الأطفال وسلبيات العالم الرقمي
في عصر الفضاءات المتجاورة والفضائيات المفتوحة، وتقارب الثقافات، وتمازج الكثير من الرؤى والأنماط الفكرية والسلوكية والحضارية، تزداد تربية الأطفال وتتبّع كلّ ما من شأنه التأثير في فكرهم وسلوكهم صعوبةً وتعقيدًا وتحديًا؛ وهذا أمر واضح ومفهوم غاية الفهم خلال هذه المرحلة الزمنية التي نعيشها في واقعنا المجتمعي والأُسري والحضاري المعاصر... فقد أضحى تأثير مواقع ومضامين شبكة المعلومات العالمية، وتدفق الصور الصامتة والمتحركة في أشكال وألوان مختلفة، إلى جانب الحمولة الفكرية والسلوكية لتلك الصور والأشرطة والأفلام والأنماط أمرًا حسّاسًا لا يمكن تجاهله أو نكرانه، أو التقليل من آثاره ورواسبه في بناء شخصية الأحداث أطفالًا كانوا أم يافعين.
ومما لا ريب فيه أنّ التسليم بهذا التحدي في واقع الأسرة العربية والإقرار بما يحمل في طياته وبواطنه من تصوّرات وخلفيات ومرجعيات لا تنسجم ولا تتلاءم في الكثير من جوانبها وتفصيلاتها مع مرجعية فكرنا التربوي وهُويّتنا في بناء وإعداد شخصية الطفل، يُحتّم على أُسرنا ومجتمعاتنا ومؤسساتنا ومحاضن التنشئة عندنا رسم مخططات وبرامج تربوية وتثقيفية وترفيهية ينهل من معينها أطفالنا القيم والتصورات والأنماط السلوكية والفكرية والأخلاقية ذات البصمة أو الصبغة العربية الإسلامية المميّزة.
وبما أنّ المحتويات والمضامين ذات التأثيرات السلبية المبثوثة كثيرة ومتنوّعة، تلك التي تستهدف الأطفال وتؤثر في فكرهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإن حديثنا في هذا المقال سوف يقتصر على مادة واحدة منها فحسب، هي الصور أو الرسوم المتحركة، لكونها تأتي في مقدمة المواد الإعلامية استهلاكًا في عالم الأطفال في الواقع الراهن، حيث تُعدُّ المادة الأكثر تأثيرًا في الأطفال، فقد اتخذها السواد الأعظم منهم سَلوةً عن الأصدقاء والأهل والأقارب وجلّ أفراد الأُسرة، وصرفوا فيها أوقاتًا لم يصرفوها على دروسهم ومقرّراتهم الدراسية التعلّمية.
تعريف الصور المتحركة
الرسوم أو الصور المتحركة من حيث محتواها الأصلي عبارة عن مناظر ومَشاهد سينمائية أو حكايات أو قصص أو أساطير خيالية، تُقدم في قوالب وأساليب درامية جذابة مصحوبة بإيقاعات وأنسجة موسيقية خاصة كأنها لحنٌ متميّز لفنّ التحريك، تمثل فكر وثقافة مَنْ رسمها، بل تتضمّن ما شاء راسمُها من عقائد وأفكار وأنماط سلوكية، يتأثر بها غالبًا المُشاهد والمتابع الصغير شَعُر بذلك أو لم يشعر. وتثبت الكثير من الإحصاءات أنّ 70 في المئة من الأفلام والمسلسلات الكرتونية تُنتَج في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تخلو غالبيتها من بصمة فكرية ومرجعية ثقافية خاصة، يتعمّد صانعوها أن يضمّنوها الحكايات والأساطير والقصص المرسومة.
