ‬المناقير‭, ‬وبينما‭ ‬هو‭ ‬كذلك‭ ‬أقبل‭ ‬نورس‭ ‬يتهادى‭ ‬في‭ ‬مشيته‭ ‬متثاقلاً‭, ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬سأل‭ ‬بنبرة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬عجرفة‭:‬

‭- ‬ألم‭ ‬يحضر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬العجوز‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يلقي‭ ‬لنا‭ ‬حفنات‭ ‬من‭ ‬أصناف‭ ‬الحبوب‭ ‬كل‭ ‬يوم‭?‬

غمغم‭ ‬ذكر‭ ‬من‭ ‬الحمام‭:‬

‭- ‬وكنت‭ ‬تزاحمنا‭, ‬وتستأثر‭ ‬لنفسك‭ ‬بحصة‭ ‬الأسد‭.‬

ثم‭ ‬تدخلت‭ ‬حمامة‭ ‬صغيرة‭ ‬للرد‭ ‬عليه‭ ‬بمنتهى‭ ‬الأدب‭:‬

‭- ‬لم‭ ‬نره‭ ‬منذ‭ ‬أمس‭ ‬أيها‭ ‬النورس‭, ‬انظر‭, ‬فمكانه‭ ‬المعتاد‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬المقعد‭ ‬الخشبي‭ ‬شاغر‭, ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المانع‭ ‬خيرًا‭.‬

انتفض‭ ‬النورس‭ ‬انتفاضة‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭:‬

‭- ‬لِم‭ ‬لَم‭ ‬يأت‭? ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬حالاً‭ ‬ليطعمني‭; ‬لقد‭ ‬أضرّ‭ ‬بي‭ ‬الجوع‭; ‬حتى‭ ‬مكبّات‭ ‬النفايات‭ ‬المكشوفة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أقتات‭ ‬من‭ ‬فضلاتها‭ ‬عوّضت‭ ‬بأخرى‭ ‬مسدودة‭; ‬بل‭ ‬مدفونة‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭, ‬هل‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬أهلك‭ ‬جوعًا‭?‬

اقترب‭ ‬منه‭ ‬قائد‭ ‬سرب‭ ‬الحمام‭, ‬ثم‭ ‬كلّمه‭ ‬بهدوء‭: ‬

‭- ‬سبحان‭ ‬الله‭! ‬تتحدث‭ ‬عنه‭ ‬وكأنه‭ ‬ملزم‭ ‬بإطعامك‭; ‬إنه‭ ‬عجوز‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬مظاهر‭ ‬الثراء‭, ‬لكنه‭ ‬محسن‭ ‬كريم‭ ‬رحيم‭ ‬أودع‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬الرفق‭ ‬بالطيور‭, ‬فربما‭ ‬أصابه‭ ‬مرض‭ ‬أقعده‭ ‬عن‭ ‬المجيء‭, ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬نسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يرد‭ ‬إليه‭ ‬عافيته‭, ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬المال‭ ‬اللازم‭ ‬لشراء‭ ‬الحبوب‭, ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬نسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يغنيه‭, ‬وربما‭ ‬توفاه‭ ‬الله‭, ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ندعو‭ ‬له‭ ‬بالرحمة‭ ‬والمغفرة‭.‬

سرت‭ ‬بين‭ ‬الحمام‭ ‬أصوات‭, ‬وأذِن‭ ‬القائد‭ ‬للسرب‭ ‬بالاستعداد‭ ‬للرحيل‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬الأقوات‭ ‬فيه‭ ‬موفورة‭.‬

صاح‭ ‬النورس‭:‬

‭- ‬وأنا‭?‬

أجابه‭ ‬قائد‭ ‬السرب‭:‬

‭- ‬حقًا‭ ‬أنت‭ ‬مثلنا‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬الطير‭, ‬لكنك‭ ‬من‭ ‬فصيلة‭ ‬مختلفة‭, ‬وأنت‭ ‬الآن‭ ‬دخيل‭, ‬في‭ ‬غير‭ ‬سربك‭, ‬هل‭ ‬نسيت‭ ‬بأنك‭ ‬طائر‭ ‬بحري‭? ‬افعل‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬أمثالك‭ ‬من‭ ‬النوارس‭; ‬فقد‭ ‬وهبك‭ ‬الله‭ ‬جناحين‭ ‬واسعين‭ ‬متينين‭, ‬طِرَّ‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭ ‬وفتش‭ ‬عن‭ ‬قوتك‭, ‬أو‭ ‬حلّق‭ ‬فوق‭ ‬البحر‭, ‬وحين‭ ‬ترمق‭ ‬سمكة‭ ‬اخترق‭ ‬سطح‭ ‬الماء‭ ‬واصطدها‭, ‬أو‭ ‬لاحق‭ ‬قوارب‭ ‬الصيد‭... ‬المهم‭ ‬ألا‭ ‬تبقى‭ ‬مكتوف‭ ‬الجناحين‭ ‬تنتظر‭ ‬مَن‭ ‬يضع‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬منقارك‭ ‬السميك‭.‬

لم‭ ‬يرد‭ ‬النورس‭; ‬فقد‭ ‬ألِف‭ ‬الخمول‭, ‬واعتاد‭ ‬الاتكال‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬يحضر‭ ‬له‭ ‬الجاهز‭ ‬من‭ ‬المأكل‭, ‬واستطاب‭ ‬الراحة‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يصاب‭ ‬بالعجز‭. ‬

فجأة‭ ‬اضطرب‭ ‬الحمام‭ ‬وتقافز‭, ‬وصاحت‭ ‬حمامة‭ ‬محذرة‭:‬

‭- ‬الكلب‭ ‬المندفع‭ ‬قادم‭.‬

خفق‭ ‬الحمام‭ ‬وحلّق‭ ‬بعيدًا‭ ‬ليبحث‭ ‬عن‭ ‬قوته‭; ‬أما‭ ‬النورس‭ ‬فاثاقل‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬وتلكأ‭, ‬وبقي‭ ‬مترددًا‭, ‬لكنه‭ ‬لما‭ ‬رأى‭ ‬الكلب‭ ‬المندفع‭ ‬يقترب‭ ‬لاهثًا‭, ‬ويجرّ‭ ‬صاحبه‭ ‬جرًا‭, ‬حرّك‭ ‬جناحيه‭, ‬وطار‭ ‬صوب‭ ‬البحر‭, ‬وانضم‭ ‬إلى‭ ‬سرب‭ ‬من‭ ‬النوارس‭ ‬كان‭ ‬يزقو‭ ‬ويحوم‭.‬