الأم.. أعرق المدارس
الأم.. أعرق المدارس
حقيقة قديمة متجددة، يعيدنا إلى ألقها هذا المقال أن المعنى اللغوي لكلمة الأم، كما شرحها صاحب لسان العرب: "الأم لكل شيء هوالمجمع والمضم" ولو فتحنا همزة أم "الأم": العلم الذي يتبعه الجيش، منها الإمام وهو كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، والأمام! بمعنى القدام. وفلان إمام القول، معناه هو المتقدم لهم. ومنها الأمة وهي الجيل والجنس من كل حي والأم كالأمة، وفي الحديث إن أطاعوهما، يعني أبا بكر وعمر، رشدوا ورشدت أمهم، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد. ومعنى أممت قصدت. قال الفراء في قوله عز وجل: أن إبراهيم كان أمةقال: أمة معلما للخير. وجاء رجل إلى عبدالله فسأله عن الأمة، فقال معلم الخير، والأمة المعلم. وربما تبين لنا أن الأم هي الإمام وهي الهادي، وهي المعلم، والأصل لكل شيء، كما قال حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعدتها أعددت شعباً طيب الأعراق ولعل الله سبحانه وتعالى رفع منزلة الأم إلى المقام الأوفى، وليس فوقها أحد إلا الله ورسوله. الأم العربية لقد كانت المرأة العربية القديمة مدرسة فعلاً فهي تسمع أطفالها منذ نعومة أظفارهم الكلمات الفصيحة، ليتذوقوها، ويناموا على موسيقاها، وتبعد عن أسماعهم الكلمات النابية. كانت المرأة العربية تغرس في أولادها القيم المتوارثة، كما تقول د. ليلى صباغ، تلك "المثل العليا الاخلاقية والاجتماعية للإنسان العربي في الجاهلية. ومنهـا الحلم والصبر والعفو عند المقدرة والكرم" وغيرها. وكانت تعلم أولادها آداب السلوك في البيت وخارجه، وتقول لسانهم، وتفصح بيانهم، وتعلمهم التواضع واحترام الآخرين. فقد تعلم حاتم الطائي الكرم من أمه التي كانت المثل الأعلى في العطاء والسخاء، وهي عتبة بنت عفيف "لا تدخر شيئاً، ولا يسألها أحد شيئاً فتمنعه" حتى حجر عليهـا إخوتها "ومنعوها مالها، فمكثت دهراً لا يدفع إليهـا شيء منه، حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلهـا، (أي قطعة من الإبل ما بين العشر إلى الثلاثين، أو إلى الخمسين والأربعين..) فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيهـا في كل سنة تسألها، فقالت لها: دونك هذه الصرمة فخذيها، فو الله لقد عضني من الجوع ما لا أمنع معه سائلا أبداً. ولاشك أن وصية الأم لابنتها قبل زواجها هي نموذج حي لما تزرعه الأم في نفس ابنتها من قيم موروثة، للعناية ببيت الزوجية وحماية الأسرة من التشرد والتشتت.. ولعل وصية أمامة بنت الحارث زوج عوف بن محلم الشيباني، لابنتها قبل زواجها من عمرو بن حجر خير مثل يقتدى به في تاريخنا العربي القديم، قالت لها: "أي بنية إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي فيه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لموضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولايشم منك إلا أطيب ريح وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوع مغضبة وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير وفي العيال حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا تفشين له سراً فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً، فولدت له الحارث بن عمرو جد امرئ القيس الشاعر. وقد تزوج شريح القاضي (...- 78هـ) أبو أمية من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية تزوج زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة وأمضى معها عاماً براحة وسعادة، وقد عاد مرة من مجلس القضاء فوجد عجوزا تأمر وتنهي في الدار فسأل من هذه؟ قالوا فلانة ختنك (أي حماه) فسلم عليها فسألتة: كيف رأيت زوجتك قلت؟ خير زوجة فقالت لي: أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوأ حالاً منها في حالتين إذا ولدت غلاماً أو حظيت عند زوجهـا، فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب ورضت فأحسنت الرياضة. قالت: تحب أن يزورك أختانك قتلت: متى شاءوا. قال: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية... مرضعة ثقافية أما التربية الفكرية فللأم دور كبير في تغذية الفكر وتوسيعه منذ نشأة الطفل، منها التربية الفكرية الدينية التي يكتسبها الطفل من الأم ويتأثر بها، ويأخذ من أمه البدع والخرافات التي تؤمن بها فتنقلها إليه، ومنها تعلم الطفل وتطور، يتأثر إلى حد بعيد بما غرسته