من جهة أخرى، أثبتت بعض الدراسات المتخصّصة أنّ فترة تعلّق الأطفال بوسائل الإعلام مرتفعة عند سن الثالثة بالنسبة للذكور، وعند سن الخامسة بالنسبة للإناث، وهذه أخطر مراحل نمو الطفل، وبناء أفكاره وتصوراته ومعتقداته. وأظهرتْ تلك الدراسات كذلك أنّ نسبة عالية جدًا من الأمهات والآباء لا يدركون دور الرسوم المتحركة في التأثير على عقيدة وأخلاق وسلوك الأطفال، وتشكيل تصوّراتهم ورؤاهم، خاصة من خلال ما تخزّنه ذاكرتهم في هذه المرحلة العمرية الحساسة. (محمد العريفي، الرسوم المتحركة وأثرها في عقيدة الناشئة، ص 21 ).
بل إنّ الكثير من الأُسر لا يهمها سوى إلهاء الأطفال وإشغالهم بأيّ وسيلة، قصد التفرّغ لشؤون البيت وإعداد الطعام خاصة بالنسبة للأمهات، ولا يلتفتون بعد ذلك لفحص مضامين تلك الأشرطة والأفلام من الصور المتحركة، فهي تعبث بعقول ووجدانات الأطفال على النحو الذي تريده، لأنهم لا قدرة لهم على النقد بحكم أعمارهم الغضّة، وقد اعترفتْ منظمة اليونيسيف في تقرير لها بضعف الجهود المبذولة ميدانيًا من أجل تحصين الأطفال وحمايتهم من سلبيات العالم الرقمي.
الظهور التاريخي للصور المتحركة
من الناحية التاريخية نجد أنّ تقنية الصور المتحركة، أو أفلام الكرتون سبقتْ التصوير الفوتوغرافي الذي تمّ اكتشافه سنة 1835م، في حين نجد أنّ الرسوم المتحركة كانت تتحرك على أقراص خاصة بها منذ سنة 1832م، أي قبل اكتشاف التصوير الفوتوغرافي بثلاث سنوات، وتمّ تنظيم أول عرض علني للرسوم المتحركة في شارع «أكسفورد ستريت» بالعاصمة البريطانية لندن سنة 1896م، وكان هذا العرض متزامنًا مع أول عرض سينمائي شهده العالم في فرنسا وتحديدًا في «الجراند كافيه» بباريس. (الرسوم المتحركة وأثرها في عقيدة الناشئة، ص 20).
بيد أنّ القائمين على شؤون الصور المتحركة لم يقفوا بها عند ذلك المستوى البسيط، بل عملوا على تطويرها وتجديد تقنياتها على كافة الأصعدة دون كلل أو ملل أو تثاؤب، ويُفهم من ذلك أنها قد مرّت بعدّة مراحل، طالتْ الشكل والمضمون على حدّ سواء. وعلى الرغم أنها أُنتجتْ في بداية الأمر من أجل عرضها في قاعاتِ ودُور السينما، إلّا أنّ عملية التطوير والإضافة المستمرة جعلتها إنتاجًا فنيًا وإعلاميًا مستقلًا بذاته لأول مرة سنة 1910م، وذلك بفضل جهود كلّ من «جون راندولف براي» الذي نجح في تحويل هذا الفن إلى وسيلة ترفيه وتسلية وإبهاج وتزجية للوقت لها أنصار كثيرون من فئة الصغار وفئة الكبار معًا، وكذلك صديقه «إيرل هيرد» الذي نجح في إبداع تقنيات جديدة تضطلع بمهمة تحريك الصور بمهارات فنية عالية.
