الكويت... بلاد العرب تبدأ عهدًا جديدًا

على حافة الشاطئ الصخري، فوق آخر نقطة من اليابسة توجد المنارة دائمًا، صامتة ولكنها مضاءة رغم حلكة الظلمة، في الصحو ووسط هدير العواصف، تقوم بدورها من أجل إرشاد السفن الضالة وإنقاذ الأرواح المكلومة، هذا هو الوصف الذي أطلق دومًا على الكويت، منارة الخليج، أطلقه الآخرون عليها قبل أن تصف نفسها به، فرغم البعد الجغرافي على حافة الخليج إلا أن إشعاعها الثقافي والإنساني قد امتد حتى الطرف الأقصى من عالمنا العربي عند حدود جبال الأطلس، وعلى الرغم من رقعة أرضها الضيقة إلا أن الأدوار الفعّالة التي قامت بها قد تخطت كل هذه الحدود وأصبح لها وجود مؤثر على المستوى السياسي والاقتصادي للعديد من الدول العربية وغير العربية.

 

فور إعلان استقلالها اتخذت شعار «الكويت... بلاد العرب»، وطبعت هذا الشعار على كل أوراقها الرسمية، وحملت أختام بريدها هذا الشعار إلى كل مكان، ونفذت ذلك فعليًا عندما فتحت حدودها أمام كل صاحب مهارة عملية أو فكرية، وأصبحت مدنها جامعة دول عربية شاملة على مستوى الواقع وليس الشعار فقط. فعلت الكويت ذلك بوازع من أصالتها الذاتية، ودون وعي بالمحنة التي تنتظرها والتي كانت مخبأة في طيات القدر، فعندما باغتها العدو الغادر بالغزو وحاول أن يمحوها من خريطة العالم وجدت العالم بأسره يقف بجانبها، فرصيدها السابق في فعل الخير والسعي للسلام هو الذي منحها التعاطف، وإرادة المجتمع الدولي هي التي ساعدتها على التحرير، وهكذا لم يغب ضوء المنارة طويلًا وعادت الشرعية لمكانتها الأولى بنظامها الديمقراطي الراسخ وبرلمانها المنتخب، وها هي اليوم تمارس تجربتها في الانتقال السلمي للسلطة، تجربة لا يعيشها ولا يمارسها الكثير من دول العالم، ولكن الكويت تعيشها باعتيادية كلما شاء القدر أن يتولى أميرها برحمته ويمهد الطريق لتولي أمير جديد، لذا تتغلب الكويت على أحزانها بفقدان الأمير الراحل وتستعد بأمل في المستقبل لتولي أميرها الجديد سمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح.
بعد أدائه القسم الدستوري أمام مجلس الأمة، وفي خطابه الأول الذي يسمى «النطق السامي» لم يستطع سمو أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد أن يخفي أحزانه، رغم الطابع الاحتفالي للمناسبة، فيقول سموه: «ألتقي بكم وفي العين دمعة وفي القلب غصة وحسرة وفي النفس لوعة وحرقة، ألتقي بكم والكلمات تضيق وتعجز عن التعبير عما يختلج في خاطري وفي نفسي شخصيًا من مشاعر الحزن والأسى على فراق أخي ورفيق عمري ودربي المغفور له - بإذن الله - سمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح - طيّب الله ثراه - وجعل الجنة ودار الخلد مثواه، ألتقي بكم لأستذكر بكل معاني الفخر والاعتزاز ما قدمه فقيد الوطن لشعبه الكريم من إنجازات متميزة لصالح الوطن والمواطنين، وما سجله خلال حياته من دور أبوي وإنساني بارز ومشرف شهد له الجميع، حيث أعطى بلا حدود عطاء من غير منّة وترك لنا سيرة عطرة ومناقب رفيعة جميلة فريدة في الوصف والعدد، وتفرد في تواضع شامخ فكان بحق شيخ التواضع والمتواضعين، ما جعل التواضع يعزي بعضه بعضًا بفقده ورحيله، ولقد كان له منا السمع والطاعة ولم نخالف سموه قط في القرارات والتعليمات التي أمر بها».
    