أمه في فكره منذ طفولته وانشأته كما يقول المثل: من شب على شيء شاب عليه. لقد كانت الأم في المجتمع العربي الجاهلي ذات أثر كبير في تكوين ثقافة الأبناء، وهي المصدر الأول لبنيتهم الفكرية، وخاصة اللغة والبيان، فما يتعلمه الطفل من أمه يرسخ في ذهنه، ولذا كان العرب القدماء يرسلون أبناءهم إلى البادية ليتعلموا اللغة الصحيحة.. ولعل محمداً صلى الله عليه وسلم خير دليل على ذلك، فقد أرسله جده إلى البادية ليتلقى اللغة الفصحى البعيدة عن الشوائب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع فصاحتة المعجزة إلى منبته في قريش واسترضاعه في بني سعد، وهو الذي يقول: "أنا أعربكم ولدت في قريش واسترضعت في بني سعد". وقال له أبوبكر رضي الله عنه: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله. فقال: "ما يمنعني! ولدت في قريش وأرضعت في بني سعد". ولكن التربية العملية التي تقوم بها الأم في تزويد أبنائها لجعلهم قادرين على ممارسة أعمالهم المستقبلية هي متممة وأساسية. فالطفل الذي ينشأ في بيت منسق نظيف، ويتذوق الطعام الشهي.. لا يتخلى عن ذلك كله بل ينقله معه إلى أولاده.. فقد اعتاد رؤية أمة تعد المائدة، والطعام، وتنظف البيت، وتستقبل الضيف مرحبة به، وفي أوقات فراغها تدرب ابنتها على القيام بأعمال تطريز وخياطة أو رسم ونحت وموسيقى، وغير ذلك مما يوجه الفتاة إلى أشياء نافعة لاتستغني عنها، تستفيد منها في مستقبلها لتزين بيتها وتملأ فراغها.. والأم هي التي توجه فتاها منذ صغره ليعمل أعمالاً تنفعه في مستقبله إلى جانب علمه.. لقد كان في الماضي دور الأب في توعية ابنه، ولكن دور الأب قد أخذته الأم في حياتنا المعاصرة، في توجيه ابنها ليمضي فراغه في أشياء نافعة له من.. تجارة أو حدادة أو رسم أو نحت وما إلى ذلك.. لتنمي ميوله التي تنتبه إليها، فعلى الغالب الأب بعيد عن البيت أكثرالأحيان، والأم هى القائدة والموجهة للبيت.. إن الأم هي المسئول الأول عن تربية الأطفال، "لو كانت تملك العديد من الإماء والعبيد، فقد كان يعير الولد أو البنت بأن تربيتهما كانت من عمل الإماء. وفي ذلك يتفاخر عمرو بن العاص فيقول: "ولا تأبطتني الإماء، ولا حملتني البغايا في غبرات المآلى". وقد توجه الأم بناتها إلى النظافة، وتفضيلها الماء على الطيب، فكان العرب يقولون: "إن أفضل الطيب الماء". وقالوا إن النعمان بن المنذر تزوج أربعاً من أربع قبائل تأييداً لعرشه تثبيتاً لملكه، واحدة أنمارية، والثانية سلمية، والثالثة نمرية، والرابعة أسدية. فقال للأولى: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي: عطري جلدك وأطيعي زوجك، واجعلي الماء آخر طيبك. وقال للثانية: ما أوصتك به أمك؟ قالت: قالت لي: لا تجلسي بالفناء، لا تكثري المراء، واعلمي أن أطيب أطيب الماء. وقال للثالثة: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي: لا تطاوعي زوجك فتمليه ولا تعاصيه فتشكيه، وأصدقيه الصفاء، واجعلي آخر طيبك الماء. وقال للرابعة: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي: أدني سترك، وأكرمي زوجك، واجتنبي الإباء واستنظفي بالماء. كان العرب القدماء ينصحون بألا يتزوج أبناؤهم الورهاء، "وهي الهوجاء التي لايتم لها عمل" ولا الخرقاء "التي تدعي العمل ولا تحسنه"، فإن ولدها إلى أفن يكون. ا"لأفن: النقص ويقال رجل أفين ومأفون أي ناقص العقل". فصول العز نعرف كلنا الخنساء الشاعرة التي حضرت حرب القادسية، ومعها بنوها وهم أربعة رجال فقالت لهم من أول الليل: يا بني أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. والله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو إمرأة واحدة ما خنت أباكم، و لافضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير في الدار الفانية يقول الله تعالى:يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون فإذا ما أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقه وحللت نارا على أرواقهـا فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها. فلما أضاء الصبح باكروا مراكزهم، فقاتلوا حتى قتلوا، ولما بلغت نبأ استشهادهم قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته". ولعل أسماء بنت أبي بكر "رضي الله عنها" هي أم مثالية مقدامة، فقد شهدت وقعة اليرموك مع زوجها وأبلت فيها بلاء حسنا، فكانت مدرسة رائعة لابنها عبداللة بن الزبير، وحين