أطفالنا وثقافة العنف
أطفالنا وثقافة العنف
من المؤكد أن العنف لا يعني الشجاعة, ولا يرتبط دائماً بالحق, فهو في انقطاعه عن كل تبرير منطقي أو أخلاقي يمثل انحرافاً نفسياً واجتماعياً, ومع ذلك نجده محدقاً بأطفالنا من كل صوب. ماذا نفعل? انتبهت عندما قال طفلها لأبيه: (طاخ... طاخ... عيَّط
يا بابا... عيَّط أنا ضربتك بالمثلث!)... وطبعا كان يقصد (بالمسدس!).. لم تضحك...
ولم تبتسم, فقد تغير طفلها حقاً, بعد أن كان يمتنع عن اللعب مع ابن خالته لأنه يوجه
إليه عين المسدس البلاستيك اللعبة!, وبعد أن كان يخشى فرقعة الرصاصة البلاستيك
أوحتى صوتها ويفر من هذا اللعب الخشن, صار هو الذي يمارسه ولو لم يكن لديه
(المثلث!)... أقصد المسدس! قالت: لا... هناك ألعاب مثيرة في (المول), شاشات كمبيوتر ولعبات مزوّدة بمدفع رشاش أو مسدس حيث يضغط اللاعب بقدميه على أزرار معينة ويمسك بالرشاش ويحارب من هم على الشاشة (وبعيد عنك)!... تدور معارك القتل فتتناثر الأشلاء الكرتون أمامه على الشاشة ويسمع صوت الطلقات وتناثر الزجاج وتحطم الأشياء فيبتهج! وإذا أراد حماية نفسه لأن من هم على الشاشة يضربونه أيضاً يضغط زراراً فتنسدل ستارة واقية . أصابتني الدهشة! فاستطردت تقول: وكل لعبة بثلاثة أرواح!... يجتهد اللاعب في إصابتها فإذا تم له قتل ما ظهر له على شاشة الكمبيوتر يتحوّل المقتولون إلى حبات من اللؤلؤ والألماظ!!..., وكل لعبة بسعر... فينتقل من لعبات الأكشن (action) إلى لعبة الأزمة وكلها أيضاً ضرب (Crises Zone) وحبب إليه من دنياه لعبة حروب الرجال المسلحين (Gun men wars) فهي التي تستغرق وقته كله في (المول)! - وهي أكثر الألعاب عنفاً - استمعت إليها وهي تشتكي مصاريف هذه اللعبات, وما تحفل به من عنف وقسوة فأشفقت عليها ولكنني بعد ذلك اكتشفت بعد زيارتي لهذا (المول) أن أطفالاً وكباراً يقبلون بشراهة على هذه اللعب العنيفة ويستمتعون بها!..., بل ويقبلون على مشاهدة أفلام المغامرات العنيفة سواء في التلفزيون أو عن طريق الفيديو, فهل اعتاد أطفالنا مشاهد العنف? هل وصل ذلك إلى درجة الاستمتاع بها?! سألت د. قدري حفني أستاذ علم النفس المتفرغ في معهد الدراسات العليا للطفولة - جامعة عين شمس... كيف نواجه ثقافة العنف التي تحيط بأطفالنا? وكيف نتعامل معهم ومعها?! ولدهشتي فإن د. قدري حفني قال لي: نحن الذين نشّأنا أطفالنا على أن يكون العنف هو الاختيار الأول بدلاً من أن يكون الاختيار الأخير! نحن وليس سوانا من علم الأطفال العنف!.... بينما الاختيارات الأخرى مدعاة للخجل وعلى سبيل المثال: عندما يأتي الطفل من المدرسة شاكياً: ضربني زميلي في الفصل... ستكون إجابة الأبوين أو أحدهما: (ولماذا لم تضربه كما ضربك?!), أو (اضربه... خذ حقك بيديك)!... وهذا الأسلوب هو الذي يكرّس للعنف كاختيار أول بل كاختيار وحيد!... وتأملي من حولك.. لقد أصبحت القوة هي القيمة الأكثر احتراماً في المجتمع, بل إن الشخصية النموذجية - في نظر الكثيرين - هي الشخصية مرهوبة الجانب, ومَن يشتكي هو الجبان الضعيف! عاقبه إذا مارس العنف ويستطرد د. قدري قائلاً: لابد أن يدرك الطفل أنه إذا وقع عليه أي صورة من صور العنف في المدرسة كأن ضربه زميله في الفصل مثلاً... أن يشتكي للمدرس أو للمعلمة وأن نفهمه أن الشكوى ليست ضعفاً, أما إذا مارس الطفل نفسه عنفاً ضد الآخرين فلابد أن نعاقبه!... ولكن من منا يعاقب طفله إذا أخطأ في حق الآخرين? قلت له: إن ردود فعل الأبوين تأتي على نحو لا يُصدّق في هذه المسائل بالذات, فربما يثني أحد الأبوين أو كلاهما على هذا الفعل! أو يتجاهل ما قيل له بالمرة فالمهم أن الطفل قوي قادر على الدفاع عن نفسه والذود عن أشيائه بل ربما تضحك الأم وهي تقول بفخر (بيضرب العيال في الحضانة وبيخافوا منه!)