ثمّ جاءت بعد ذلك مرحلة زمنية أخرى برز فيها الكاتب والمخرج والسيناريست الأمريكي «والتر ديزني» الذي يُعدّ أحد أكبر وأبرع روّاد التحريك في العالم، وهو مؤســس شركـة (والتر ديزني) المعروفة، ومخترع المنتزه العالمي المشهور أو ملهى الأطفال ذائع الصيت «ديزني لاند»، الذي يجد له السائح والزائر عدّة نماذج بالمسمى نفسه، في مدن وعواصم كثيرة من دول العالم؛ وقد استطاع «والتر ديزني» أن يضع باقتدار بصمته الخاصة على فن الصور المتحركة، من خلال شخصيات أفلامه الكرتونية ورسومه المتحركة ذائعة الشهرة مثل: «ميكي ماوس»، و«دونالد داك»، وشخصية «أوسوالد» أو الأرنب المحظوظ، وغيرها من الشخصيات.
أو من خلال إضافاته المتنوّعة في هذا الفن الذي سحر الألباب وغزا القلوب، وجذب إليه وجدانات وأذواق الملايين من الصغار والكبار على السواء في كلّ أنحاء العالم. ومع مرور الوقت بدا جليًا للمتابعين وللنقاد أن هذا الفن لا يمكن تهميشه أو الاستغناء عنه، لكثرة الطلب عليه، خاصة بعد التطوّر التقني النوعي والكمي الذي حصل في ميدان وسائل تكنولوجيات الإعلام والاتصال، وظهور القنوات التلفازية الفضائية والأرضية والرقمية المتخصّصة في شؤون الأطفال وإشباع حاجاتهم الإعلامية.
ضرورة إعداد البدائل المناسبة
بما أن حاجة الأطفال واليافعين كذلك إلى الإعلام الترفيهي وبالأخص منه الرسوم والصور المتحركة مؤكَّدة وثابتة وملحّة ومتجدّدة، فإنّ هذا الأمر يُلقي على كاهل المراقبين والمربين وأصحاب القرار والمسؤولين في المجالين الإعلامي والتعليمي /التربوي عبئًا ثقيلًا من حيث الشعور بالمسؤولية؛ مما يُحتم على تلك الجهات والدوائر التفكير الجدي الفاعل والمثمر في إعداد البدائل المناسبة، وإنتاج محتويات ومضامين لأفلام ومسلسلات رسوم متحركة تكون مناسبة ومنسجمة مع خصوصيات شخصية الطفل العربي ومع هُويته الثقافية الإسلامية المميّزة.
ولعله من الأفضل في هذا السياق التمثيل بظاهرة معيّنة شديدة الحضور في أفلام الرسوم المتحركة، وهي في الآن نفسه ذات تأثير سلبي بالغ الخطورة على شخصية الطفل، كي نزداد قناعةً ويقينًا بأهميّة وضرورة إعداد البدائل المناسبة لأطفالنا وناشئتنا.
هذه الظاهرة السلبية الخطيرة تتمثل في ممارسة «العنف» بما في ذلك جرائم القتل والحرق والإبادة ونحوها من الجرائم والجنايات، وهي حاضرة وبارزة جدًا في شتى مسلسلات وأشرطة وأفلام الرسوم المتحركة المستوردة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان وكوريا وغيرها، وعلى الرغم من أنها في عمومها يغلب عليها العنف والتدمير الهمجي الشديد، فهي مع ذلك تجذب الأطفال إليها وتجعلهم شاخصين بأبصارهم متسمّرين أمام شاشات التلفاز أو أمام الوسائط التي تعرضها، ومنها على سبيل المثال: مسلسل «سلاحف النينجا»، ففي بعض حلقات هذا المسلسل تظهر مجموعة من السلاحف الشجاعة وهي تحارب الشر في شوارع المدن والقرى، لكن دون أن يصيبها أيّ أذى أو ضرر!!