سيرة ومسيرة
سمو الشيخ مشعل الأحمد هو الأمير السابع عشر من آل الصباح، والأمير السابع منذ إعلان استقلال الكويت، وذلك وفق قانون توارث الإمارة ونصوص الدستور الكويتي، التي تنص المادة الرابعة منه على أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية مبارك الصباح، ويعين ولي العهد خلال سنة على الأكثر من تولية الأمير». وقد كان سموه وليًا للعهد منذ 7 أكتوبر 2020. وهو من مواليد عام 1940، الابن السابع للشيخ أحمد الجابر الصباح أمير الكويت العاشر الذي تولى الحكم في البلاد بين عامي 1921 و1950، تلقى تعليمه في المدرسة المباركية، ثم تابع دراسته في المملكة المتحدة، حيث تخرج في كلية هندن للشرطة عام 1960.
بعد عودته التحق بوزارة الداخلية التي كانت حديثة النشأة حينذاك، وتدرج في عدد من المناصب حتى أصبح في عام 1967 رئيسًا للمباحث العامة برتبة عقيد، وقد تحولت في عهده إلى إدارة «أمن الدولة»، واستمر وجوده في وزارة الداخلية نحو 20 عامًا، عمل خلالها في قطاعات وإدارات مختلفة، حتى  13 أبريل 2004، حيث تم تعيينه نائبًا لرئيس الحرس الوطني بدرجة وزير، ليساهم في تطوير الحرس الوطني وتعزيز دوره ومكانته عبر إصدار الوثيقة الاستراتيجية للحرس الوطني التي تهدف إلى حماية سيادة البلاد وشرعيتها ودستورها وشعبها وقيمها من خلال المشاركة في حفظ الأمن والاستقرار، واستمر في شغل منصبه حتى قام سمو أمير الكويت الراحل الشيخ نواف الأحمد بتزكية أخيه الشيخ مشعل الأحمد وليًا للعهد في 7 أكتوبر 2020. وقد أدى سمو الشيخ مشعل الأحمد اليمين الدستورية أمام أمير البلاد، وأعقب ذلك جلسة خاصة عقدها مجلس الأمة بهذه المناسبة بايع خلالها أعضاء المجلس ولي العهد الجديد.
ومن خلال هذا المنصب مثّل الشيخ مشعل دولة الكويت في العديد من المحافل الدولية، من أهمها المشاركة في قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر بالرياض، كما مثّل الكويت في قمة جدة للأمن والتنمية، التي عقدت بمشاركة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والولايات المتحدة والأردن ومصر والعراق في 16 يوليو 2022. 
وفي 22 يونيو 2022 ألقى سمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح كلمة إلى الشعب نيابة عن سمو أمير البلاد وقتها أكّد فيها على حماية الدستور وعدم تعديله أو تنقيحه أو تعطيله وضمان بقائه، وقرر حينها استنادًا إلى حقه الدستوري المنصوص عليه في المادة 107 من الدستور أن يحل مجلس الأمة حلاً دستوريًا ويدعو إلى انتخابات عامة وفقًا للإجراءات والمواعيد والضوابط الدستورية والقانونية.

الإصلاح من الداخل
هذه الروح المفعمة بالصراحة والمباشرة التي أبداها سمو الشيخ مشعل الأحمد وهو ما زال وليًا للعرش ظلت تلازمه بعد أن أصبح أميرًا، وأصبحت المسؤولية بكامل ثقلها تقع على عاتقه، ومن خلال النطق السامي حدد سمو أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد أهدافه الأولى، وهي محاربة القصور والتسيب، فهو رجل يعي المخاطر التي تنبع من تلك الأجواء، ويدرك أبعاد التوتر التي تخيم على المنطقة في هذه المرحلة الدقيقة، وأن الأولوية يجب أن تكون للإصلاح بدءًا من الداخل، فالصوت الوطني يجب أن يكون موحدًا من أجل البناء في المرحلة القادمة دون أن تعطله الخلافات والمصالح الشخصية، وهو يعلم أن الممارسة الديمقراطية التي تتميز بها دولة الكويت يمكنها أن تصحح نفسها بنفسها.

 الدور العربي لم يغب
بحكم طبيعة الحدث والتوقيت ركز النطق السامي على القضايا الداخلية للكويت، إلا أن ركائز سياستها الخارجية وبخاصة تجاه القضايا العربية، سياسة ثابتة لا تغيير فيها، فمنذ أن تجاوزت الكويت محنة الاحتلال في بداية التسعينيات من القرن الماضي، واصلت سياسة التدخل الإيجابي مع النأي عن الدخول في أي خلافات أو شقاقات عربية، ولم تتحرك إلا لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر، كما لم تتخل عن واجباتها في مد العون لمن يحتاج إليها. لقد اختارت الكويت أسلوب الدول الرشيدة التي لا تتوقف عن صغائر الأمور، وكانت دائمًا هي الداعم الدائم لقضية العرب الأولى القضية الفلسطينية، فعلت ذلك بإصرار ودأب، دون إعلان أو طنطنة، وكان لها الدور الفعال في بناء ما تهدم عقب كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، وفي حرب الإبادة الأخيرة التي تقوم بها إسرائيل على غزة كانت من أوائل الدول التي أرسلت الطائرات وهي تحمل المساعدات الإنسانية لسكان غزة المهددين بالجوع والإبادة، ومؤخرًا انطلق من الكويت صوت مؤسسات المجتمع المدني ومجموعة واسعة من البرلمانيين للانضمام للمشاركة في جلسات الدعوى القضائية التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، والتي تتهمها فيها بالقيام بجرائم حرب على غزة، وهو ما يتسق مع شخصية الكويت وأصالتها العربية. 
في فبراير من كل عام تذوق الكويت فرحة الحرية بانتشاء، فقد عاشتها مرتين، المرة الأولى في فرحة الاستقلال، وعاشتها للمرة الثانية في فرحة التحرير، وهذا العام تبدأ عهدًا جديدًا وسط عالم مليء بالتحديات، وعليها أن تشحذ كل قواها لمواجهتها وأن تكون دائمًا في الطليعة لأمتها العربية ■