... فينتشي الطفل ويفرد عضلاته ويستقر في ذهنه أن هذه هي الصورة المثالية للتعامل! فقال د. قدري: ألم أقل لك إننا نربي العنف, بل نحن نريده ولا نألو جهدا في التكريس له, لو كنا بالفعل نريد أن نقاومه لاستطعنا ولا يحتاج ذلك إلى وصفة دكتور! فالأم تشرح لابنتها على سبيل المثال أمورا حسّاسة مثل ما يتعلق بالدورة الشهرية وغيرها, تعلمها بالفطرة دون أن تطلب مشورة متخصص, ولكننا عند ثقافة العنف لا نأخذ الأمور بجدية مع أن صور العنف كثيرة من حولنا, فالعنف بكل صوره له جذر واحد هو رفض الآخر وفرض إرادتي عليه بالقوة, العنف يعني إيذاء الآخر والاستمتاع بذلك سواء بالكلمة أو بالضرب, فالطفل الذي يغيظ آخر حتى يبكيه يمارس عنفاً, علينا أن نبدأ بعالم الكبار أولا. قلت: ولكن ماذا نفعل, هل نحجب عن الطفل أفلام العنف وهل نستطيع? هل نحجبه عن مسلسلات التلفزيون العنيفة ولكن هل نستطيع?! فأجاب: لا... بالعكس... المطلوب أن يشاهد هذه الأفلام والمسلسلات, ولكن عليه أن يرفضها وينزعج منها تماماً مثل سؤال يقول: (هل المفروض ألا يعرف أطفالنا الشتائم أو السباب?... فإذا سمعها في الشارع يسأل قائلها: ما معناها?! سيضحك عليه الآخرون!, المطلوب أن يعرف معنى هذه الشتائم ولكن لا يقولها ويعرف أن هذه الشتائم عيب! واستطرد د. قدري قائلاً: على فكرة ليست الأفلام السينمائية ولا المسلسلات التلفزيونية هي السبب الوحيد في نشر ثقافة العنف... إننا نرى مشاهد العنف في كل مكان, لقد سألني طفل نابه في إحدى الندوات قائلاً: أتريدون القضاء على العنف يا جدو?!, فقلت له: نعم, فقال: كيف ونحن نشاهده في نشرات الأخبار!, فهل نمنع أيضاً نشرات الأخبار!! بالطبع لا.... إذن العالم الواقعي وعالم الكبار يمتلئ بالعنف, فعلينا أن نصارح أنفسنا هل نحن نكره العنف فعلاً? إذا كنا نكرهه فسنعرف ماذا سنفعل بالضبط, نريد أن نكون صرحاء مع أنفسنا! سألته: هل عقاب الطفل يصبح نوعاً من العنف أيضاً?! العقاب نظرة! فكر د. قدري قبل أن يقول: لو أنا ربيت الطفل على أن العقاب مجرد نظرة مؤنبة, فإنه سيصبح عقاباً كافياً!, لقد جاءني أب ومعه طفله وقال لي: إنني أضربه بالحزام! منذ أن كان عمره عامين!.. والآن لا يمثل له هذا العقاب أي نوع من الردع!, فقلت له: لقد عوّدته على العقاب البدني فلم يعد يؤثر فيه!, علينا أن نكون في غاية الحساسية في معاملة الطفل, فإذا أخطأ نبيّن له أننا في حال ضيق واستياء من تصرّفاته الخاطئة, وأن نعطي لذلك وقتاً, لا أن نظهر استياءنا, وبعد لحظات ندلله ونكافئه ونعطيه الشيكولاتة! لن يفهم أنه أخطأ أبداً. قلت له: وهل مجرد إظهار الاستياء سيغير من موقف الطفل?! قال: بالطبع لأن الطفل بالذات يحب التواصل مع الآخرين وخاصة مع والديه. سألته: وهل ترى أننا نعلّم أطفالنا قبول الآخر بمعنى احترام ذوق الغير واختياراتهم?! أجاب الدكتور قدري: لو كان هذا يحدث ما تولد العنف أبداً... لقد غاب نموذج الإنسان المتسامح.. فلا أحد الآن يتحدث عن غاندي!, نحن الكبار نحترم وننبهر بالنموذج الأقوى, إن الصغار يدفعون ثمن تناقضاتنا نحن, فإذا أردنا أن نصلح أخطاءنا فينبغي أن نبدأ بأنفسنا.. كيف يعامل بعضنا بعضا?! ما الأفلام التي نراها والمسلسلات التي نقبل عليها?! الطفل يتعلم من أبويه أولاً ثم من أصحابه الذين يختارهم بنفسه وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية. تنشئة الطفل مسئولية الأبوين أولاً, ومسئولية المدرسة والجامع والكنيسة, فإذا أردنا أن نتعامل بجدّية مع ثقافة العنف سنستطيع إذا كنا نريد ذلك حقاً! حتى أمنيات الأطفال تدل على نوع التربية التي نشأوا عليها) كما يقول د. قدري, سألته: كيف?! قال: نحن نربي أطفالنا على أن الشخصية المحترمة هي الشخصية مرهوبة الجانب, ولذا عندما تسألين طفلاً الآن: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل يختار شخصية عنيفة, ونادراً ما يقول أريد أن أصبح محامياًً أو طبيباً, لقد أصبح المستقبل المضيء قريناً بالنفوذ والسطوة, هذا هو ما حدث في السنوات الخمسين الأخيرة! قلت للدكتور قدري: وهل من النادر أيضاً أن يقول الطفل: أريد أن أصبح رسّاماً أو موسيقياً? فقال: أعتقد ذلك! ويرى د. قدري أنه ينبغي علينا ألا نترك الطفل وحده أمام التلفزيون, بل علينا أن نشاهد مع أطفالنا ما يتتبعونه من أفلام ومسلسلات على شاشة التلفزيون وأن نتناول ذلك بالشرح والتعليق حتى لا تتسلل ثقافة العنف إلى أطفالنا. وعندما سألتني صديقتي: ماذا تفعل في إقبال طفلها على الألعاب العنيفة في (المول)?, قلت لها: هناك صالات للألعاب الرياضية في نفس هذا السوق التجاري, ألم تريها?! فقالت: لا..., قلت: عليك بها..! ودعتها وتمنيت أن توفق في مسعاها
|