الأمر الذي يرسخ في ذهن الطفل وفي عقله الباطن بأنّ العنف لا ينطوي بالضرورة على أضرار أو آلام ومخاطر، وأنه الأسلوب المناسب والأمثل للتعامل مع كلّ مَنْ لا نتفق معهم، كما تُصوّر تلك الرسوم عدم احترام السلاحف لأمن المدن وهدوئها وسكينة قاطنيها، ولا يصعب بداهةً استنتاجُ ما يستبطنه هذا السلوك السلبي العنيف من أضرار سلوكية في حال تمثّله وتطبيقه من قِبلِ الأطفال المولعين بالمحاكاة والتقليد. ومن المعلوم أنّ البحوث السلوكية والدراسات النفسية ما فتئت تؤكد قوة وازع تمثّل الطفل وتقليده لكلّ مَن يتأثر بهم في مشاهداته أو في محيطه الأُسري والاجتماعي.
فما تقدّمه مثلُ هذه المسلسلات من صور متحركة غير مدروسة وفاقدة لمعايير التقييم العلمي، يغرس في التركيبة النفسية للطفل دون شعور وبمنأى عن توقّع الخطر الميل إلى العنف وتمجيده وتبرير ممارسته، ومع مضيّ الوقت يتحول لديه إلى سلوك ثابت، بل إلى سمة من سمات شخصيته، لأن الطفل لا يستطيع في أكثر الأحيان أن يميّز بين ما هو واقع وبين ما هو خيال وتمثيل، ولا يقوى بطبعه على التفريق بين التصوّرات والتصرّفات؛ وكم طالعنا من قصص وأحداث مروّعة لبعض الأطفال الذين ألقوا بأنفسهم من أماكن مرتفعة شاهقة، تقليدًا للأبطال الذين تأثّروا بهم، ففقدوا حياتهم، أو أصيبوا بعاهات خطيرة أو بأضرار جسدية بالغة السوء. (أحمد حسن الخميسي، تربية الأطفال في وسائل الإعلام، ص 64).
ومما يندرج ضمن مخطط إعداد البدائل، أو هو جوهرها وروحها، الإنتاج الجيد الرفيع للقصص ونصوص السيناريوهات، المعدّة خصيصًا لأفلام وأشرطة الرسوم المتحركة، فينبغي على المؤلفين والكُتاب وشركات الإنتاج الإعلامي والتلفزيوني أن يحرصوا أشدّ الحرص على غرس القيم المُثلى الرفيعة في نصوصهم، مثل نبذ العنف والإجرام والإشمئزاز من الظلم والغطرسة والمس بكرامة الآخرين، وذلك عن طريق الإشادة بقيمة العدل والسلوك الحضاري واحترام الجار وتوقير كبار السن، والدعوة إلى التعاون على أعمال البر والخير ونظافة البيئة والمحيط، أو بواسطة تضمين تلك النصوص لآيات قرآنية كريمة تحضُّ على السلم والأُخوة والإيثار والكرم والمروءة، إلى غير ذلك من القيم الحيوية المهمة في تعزيز وتوطيد عرى التماسك الاجتماعي داخل مدننا وأوطاننا.
مسؤولية عالية
لكن من الإنصاف في هذا السياق ألا نغضّ الطرف ولا نتنّكر للجهود القائمة بالفعل في واقعنا الاجتماعي، فهناك مؤسسات ومواقع إعلامية وتربوية ملتزمة ببث ما ينفع ويفيد أطفالنا وناشئتنا، وتسعى بروح مسؤولية عالية وضمير يقظ من أجل تحصينهم ضد سلبيات المواقع التي تستهدف أخلاقهم وقيمهم، بيد أنّ الأمر في نظرنا يحتاج إلى مزيد من تضافر الجهود الرسمية والأهلية، وإلى تعاون فعّال بين القائمين على الشؤون التربوية والإعلامية، في سبيل إخراج جيل قوي شامخ معتز بانتمائه لأمته وهُويّته ومواريثه الأخلاقية الخاصة، على أن يكون في الآن نفسه موصولًا ومرتبطًا بطبيعة عصره، وبما يُستجدّ فيه من كشوفات علمية أو مخرجات تقنية وتكنولوجية يمكن الإفادة منها واستثمارها فيما يعزّز مناعته الفكرية والنفسية والحضارية ■