إضراب هوليوود وصدمة المستقبل
إضراب نادر، هذا هو ما اتفق عليه الكثيرون وهم يصفون الإضراب الطويل الذي شهدته هوليوود عاصمة السينما والترفيه في عالمنا المعاصر، فقد بدا أن العاملين في هذه الصناعة التي تُدر الملايين الوفيرة ليسوا ببعيدين عن الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها العالم، ورغم الوسائل التكنولوجية المتقدمة التي تستخدمها صناعة السينما فإنها تحمل في داخلها مخاوف من المستقبل عندما تطغى هذه التكنولوجيا على الإبداع البشري.
هذا هو الإضراب الثاني الذي شهدته هوليوود طوال تاريخها، الأول كان في الستينيات من القرن الماضي منذ 43 عاماً، وحدث للأسباب الاقتصادية نفسها تقريبًا، في ذلك الوقت قام رونالد ريغن وهو ممثل سابق ورئيس نقابة الممثلين حينها، بتنظيم هذا الإضراب وأكسبه ذلك شعبية كبيرة استثمرها في طريق رحلته ليصبح رئيسًا للولايات المتحدة.
ورغم اختلاف الظروف وازدهار صناعة السينما الأمريكية وتفوقها على بقية الأفلام التي تنتجها الدول الأوربية والآسيوية، إلا أن هذا لم ينعكس على ظروف العاملين فيها، وكانت جائحة كورونا نقطة محورية في هذه الصناعة، فقد قلّ الإقبال على دور السينما، وأصبح الناس يخشون من الزحام والتقاط العدوى في الأماكن المغلقة، وأصبحت شبكات الإنترنت هي البديل الأمثل، فقد وجد الجمهور الحل في العديد من المنصات التي تعرض الأفلام والبرامج في مقابل اشتراكات مالية، وكان حلًا جيدًا للاستديوهات الضخمة ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة للكتّاب والممثلين خاصة الصغار منهم، فالعديد منهم لا يكسبون الملايين مثل النجوم الكبار، ولكن مصدر دخلهم الأساسي يعتمد على عرض الأعمال الفنية وإعادة عرضها على الشاشات، لأنهم يحصلون بذلك على نسبة مالية من إعادة هذه العروض، نسبة ضئيلة ولكنها دائمة ومتواترة، ولكن مع ظهور المنصات تغير النظام، فلم يعد هناك تحكم في معرفة إعادة العرض، واكتفت الشركات الكبرى بإعطائهم مبلغًا مقطوعًا لمرة واحدة مهما بلغت مرات العرض، كما ظهر عامل جديد أصبح يهدد المهن التي يشغلونها وهو التطور الرقمي في بناء شخصيات سينمائية لا تتقاضى أي أجر ولا تبرم العقود معها.
الترفيه... قوة ناعمة
تشغل صناعة الترفيه والأفلام جانبًا مهمًا في الاقتصاد العالمي، تبلغ قيمته ما يقارب 10 مليارات دولار قابلة للزيادة بسبب إقبال أعداد كبيرة من الناس عليها، واعتبارها جزءًا مهمًا من حياتهم، وبطبيعة الحال تستحوذ أمريكا على الجزء الأكبر من هذه الصناعة وتبلغ نسبتها الثلث، فقد رسخت هوليوود هذه الصناعة واعتبرتها جزءًا من قوتها الناعمة التي تبرز صورة حلم الأمريكي بأفضل طريقة ممكنة، فهي على الشاشة تبدو ملوّنة وجذابة أفضل بكثير من أمريكا الحقيقية التي تعاني الكثير من المشاكل والأمراض الداخلية كالعنف والعنصرية، وقد حذر الكاتب الأمريكي جورج فريدمان من أن مشاكل أخلاقية ودينية وثقافية تمزق الولايات المتحدة وقد تصل إلى حدوث تغيير في نظامها الفيدرالي.
الذكاء الاصطناعي... أكثر فأكثر
في شهر مايو 2023م بدأ كتاب السيناريو والبرامج التلفزيونية الإضراب عن العمل، وهو الثاني لهم بعد الإضراب الأول الذي استغرق حوالي 100 يوم في عام 2008م، وقد حققوا فيه بعض المكاسب، ولكنهم هذه المرة كانوا تحت تأثير أكثر من عامل، أولها العامل الاقتصادي حيث تقلّصت الأجور وارتفعت تكاليف المعيشة، وكما صرح أحد الكتّاب قائلًا إنه عاجز عن دفع قيمة التأمين الصحي الذي يبلغ 60 ألف دولار كل عام، رغم ارتفاع مستوى الأجور في هذا القطاع مقارنة بالدول الأخرى، ولكن تكلفة الحياة مرتفعة أيضًا، ولكن العامل الثاني وهو الأهم هو محاولة الاستديوهات الاعتماد على برامج الذكاء الصناعي أكثر وأكثر، الأمر الذي يهدد وجود أصحاب المهنة من الأساس، ويبدو أن الشركات الكبرى لم تبدِ أي اهتمام بهذا الإضراب كما يجب، رغم اختفاء البرامج الحوارية المسائية من القنوات التلفزيونية، فالمذيعون والمذيعات في معظمهم مجرد واجهات جميلة تظهر على الشاشة ولكنها لا تمتلك خلفية فكرية تمكنهم من تقديم أي برنامج دون حاجة لورق مكتوب، وهو الأمر نفسه بالنسبة للأفلام والمسلسلات التي لم تتم وتأجل إطلاقها بسبب الإضراب، ولكن الشركات الكبرى كانت ترى أنها أقوى من الكتاب، ولم تشأ التنازل إلا في حدود ضيقة، وأوشك الإضراب على الفشل دون أن يحقق شيئًا.
