الشارخ وعطر البدايات الرقمية

قد لا يعرف كثيرٌ من القرّاء والمثقفين الجهود التي بذلها رجل الأعمال الكويتي الراحل محمد عبدالرحمن الشارخ لخدمة اللغة العربية من خلال جهاز الكمبيوتر، ومن خلال ما قدمته شركة صخر لبرامج الحاسب - التي أسسها عام 1982 - من خدمات كبيرة في سبيل تعريب هذا الجهاز، وجعل اللغة العربية لغة حيَّة متجددة متطورة متفاعلة تستجيب لكل إنجازات عصرها.

 

على الرغم من الخطوات الواسعة التي تمت في الغرب خلال عصر المعلومات، وصولًا إلى عصر الذكاء الاصطناعي، فإن أحدًا لن يستطيع أن ينكر عطر البدايات العربية التي وضعها الشارخ وفريق عمله منذ عام 1982، والتي مهَّدت لخطوات أوسع بعد ذلك، أسهمت في نجاح المحاولات الكبيرة التي تُبذل من أجل ردم أو تضييق الهوة أو تجسير الفجوة المعلوماتية بين اللغات الأجنبية - وخاصة الإنجليزية - وبين اللغة العربية بعامة، أو بين الفكر الغربي والفكر العربي بخاصة.

 

نقطة التحول

تخرج محمد الشارخ (1942 – 6 مارس 2024) في «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية» بجامعة القاهرة عام 1965، ثم حصل على الماجستير في التنمية الاقتصادية من كلية ويليامز الأمريكية بمقاطعة ماساتشوستس بالولايات المتحدة، وعندما عاد إلى الكويت عمل في وظائف عدة؛ منها نائب المدير العام للصندوق الكويتي للتنمية، وترأس مجلس إدارة البنك الصناعي الكويتي عام 1979، وأسس الشركة العالمية للإلكترونيات في الكويت والسعودية، ثم كانت نقطة التحول الكبيرة في حياته عندما أسَّس شركة صخر عام 1982 التي استطاع من خلالها رقمنه اللغة العربية ووضع أشكال الحروف وضبطها، وإنتاج حاسوب صخر الذي سرعان ما انتشر وسط أبناء العربية، وبيع منه أكثر من ربع مليون جهاز في فترة قصيرة، فسدَّ نقصًا هائلًا في السوق العربية العطشى لأجهزة الكمبيوتر المعرَّبة، وبأسعار في متناول الجميع، ما لفت الأنظار إلى شركة صخر.

لم تتوقف «صخر» عند إنتاج الحاسب العربي، ومحاولة سد احتياجات السوق العربية، ولكنها قامت بتطوير القارئ الآلي والترجمة الآلية والمدقِّق اللغوي، ومدَّت يدها إلى العلماء العرب المهتمين بهذا المجال، فكان التعاون المثمر بين «صخر» والعالم المصري د. نبيل علي رائد معالجة اللغة العربية حاسوبيًّا، وصاحب كتاب «الثقافة العربية وعصر المعلومات: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي»، وكتاب «العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول» وغيرهما من الكتب التي تصبُّ في هذا الاتجاه الجديد.

 

براءات الاختراع

لقد عملت «صخر» على تعريب بنية الكمبيوتر ورقمنة قواعد اللغة العربية (الصرف والنحو)، بعد أن كانت الإنجليزية هي السائدة بحكم الاختراع والتداول والانتشار، مما أهلها للحصول على 3 براءات اختراع من مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية في مجالات: التعرف الضوئي على الحروف، والترجمة الآلية من العربية للإنجليزية، والنطق العربي. واستطاعت صخر إنشاء العديد من مراكز التدريب في الدول العربية، والمشاركة في العديد من اللجان المالية والاقتصادية المحلية والدولية.

 

مجلات العقود الخوالي

لم تستمر شركة صخر الرائدة في مجالها أكثر من ثماني سنوات داخل الكويت، بسبب الغزو العراقي للكويت عام 1990، فاضطر مؤسسها لنقل نشاطها إلى القاهرة، ولأنه رجلٌ لا يعرف الجمود، فقد واصل محمد الشارخ في تأسيس عدد آخر من المشروعات، منها مشروع «كتاب في جريدة» بالتعاون مع منظمة اليونسكو عام 1997، وتطوير برنامج القرآن الكريم، وكتب الحديث التسعة باللغة الإنجليزية، ووضع المعجم العربي المعاصر عام 2019، وهو معجم محوسب يحتوي على 125 ألف كلمة وتركيب، و35 ألف مترادف ومتضاد. وجاء تأسيس مشروع عملاق آخر هو «أرشيف الشارخ للمجلات الثقافية والأدبية العربية» (مجلات العقود الخوالي متاحة للباحثين)، الذي يحتوي على 2 مليون صفحة، و326291 مقالة، لـ 52203 كتَّاب، من خلال أرشفة 272 مجلة، بلغ عدد أعدادها 15850 عددًا.

