المهجر المعاصر في ثوب مختلف
هي لحظات من التساؤلات والحسرات التي تتفجر عندما نقرأ في سير وحكايات المهاجرين في آخر قرنين، ونقارن معاناتهم، مع أحوال المهاجرين المعاصرين، خاصة من زاوية كيفية تواصلهم مع بلدانهم الأصلية، وكيف تحول مفهوم الهجرة من الانقطاع الكامل إلى التواصل الفاعل، لقد دنت الأرض من الأرض وانمحت الحواجز، ولم تعد هناك قارات متباعدة ومحيطات فاصلة، هي ضغطة زر وتفتح نافذة الحنين على كل تفاصيل الوطن والمدينة والقرية والأهل والأقرباء والأصدقاء يومًا بيوم ولحظة بلحظة.
عن أي معاناة نتحدث كان يعيشها المهاجرون في الزمن القديم، إذا تخيلنا أن الوسيلة الوحيدة المتاحة لتواصلهم هي الرسالة الورقية، والتي لا يمكن أن ننطقها في زماننا اليوم (رسالة) دون أن تصحبها (ورقية)، لنميزها عن السائد، وهي الرسالة الإلكترونية التي تعددت أشكالها حتى وصلت للتبادل الفوري اللحظي، لقد كان للرسالة الورقية وقع شديد على النفس في كل مراحلها من الكتابة إلى انتظار وصولها، وأخيرًا لحظة تلقي خبر وصولها.
هي غربة هنا وهناك، في هذا الزمن أو حينذاك، الفارق الرئيسي هو توافر فرص الاطمئنان والتطمين لمن هاجر على أهله وناسه، وتلك الميزة هي التي خففت على المهاجر المعاصر الكثير من همومه وأزاحت عن صدره أثقال الحنين والأسئلة المتوالية.
من بين تلك الأسئلة التي طرحت نفسها عندما نقرأ عن أدباء المهجر، ونضع أمامنا فرضية أن المعاناة تحفز منابع الإبداع، ماذا لو توفرت لجبران خليل جبران أو ميخائيل نعيمة أو إيليا أبو ماضي أدوات التواصل السريعة التي نستعملها اليوم، من الطائرات بجداول رحلاتها الضوئية إلى الهواتف الذكية؟ هل كان ذلك سيؤثر بالسلب على إبداعاتهم طالما أن البعيد صار لصيقًا رغم بعده؟
صورة من وجع الغربة
«غلبت قطع تذاكر... وشبعت يا رب غربة»، كلمات موجعة قالها الشاعر بيرم التونسي، وهو يصف أيامه في المنفى، لم تكن باريس مدينة حنونة كما قد نتخيلها، ولكنها باردة ومليئة بالجوع، وكان التونسي يعمل حمالًا على أرصفتها، لقد نفاه الملك فؤاد بسبب قصيدة لاذعة قالها وأصابت الملك في مقتل، ولم يكن هناك من يتشفع له أو يمد له يد المساعدة.
استطاع بيرم أن يتسلل إلى إحدى السفن الفرنسية المتجهة شرقًا، وظل مختبئًا في غرفة الآلات حتى وصلت السفينة إلى ميناء بورسعيد، وتسلل للمرة الثانية إلى الخارج، إلى شمس مصر، وتلقفته الشوارع التي اشتاق إليها، ولكن المطاردة لم تتوقف، ظل أفراد البوليس السياسي يلاحقونه وهو يتخفى تحت أسماء مستعارة وأوراق مزورة، حتى تمكن من الهروب إلى فرنسا والبقاء فيها، إلى أن مات الملك فؤاد وسقط الحكم عنه.
المهجر هو الاسم الذي أطلقه أهل الشام على تغريبتهم الكبرى في منتصف القرن التاسع عشر، فقد اضطروا للرحيل من بلادهم قسرًا بسبب ضيق الرزق والظلم الذي تلقوه من الدولة العثمانية، فضلًا عن تشجيع بعض الدول في العالم الجديد وخاصة في أمريكا الجنوبية على الهجرة إليها لحاجتهم للقوى العاملة وأصحاب الحرف في كل مجال.
كانت الدولة العثمانية في أيامها الأخيرة وظهرت بوادر سقوطها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، تلك الأجواء استثمرها اللبنانيون والسوريون خاصة المسيحيين منهم ورحلوا بعيدًا إلى العالم الجديد بلا نية للعودة، كانت المسافات متباعدة ولم تكن وسائل المواصلات متوفرة كما هي الآن، لذلك لم يكن هناك بديل عن الاستقرار في الأوطان الجديدة، وكل قصة نجاح واستقرار ساهمت في جذب المزيد من المهاجرين.