الإضراب يستعيد قوته
ما حدث بعد الإضراب بعد شهرين تقريبًا، كان أشبه بقبلة الحياة، فقد قرر شركاء الكتاب في الأعمال الفنية ونقابتهم «ساج -افترا» وهي النقابة التي تضم 160 ألفًا من الممثلين والمصورين وعمال الديكور والمكياج الدخول معهم في الإضراب، كانوا ينادون بالمطالب نفسها، وهي تقسيم منصف للأرباح، وتعويضات تتعلق بالبث التلفزيوني من خلال الإنترنت بالإضافة إلى ضمانات ترتبط بعدم استخدام الذكاء الاصطناعي للحلول محلهم في الأفلام.
وبهذا دخل الإضراب في مرحلة خطرة، فقد تأجلت بسبب ذلك عشرات الأفلام والمسلسلات التي كانت معدة للعرض في الخريف القادم، ووجه رئيس شركة «ديزني» بوب آيغر انتقادًا لمطالب الممثلين واصفًا إياها بأنها «غير واقعية»، وأغضب ذلك المتظاهرين وجعلهم أكثر تصميمًا، وقالت الممثلة شارون ريتشاردز: «هذا الرجل يقول إننا نطلب أشياء غير واقعية بينما يجدد أثاث منزله بتكلفة تبلغ خمسة ملايين دولار فيما هؤلاء الناس ليس لديهم حتى تأمين صحي... إنه أمر ينمّ عن عدم احترام ويثير الاشمئزاز».
ومن السابق لأوانه وضع أرقام دقيقة للخسائر الناتجة عن الإضراب، ولكن يمكن الاستدلال عليها من خسائر إضراب 2008م، وبالرغم أنه كان أقل في المدة الزمنية وفي حشد المضربين، فقد زادت الخسائر عن 2 مليار دولار، إضافة إلى نحو 240 مليون دولار من الإيرادات الضريبية المفقودة لولاية كاليفورنيا، وتعطل نحو 120 من العاملين في هذا المجال، وتراجعت إيرادات شباك التذاكر بحوالي مليار دولار، وفي ظل الأزمة المالية التي يعيشها العالم الآن فمن المؤكد أن الخسائر ستكون مضاعفة، وقد قدّرها البعض بحوالي 300 مليار دولار.
انفراج الأزمة مؤقتًا
وصلت أزمة الإضرابات إلى ذروتها بعد عدة أشهر، وكان عليها أن تبدأ بالانفراج بعد أن تضاعفت الخسائر، ومثلما كانت البداية هي إضراب الكتاب فقد بدأ الحل النهائي من عندهم، وأعلنت نقابة الكتّاب الأمريكيين في رسالة وجهتها لأعضائها أنها قد توصلت إلى حل شبه نهائي بينها وبين شركات الإنتاج، وأكدت «يمكننا القول بكل فخر أننا عقدنا صفقة استثنائية مع العديد من الامتيازات وحماية للكتاب في جميع القطاعات»، ولم يتم الكشف عن كافة تفاصيل تلك الصفقة ولكن أصبح معروفًا أنها ليست صفقة دائمة ومحددة المدة بثلاث سنوات فقط، وسيتم التصديق عليها من أعضاء النقابة حتى تصبح سارية المفعول، وعلى نفس المنوال وبعد أيام قلائل تم الإعلان عن التوصل لاتفاق ثان بين شركات الإنتاج ونقابة الممثلين «ساج – افترا» من أجل إنهاء الإضراب وكانت مدة العقد ثلاث سنوات أيضًا، ويتكلف مليار دولار ويتضمن عدة تفاصيل مذهلة على حد وصف البيان، فسوف يتم رفع الحد الأدنى للأجور بزيادة كبيرة، ووافقت شركات الإنتاج للمرة الأولى على نظام مكافآت خاصة عند إعادة عرض الأفلام وبقية الأعمال الفنية عبر منصات البث بواسطة الإنترنت، ولكن الأهم في ضمانات بعدم الإسراف في استخدام برامج الذكاء الصناعي في تنفيذ الأفلام والمسلسلات، لأن هذه الأدوات قد تطورت بسرعة مذهلة في السنوات الأخيرة على نحو لم يتوقعه الممثلون والكتّاب.