وقد وضعت على صدر الصفحة الرئيسية للأرشيف عبارة دالة على أهمية هذا الأرشيف للباحثين والكتَّاب والمؤلفين والطلاب، لصاحبها رشيد الخيون في مجلة «المجلة» (عدد 14 أغسطس 2016)، تقول: «لا يعرف قيمة أَرْشيف «صخر» للمجلات العربية إلا مَن صرف الوقت والجهد للبحث عن مقالٍ نُشر في مجلة صدرت في القرن الـ 19، أو بداية القرن الـ20 كالمقتطف، والمشرق، ولغة العرب، ويؤكد الأرشيف أن معظم مجلاته تخضع للمجال المفتوح».

 

جوائز تقديرية عربية ودولية

كرم محمد الشارخ عدة مرات في حياته، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام عام 2021، وجائزة الدولة التقديرية التي يقدمها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت عام 2018، وجائزة World Summit Award من ستيبان ميسيتش رئيس جمهورية كرواتيا، وليونيل فرناندز رئيس جمهورية الدومينيكان، وألفريد جوسينباور، المستشار الاتحادي لجمهورية النمسا في احتفالية القمة العالمية 2007. وجائزة «الاحتواء الإلكتروني» (E-Inclusion) التي منحت لبرنامج «إبصار» للمكفوفين من القمة العالمية حول مجتمع المعلومات 2007. والجائزة التقديرية الكبرى ضمن جوائز التقنية العربية خلال معرِض جيتكس 2005. وجائزة الروَّاد من مؤسسة الفكر العربي 2004. وجائزة صاحب الرؤية الإلكترونية 2002 تقديرًا لإنجازاته في مجال صناعة البرامج العربية من قبل مدينة دبي للإنترنت وشركة «أريبيان بزنس». وجائزة أفضل منتجات - معرِض كومدكس مصر - 1998. وجائزة منتدى النجاحات الخليجية 1996.

 

مشاريع أتت أكلها

لقد أنفق الشارخ على جميع مشروعاته من ماله الخاص واستثماراته الخاصة، دون دعم من أي حكومة. ولكن عندما أثمرت مشروعاته وأتت أُكلها وأصبح الإقبال عليها كبيرًا، بعض الجهات المهتمة بمشروعات صخر عرضت على الشارخ المشاركة أو الاستحواذ على عدد من هذه المشروعات، ومنها مشروع «معجم صخر المعاصر» الذي تم تأسيسه عام 2017 واستحوذت عليه وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية.

وقد أعلنت وزارة الثقافة السعودية وشركة صخر لبرامج الحاسب، عن اكتمال الاتفاق على استحواذ الوزارة، على «معجم صخر المعاصر»، الذي يتضمن انتقال حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالمعجم إلى الوزارة، مشتملة على المادة اللغوية المعاصرة وتطبيقاتها المتوائمة مع مبادئ الصناعة المعجمية الحديثة، وقدرتها على تحديد الأهداف، وتعيين المصادر، واختيار المادة، وترتيبها، وتفسيرها، وشرحها، وعرضها المُيسّر للمستخدمين.

وأوضح الأمين العام لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الدكتور عبدالله الوشمي، أن الاستحواذ على «معجم صخر المعاصر» يأتي في إطار الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية من أجل تعزيز حضور اللغة العربية في التطبيقات المعاصرة، مثمنًا اهتمام صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان وزير الثقافة رئيس مجلس أمناء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وحرصه على النهوض بكافة مسارات المنظومة الثقافية وعبر مختلف القنوات والوسائل والتطبيقات، وذلك لخدمة الثقافة الوطنية والعربية وتأكيد ريادة المملكة ومرجعيتها ودورها العالمي في هذا الاتجاه.

من جانبه، أعرب مؤسس شركة صخر محمد الشارخ، عن سعادته لتبني وزارة الثقافة لمعجم صخر المعاصر، الذي سيحقق نقلة نوعية للمعجم بما يخدم مستخدمي اللغة العربية ويذهب بها نحو آفاق جديدة لا تتحقق إلا بدعم مؤسسي، متقدمًا بالشكر الجزيل لسمو الأمير بدر بن عبدالله لاهتمامه بهذا الاستحواذ، ولكل من ساهم بإنجاح وتنفيذ هذا المشروع على أكمل وجه بصورة مهنية متكاملة من طرف وزارة الثقافة.

