في المقهى عصفور

 في المقهى عصفور

ترك عصفور جماعته ناشبة على شبابيك عمارة شاهقة غير مأهولة، وحلق نزولا إلى شجيرة على مقربة منها يترصد قط مهزول؛ ليحط بعد ذلك على الرصيف غير مكترث لأقدام العابرين من المارة ولا للقط المترصد. أخذ يدنو متقافزا شيئا فشيئا من المقهى، قبل المدخل توقف هنيهة، ثم قدم الفضول وأخر الحذر وتجاوز العتبة.

في المقهى ازدحام شديد، صوت المعلق الرياضي ينبعث عاليا من شاشة التلفاز الكبيرة، المتفرجون متلاصقون، عيونهم تتسع، النادل يتنقل بصعوبة بين الممرات الضيقة ليلبي طلباتهم. بغتة علت صيحات مدوية فرحا بتسجيل هدف السبق؛ فانتفض العصفور مذعورا، وبدل أن يخرج حلق فوق الرؤوس متوغلا إلى عمق المقهى، لم يعره الزبائن اهتماما؛ لأنهم كانوا منشغلين بمتابعة أطوار المقابلة؛ أما النادل فرفع يده ليدفعه إلى الخروج، لكنه زاد بفعلته الطينة بلة؛ ذلك أنه حمله على الصعود إلى الطابق العلوي؛ حيث استقر على صورة معلقة على الجدار، وقبع هناك منكمشا من شدة الخوف. الطابق العلوي خال إلا من زبون في عنفوان الشباب يتردد يوميا وبانتظام على المقهى، عيناه مشدودتان إلى شاشة هاتفه، يحرك بخفة إبهاميه ومن حين إلى حين يتوقف ليزدرد قطعة بسكويت أو يرتشف قهوة.

حاول العصفور أن يجد له منفذا، لكن كل محاولاته ذهبت هباء. كان ينطلق محلقا في اضطراب، وحين يصطدم بالواجهة الزجاجية يعود من جديد ليحط على الصورة المعلقة. ظل على تلك الحال يكرر محاولاته بكل إصرار إلى أن نال منه التعب. اقترب العصفور من الشاب اللاهي بهاتفه، فرفر، زقزق، لعله يثير انتباهه، فيساعده على الخروج من هذا المأزق، ولما طال ترقبه لم يجد سوى أن يقفز إلى طاولة مجاورة، ويخاطبه:

- أنت، ألا تسمع؟ ألا ترى؟ حاولت كثيرا لفت انتباهك لكن بلا فائدة.

- أأنت الذي نطق؟ هل ينطق العصفور؟

- أنطقتني لا مبالاتك القاسية.

_ ما الذي جاء بك إلى المقهى؟ 

- طبعا لم آت لشرب القهوة أو الشاي؛ لقد دفعني حب الاستطلاع.

- بل دفعك الفضول الزائد، يا لك من عصفور طائش متهور!

- دع عنك تقريعي؛ لقد تعلمت درسا لن أنساه ما حييت، أنا الآن بحاجة للطعام والشراب كي أستعيد طاقتي.

- كيف لي أن أسقيك وأطعمك؟

- ألم يهبك الله عقلا تفكر به، ويدين تعمل بهما؟ تصرف.

نهض الشاب، أخذ الطبق الذي تحت الفنجان، وأفرغ من القنينة مقدارا من الماء، وفتت قطعا من البسكويت في منديل ورقي، وتنحى جانبا ليرقبه وقد داخله ارتياح خفي، وانبسطت أساريره، شرب العصفور حتى آخر نقطة، ونقر فتات البسكويت، ثم استأنف المحادثة:

- شكرا، أكمل معروفك، وساعدني على الخروج قبل الغروب، وعلي أن أعود إلى الوكر قبل العتمة.

- ما السبيل إلى ذلك؟

- لن تعدم وسيلة، شغل عقلك كما شغلته قبل قليل.

جال الشاب ببصره في المكان، رفع ستارة تغطي نصف الواجهة الزجاجية، ولاحظ لأول مرة أن النافذة المستطيلة التي تعلوها من الطراز القابل للزحلقة، ارتقى كرسيا، ودفع إحدى الدفتين، وأفسح له المجال للخروج إلى الهواء الطلق، إلا أن العصفور استدار، وعاد من جديد يخاطبه:

- وأنت ألن تخرج؟ كيف تضيع كل هذا الوقت في هذا المكان! ألا تدرس؟ ألا تعمل؟

- انقطعت عن الدراسة، ولا أجيد حرفة ولا أتقن صنعة، أنام حتى الظهيرة، أستحم، أتغذى، أتأنق ثم أجيء إلى المقهى؛ حيث أمكث منفردا في هذا الركن أشاهد الصور ومقاطع الفيديو، أجري المحادثات، ثم أنهمك بالألعاب الإلكترونية إلى أن يحين وقت الإغلاق.

- من ينفق عليك؟ 

- والدتي بعد وفاة والدي.

- كيف تطيق هذه الحياة الفارغة الرتيبة! هل ترضى أن تعيش عالة على والدتك؟ أراك شابا صحيحا قويا قادرا على العمل، لم يفت الوقت، تعلم، اعمل، لا تضيع وقتك سدى، قم بأنشطة تعود عليك بالنفع، ولا بأس من تخصيص وقت محدد للترفيه. 

طار العصفور من النافذة المفتوحة، ثم انطلق إلى الأفق البعيد. ابتسم الشاب ابتسامة راضية صافية وقد سرى إلى نفسه إحساس عجيب، وخرج على الفور يفكر بجدية في الذي جرى له مع ذلك العصفور في المقهى.