التكيف والحنين الطاغي
كان حنين أولئك المهاجرين لأوطانهم الأصلية طاغيًا، وفي سبيلهم للتخفيف التفوا حول بعضهم وكوّنوا العديد من التجمعات الأدبية والاجتماعية، أجاد معظمهم اللغة المحلية كالإنجليزية والإسبانية، والبعض الآخر ظل متمسكًا بلغته الأم، الشاعر الشهير إيليا أبو ماضي ظل يواصل كتابة أشعاره بالعربية ويقوم بإرسالها إلى الوطن الأم، وقد أثر وغيره من بقية شعراء المهجر على الأشكال الأدبية في الوطن العربي، وبعثت فيها روحًا من التجديد جعلتهم يجربون أشكالًا أخرى من الشعر الحر ويهجرون الشكل التقليدي للقصيدة، وعلى مستوى النثر برز جيل من الكتاب العظام مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وقد كتب جبران كتابه الشهير «النبي» بالإنجليزية وترجم بعد ذلك للعربية وحقق نجاحًا هائلاً، وما زالت دور النشر في الغرب تصدر منه طبعات جديدة في أعياد الميلاد ورأس كل سنة جديدة.
من المهجر إلى المنفى
يعود فضل استبدال تسمية المهجر إلى المنفى، للشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي، أشهر المنفيين من الشعراء من خلال كتابة أشعاره في المنفى، لقد ظلت الهجرة هي الحلم للكثيرين في الوطن العربي جيلاً بعد جيل، ولكن لكل هجرة أسبابها، فمنذ نكبة فلسطين في الأربعينيات لم يمر عقد من الزمن إلا وشاهدنا أفواجًا من العرب يغادرون أوطانهم منكسرين. في السبعينيات عندما اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان تدفق المهاجرون إلى أراض جديدة حتى وصلت كثافة اللبنانيين في الخارج أكثر بكثير من اللبنانيين في بلدهم الأصلي، ولم تمض سنوات إلا ووقع الاحتلال العراقي الغاشم لدولة الكويت وبدأت معه تداعيات تغريبة الشعب العراقي التي وصلت لشواطئ قارة أستراليا، وأخيرًا حدثت المأساة السورية التي أخرجت السوريين بالملايين واستقر مئات الآلاف منهم في بلد مثل ألمانيا بصورة نهائية.
كل منفى مهما كان سوء منفاه يظل يحمل داخله بصيصًا من أمل، ربما هناك عودة، كلهم عدا محمود درويش الشاعر الفلسطيني الذي مات دون أن يشاهد أرضه مرة أخرى، فعندما كتب قصيدة «رسالة من المنفى» كان يدرك أنه يصارع الخواء، فالأرض قد سلبت منه دون عودة، و كان يتنبأ دون أن يقصد أنه سينضم إليه لاجئون جدد، أولئك الهاربون من الجحيم الإسرائيلي في غزة، وكأنها مأساة إغريقية لا تتوقف، فالمهاجرون الجدد، أناس بلا وطن وبلا أمل، والعديد من المنفيين يعيشون رغما عنهم حياة مزدوجة، يفصلون بين إقامة أجسادهم في المكان الجديد وبين ما تهفو إليه أرواحهم في المكان القديم، والمنفى لا يمتلئ، والوافدون إليه لا يتوقفون، فالأنظمة المتعسفة والديكتاتوريات العسكرية والحروب التي بلا جدوى، تجعل ظروف الحياة غاية في الصعوبة، والحل دائمًا هو الهجرة.
الكتابة في المهجر
ربما تدلنا تجربة أسامة علام الروائي المصري المهاجر إلى كندا على هذا التدرج في الاندماج في تجربة الكتابة، ففي روايته الأولى كان يعتمد على ذاكرته الأولى المرتبطة بمصر، بلد مولده، ثم بدأ تأثير البيئة الكندية يظهر في أدبه وأخذ يستمد رموزه من واقعه الجديد، ثم شهد عمله «الوشم الأبيض» اندماجًا ثقافيًا كبيرًا عبر استغلاله للأساطير المحلية المنحدرة من السكان الأصليين مع وصف حي ومتدفق لطبيعة الحياة، أو أصبحت روايته كندية خالصة لا ينقصها إلا اختراق حاجز اللغة، على العكس منه يختصر الروائي اللبناني راوي الحاج الطريق ويكتب مباشرة باللغة الإنجليزية روايته الشهيرة «لعبة دينيرو»، لذا استطاع أن يخترق الحاجز الأدبي في كندا وفازت الرواية بجائزة أفضل كتاب في عام 2000، وهي بداية طيبة للاندماج وهناك آخرون يسيرون على الطريق نفسه.