الخوف من صدمة المستقبل
في خضم أزمة وباء كورونا، عندما كانت الحركة محدودة، تم تقديم اقتراح لإحدى الاستديوهات حيث يتم تصوير مسلسل ضخم وهو أن يعمل الممثلون ليوم واحد فقط تؤخذ فيه حركات أجسادهم وتعبيرات وجوههم ومقاطع صوتية من طريقتهم في الكلام ثم إدخال كل هذا في برامج الذكاء الاصطناعي التي يمكّنها أن تنتج مشاهد عديدة بلانهاية تكفي لإنتاج أي فيلم أو مسلسل مهما بلغت مدته ولا يدفع في مقابلها للممثلين إلا أجر يوم واحد فقط!!!
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فتلك الصور والأشكال الرقمية المتولدة منها يمكن استخدامها في إنتاج أفلام مستقبلية جديدة دون الحاجة للاستعانة بممثلين جدد، ويمكن فعل الأمر نفسه بالنسبة للكتاب، فالعديد من النصوص المكتوبة أصبحت تتدخل فيها برمجيات الذكاء الاصطناعي بالتعديل دون الرجوع للكتاب إلا في حدود قليلة مثل تكييف النصوص ومراجعتها، وحتى الممثلون الذين يتم استخدام أصواتهم فقط كما يحدث في أفلام الكارتون لم يسلموا من تدخل هذه البرمجيات بعد أن أصبحت تجيد تقليد أصواتهم، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي كان يعاني منه كل الذين قاموا بالإضراب.
الذكاء الاصطناعي يعد واحدًا من أبرز التطورات التي حدثت مؤخرًا، وقد تدخل بسرعة إلى مختلف جوانب الحياة ومختلف الصناعات المدنية والعسكرية والطب والهندسة، ودخل بقوة أيضًا في حلبة الفنون وبالأخص في السينما، وقد ظهر تأثيره أولاً في مجال الإنتاج، وحقق نتائج مذهلة في رفع كفاءته وتقليل الكلفة وربح الوقت ودقة بلوغ الأهداف، وبدا واضحًا أنه سوف يغيّر من المفاهيم التقليدية فيزيائيًا ومعرفيًا مثل مفهوم الزمن والمكان في ارتباطهما العضوي، باعتبارهما أساس كل إدراك وتخييل، ففي مجال كتابة السيناريو وهو الأساس لأي فيلم يستغل البرنامج قدرته على تخزين البيانات وعلى مواصلة التعديلات حتى يصل إلى نص أصلي، ويمارس عمله في تقديم البدائل المناسبة لتقوية النص حتى يتوافق مع ذوق الجمهور من خلال الدراسات التي يخزنها، ومعرفته بالأفلام والمسلسلات التي حققت نجاحات سابقة.
ومن خلال معرفته بخفايا السيناريو يمكنه اختيار الممثلين المناسبين لكل دور في النص دون أي حاجة لتجارب الأداء المجهدة، كما أن له القدرة أيضًا على خلق ممثلين خياليين وإعادة خلق مشاهد طبيعية لا وجود لها في الواقع أو أن المعالم المعروفة لها قد اندثرت منذ سنوات، وكما يقول جيمس كاميرون مخرج فيلم تيتانك الشهير: «يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية للمخرجين في تحقيق رؤيتهم الإبداعية. فهو يفتح أمامنا أبوابًا جديدة للتعبير الفني وإيجاد تأثيرات بصرية لا تصدق».
الصوت البشري سوف يخفت
في الختام وبعد تحقيق هذا النصر الذي يبدو أنه جزئي، نطرح هذا السؤال: هل استطاع الفنانون الذين شاركوا في الإضراب أن يحموا أنفسهم من صدمة المستقبل؟، من هذا الغول القادم الذي سيفقدهم مكانتهم ويحوّلهم من نجوم إلى عناصر هامشية؟، إننا لا يمكن أن نتجاهل وجود مخاوف مرعبة من تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع البشري والتنوّع الفني.
لقد كانت شركات الإنتاج الفني ذكية فلم توقع مع المضربين اتفاقية طويلة الأمد، ولكنها حددتها بثلاث سنوات فقط لأنها تدرك أن هناك متغيرات تكنولوجية كبيرة قادمة سوف تحدث لا محالة، وأن الصوت البشري سوف يخفت بلا منازع ولن تكون هناك فائدة من أي إضراب لأن صوت الذكاء الاصطناعي سوف يعلو ليلتهم كل بقايا الفكر التقليدي ■