وبعد هذا البيان تم تغيير اسم المعجم من «معجم صخر المعاصر» إلى «معجم الرياض للغة العربية المعاصرة» ويحتوي على المادة اللغوية التي يحتاج إليها جميع أبناء اللغة العربية، وتنتمي مواده إلى المستوى الفصيح المعاصر. ويتميز هذا المعجم بتطبيق مبادئ الصناعة المعجمية الحديثة في اختيار مواده وتنظيمها وشرحها وعرضها بطريقة سهلة ومفهومة للمستخدم. ويضم 120.513 كلمة، و18000 مترادف، و145000 معنى، و24.258 تركيبًا، و17000 متضاد.

 

«صححلي وشكللي»

وبالإضافة إلى معجم صخر، كان هناك برنامج «صححلي» للكتابة العربية السليمة، وهو واحد من أبرز تطبيقات صخر اللغوية، تتجلى فيه خبرة صخر الكبيرة في مجال المعالجة الطبيعية للغة العربية ولا سيما أبحاثها المتميزة في الصرف والنحو. ويتميز مصحح صخر عن غيره من برامج التصحيح الأخرى بالعديد من الميزات التي تجنِّب مستخدميه الوقوع في أخطاء الكتابة الشائعة في اللغة العربية. وهو يقدم نصًّا خاليًا من الأخطاء الإملائية والنحوية ويمكن تشكيل حروفه تشكيلًا كاملًا، بحيث يمكن إدخال أو كتابة النص المراد تدقيقه إِمْلَائِيًّا أو إِمْلَائِيًّا ونَحْوِيًّا ثم الضغط على «ابدأ التصحيح»، فيقوم البرنامج بتصحيح النص فورًا في نفس مربع الكتابة. كما يتيح الموقع إمكانية نسخ النص المصحَّح أو طباعته ومعرفة عدد الأخطاء، ونوعها، ونسبة الأخطاء في الجملة. 

وهناك أيضًا برنامج «شكللي» لتشكيل وضبط النصوص العربية، مع التخيير بين التشكيل الكامل، أو تشكيل أواخر الكلمات فقط، أو تشكيل الحروف الضرورية لفك لبس الكلمة مع كلمة أخرى، بحيث يقدم القراءة المناسبة للكلمة في الجملة المكتوبة. ويعتمد التشكيل الآلي في بنائه على مجموعة من القواعد النحوية للجملة العربية، يستنتج من خلالها تشكيل الكلمة حسب موقعها في الجملة. كما يعتمد التشكيل الآلي على مدونة لغوية مرمزة صرفيًّا ونحويًّا مكونة من سبعة ملايين كلمة، قام بفك لبسها مجموعة من اللغويين المتخصصين. كما يعتمد التشكيل الآلي على مجموعة من قواعد البيانات اللغوية التي تعمل على معالجة التراكيب ذات الطبيعة الخاصة في تشكيلها مثل: قاعدة بيانات المسكوكات. قاعدة بيانات المتلازمات. قاعدة بيانات الأعلام. وهكذا تتنوع الخدمات والإضافات مما يثري لغتنا ويسهم في الكثير من حل مشكلاتها وطريقة النطق بها وتأكيد الكثير من المعلومات المشكوك فيها.

بصمات مضيئة

في الختام لقد فرضت نجاحات الراحل محمد الشارخ نفسها على أرض الواقع وهي من دفعت عملاقَ مايكروسوفت على الشراكة معه، ناهيك عن شركات يابانية كبيرة، كما أبرمت معه منظمات دولية بارزة مثل معه «اليونسكو» و«معهد العالم العربي» اتفاقيات، للاستفادة من مشروعاته، وهو أول مَن اعتنى بالنص القرآني وترجماته على «الكمبيوتر» وكتب السنة النبوية وأرشفتها، ومن يريد من التعرف على المزيد من جهود الشارخ في الاعتناء بالنص القرآني الكريم يمكنه العودة إلى استطلاع مجلة العربي في عددها 350 الصادر في يناير 1988، والذي يحمل عنوان «عصر جديد للغة العربية - القرآن الكريم على شاشة كمبيوتر».

لذا نؤكد أن للشارخ و«صخر» بصمات مضيئة على أجيال من العرب والناطقين بالعربية في كل مكان، وهو جهد لا يقل عن جهود خادمي اللغة العربية من أمثال: الفراهيدي وسيبويه وأبي الأسود الدؤلي وابن منظور ومحمد بن أبي بكر الرازي والفيروز آبادي ومرتضى الزبيدي وغيرهم.

ولا شك أننا في حاجة الآن إلى أكثر من شارخ وأكثر من «صخر»، لتواكب لغتنا العربية عصر الذكاء الاصطناعي، وهو التحدي الجديد الذي يجب أن نكون في مواجهته بكل الطرق والأساليب حفاظًا على لغتنا وهويتنا العربية أمام هذا الذكاء الذي لا نعرف إلى أين سيأخذنا ■