وعن الشعر في المهجر الجديد تقول الشاعرة والروائية الفلسطينية هناء عبيد المقيمة في الولايات المتحدة «إن المهجر يمثل للبعض مكانًا لتحقيق الأحلام وحرية من سجن الوطن، وقد يكون هناك من يجد ضالته في اكتشاف الآخر، بينما يكون لآخرين مصدر غربة موحشة ووحدة قاتلة وحرمان من الأهل والأرض». وتضيف: «كان للغربة تأثيرها الكبير على روحي، فحملت القلم ثانية بعد أن أهملته في ربوع الوطن. لقد بكى القلم الأماكن التي رحلت عنها، وعبقت مفرداتي بالشوق إلى الأحبة الذين فارقتهم. كيف لقلمي ألا ينبش الذاكرة والحنين إلى كل ركن كانت تعج به شقاوة طفولتي؟».
أما الروائية والشاعرة اللبنانية نسرين بلوط، فتشبّه الكتابة في المهجر بالإزميل الذي يحفر في أعماق القلب، يغشى صداه الحنين، يرتدّ في روح الكاتب نفسه، لتسود حالة الفراغ التام، وكأنّ هوّة سحيقة تجذبه إلى الانحدار، وهو يسعى أن يرتقي منه ليعود إلى وطنه».
نحن بالطبع في عالمنا العربي سعداء بهذا التواصل، وإن كنا نتمنى أن تتوقف تلك التغريبات المتوالية وأن تعود أوطاننا كما كانت قديمًا أوطانًا مرحبة وليس أوطانا طاردة.
أجيال جديدة متغيرة
لقد تفاقمت الهجرة العربية وشملت بلدانًا عديدة من العالم، والذين يخرجون هاربين لا يستطيعون العودة، لأنها تعني الموت، لذا فهم لا يملكون رفاهية تقييم المكان الذي يقيمون فيه لأنه ملجأهم الأخير، فالسفن التي يمكن أن تعود بهم إلى بلادهــم قــد أحرقت.
وقد تعرضت الأجيال الجديدة من المهاجرين العرب إلى ظاهرة لم تكن موجودة من قبل، فالبعض منهم قد خضع لبرامج إعادة التوطين واللجوء الإنساني التي تقوم بها بعض المنظمات الدولية في البلاد التي تضربها الحروب، أو تقوم بها بعض الكنائس للحفاظ على رعاياها من المسيحيين، ويترتب على ذلك أنه يتم وضعهم في أماكن لا يعرفون عنها شيئًا ولا يستطيعون التفاعل معها، ولكنها على الأقل توفر لهم الأمان والسلام الذي افتقدوه، وربما يزيد هذا من ضرورة اندماجهم في هذه المجتمعات الجديدة، ولكن التحدي الحقيقي هو معرفة اللسان لهذا المجتمع، اللغة المشتركة، حتى يمكن لهم المساهمة الأدبية والثقافية، ولكن هل يمكن أن يظهر في هذا التجمع جبران خليل جبران من جديد؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يجيب عليه اللاجئ، هل هو على استعداد للانفتاح والاندماج خاصة وأن عودته مؤجلة إلى مستقبل مجهول، أم يظل متقوقعًا داخل مجموعته العرقية متعللا بأسباب دينية وتقليدية، ومهما كانت الأسباب فالتكتل في هذه الحالة أدعى للعزلة، والمراهنة الحقيقية تكون على وسائل الاتصال الحديثة القادرة على فك طلاسم أي عزلة بشرية حديثة.
فالمهاجرون الجدد لم يعودوا في عزلة تامة عن أوطانهم كما كان يحدث قديمًا، فقد مكنتهم وسائل الاتصال الحديثة من التواصل الوثيق بأوطانهم رغم تواجدهم في أقطار متعددة، وأصبح في المقدور المشاركة في الأنشطة الثقافية والمهرجانات الفنية كأنهم متواجدين جسديًا، ولم ينقطع الكتاب المنظمون عن كتابة مقالاتهم وكذلك تواصلت أنشطتهم مع دور النشر المختلفة، والكثير منهم عادوا يلعبون الدور الثقافي الذي كانوا يقومون به قديمًا في بلدانهم، فالمهاجر يتابع الأخبار والأحداث ويتابع القصص ويدلي برأيه في القضايا الملحة والغامضة، وتتدّفق كلّ يوم أمامه صور وفيديوهات، بل قد يكون صانعًا للأحداث وهو يُقيم بالخارج جغرافيًا، فانمحت الحدود مع الوقت، وأصبحت رحلات الطيران أسهل رغم أنها لم تعد تثير في النفس حلم التحرر والانطلاق كما في الماضي، ولم يعد النّاس يرغبون في الطّيران بقدر رغبتهم في الثّبات في أماكنهم، لا حاجة لمواصلة الصعلكة القديمة، وأحيانًا لم يعد يمثل اكتساب لغة جديدة ضرورة ملحة، واكتفوا بترجمة أعمالهم لهذه اللغات، لقد اختفت موجة الحنين الرومانسي القديمة، ماتت الرومانسية الحديثة للغربة ■