دخل عليها وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة وقال لها: "أيا أماه ما ترين! قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتبى". فقالت: "لا يلعبن بك صبيان بني أمية. عش كريماً ومت كريماً، والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً بعد أن تقدمتني أو تقدمتك فإن في نفسي منك حرجاً حتى أنظر إلى ما يصير أمرك" ثم قالت اللهم ارحم طول ذاك النحيب والظماء في هواجر المدينة وبره بأمه. اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك ورضيت فيه بقضائك فأثبني في عبدالله ثواب الشاكرين. فرد عنها وقال: يا أماه لا تدعي هذا الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده. قالت: لن أدعه لله. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق". فخرج. وفي رواية أخرى أنه دخل عليها وهو يخاف أن يمثل به بعد القتل "قالت: إن الكبش إذا ذبح لم يأمن السلخ. فخرج فقاتل حتى قتل". وذكر أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: "إن ابنك ألحد في هذا البيت وإن الله قد أذاقه من عذاب أليم وفعل به وفعل. فقالت له: كذبت كان برا بالوالدين صواماً قواماً ولكن والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر شر من الأول وهو مبير". وقال الحجاج لأسماء بعد قتل عبدالله: "كيف رأيتني صنعت بابنك؟ فقالت: أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك" كانت أسماء تقول: "اللهم لاتمتني حتى تقرعيني بجثته". قيل: إن الحجاج منع دفن الجثة حتى تأتي أسماء وتطلب ذلك. وقال ابن مليكة: كنت ممن تولى غسله، فجعلنا لانتناول عضواً إلا جاء معنا فنغسله فنضعه في أكفانه حتى فرغنا منه. ثم قامت أمه أسماء فصلت عليه. فلا ريب في موقف أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي المؤمنة التي ولدت سنة 27 قبل الهجرة. ودعيت بذات النطاقين لأنها أخذت نطاقها فشقته شطرين، فجعلت واحداً لسفرة رسول الله صلى الله وعليه وسلم والآخر عصاماً لقربته ليلة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر الصديق إلى الغار. وكان أهل الشام يعيرون ابن الزبير بذات النطاقين يوم كانوا يقاتلونه. فقالت لابنها عبدالله: عيروك! قال: نعم. قالت فهو والله حق. وقالت أسماء لما قابلت الحجاج: كيف تعير عبدالله بذات النطاقين، أجل قد كان لي نطاق لابد للنساء منه، ونطاق أغطي به طعام رسول الله. توفيت أسماء بمكة بعد قتل ابنها عبدالله بن الزبير بليال..ولهـا مائة سنة ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل. الأم المعاصرة ما هي وظيفة الأم في عالمنا المعاصر؟ ما هو دورها؟ ما هو تأثيرها؟ وما هي انعكاساتها؟ ثمة تساؤلات كثيرة تقلق ذات الإنسان وتتعبه محاولاً إيجاد الجواب الشافي له، القريب من الواقع، أو الواقع نفسه. ولو أجرينا تجارب واحصاءات لوجدنا أن دور الأم لم يتغير، ولن يتبدل منذ وجدت الخليقة حتى اليوم، ولكن الأم العربية المعاصرة حاولت أن تتملص من دورها العظيم الذي وهبتة لها السماء، فهي غالباً تطلب ولا تعطي، ولعل الأنانية التي وصلت بالإنسان المعاصر إلى ذروتها، كانت الأم قد أخذتها كلها تقريباً. لا أنكر أن هناك أمهات يشغلن أوقاتهن وتفكيرهن، ويعطين أقصى جهدهن لتأمين السعادة لأسرهن.. وهناك الأمهات اللواتي. لايهتممن بتوجيه أولادهن، ويصررن على أن الاساس في توجيه الفتى هو الأب وأن المدرسة هي المسئولة عن توجيه الجنسين معاً. وهناك فئة أخرى تشغلها عن توجيه أبنائها ملذات الحياة، ربما أنها لم تجد العناية والتوجيه من أمهاتها من قبل. إن دور الأم هو الأساس في كل المجتمعات المتطورة والمتخلفة.. وليس هناك فرق بين أم مثقفة وأم جاهلة. كل واحدة منهما لها دور مميز في توجيه الطفل. ولو حاولنا أن نستقصي الأسباب التي أدت إلى الانهيار التربوي في مجتمعاتنا الحديثة.. لوجدنا أن الأم هي المسئولة عن ذلك فهناك أمهات تؤمن بالبدع والخرافات، والتقاليد البالية التي تحاول أن تفرضها على أولادهن الذين يعيشون عالماً مختلفاً عن عالمها.. ومن هذه النقطة تبدأ المشكلة وتتسع فينسلخ الطفل عن بيئته وأمه، وينساب في طريق مؤدية لا نحرافه أو لتماسكه، ومهما حاول الطفل أن ينسلخ عن بيئته فلن يستطيع ذلك، لأنه نشأ فيها، وتعلم بدايات إدراكه منها.. فلذلك كان للأم الدور المهم في توجيه الطفل، فهي تورثه وتكسبه تربية وتوجيهاً سيئاً أو جيداً.
|
|