إلى أن نلتقي نائف محمد حيدرة

  إلى أن نلتقي

إعادة بيت الحكمة

كانت الترجمة, وستكون قناة للاتصال والتواصل, والنقل والتناقل, وجسرا يصل الثقافات الإنسانية بعضها بعضا, وأداة فاعلة بالغة الأثر في التبادل الحضاري. وحاجتنا إلى الترجمة هي حاجتنا إلى مواكبة ثقافتنا وتعليمنا وإبداعنا لما يعتمل من حولنا, حاجتنا إلى إغناء لغتنا العربية ومقدرتها على التعاطي مع مستجدات العصر ومعطياته المتجددة, أي حاجتنا إلى النهضة, والوقوف على أقدامنا من جديد.

والإحصاءات في حال الترجمة العربية اليوم لا تبشر بخير, بل هي باعث على الخجل, ومؤشر لحالة من الضعف والهزال والتراخي مقارنة ببعض الدول الأخرى التي نفوقها مساحة وسكانا وموارد, على الرغم من أننا نعيش في عصر الاتصالات والمعلومات المتدفقة عبر الوسائط المتعددة, فلا تشرق على أرضنا شمس نهار, حتى تطالعنا فيها وسائط المعلومات بأسماء مخترعات جديدة وفتوحات علمية متلاحقة, يقف أمامها العقل العربي مشدوها, مستهلكا سلبيا لها, مما يفاقم من تبعيتنا التكنولوجية والإبداعية وحتى الفكرية.

فواقع خارطة فكرنا العربي, كما يصفها د.نبيل علي, هو (سلسلة من الجزر المنعزلة, خالية من الجسور, مليئة بالفجوات والمناطق المجهولة... ولنأخذ مثالا لهذا التشتت - وما أكثر الأمثلة - حالة التشرذم المعرفي الشديد التي يعيشها فكرنا اللغوي الراهن, لما تمثله في انعدام الحوار بين اللغويين والمعجميين والتربويين والإعلاميين وعلماء النفس والكمبيوتر...).

ولنا في دورة تفعيل المعرفة داخل منظومة مجتمعنا العربي سبيل إلى تخطي هذا الشتات والتشتت من خلال اغتناء المعرفة واستيعابها, ثم توظيفها في حل مشكلات واقعنا. ولا يتيسر لنا اقتناء المعرفة إلا بالانفتاح على حضارة وثقافة الآخر عبر الترجمة, لأن الترجمة لا تعني الانتقال بنص ما من لغة إلى أخرى وحسب, بل الانتقال به من كون ثقافي إلى آخر, مما يحقق لنا هوية منفتحة على الآخر, غير منغمسة فيه, انطلاقا من الخصوصية الغنية القائمة على التثاقف المتوازن. ونؤكد مرة أخرى على مدى عظمة الدور الذي تلعبه الترجمة كقناة للانفتاح على الآخر واستلهام ما لديه من تراث إنساني وعظمة, والاستزادة عليه. ولن يتأتى هذا إلا بتفعيل دور الترجمة وتنسيق جهود المشتغلين بها, وضمان التواصل المستمر والدائم بينهم, وتخطي طابع العفوية والتشتت.

وقد يتسنى لنا ذلك متى استفدنا من ثمرات عصر الاتصالات والمعلومات, والتي تأتي الشبكة العالمية (الإنترنت) كفلتة من فلتات هذا العصر. والإنترنت, كمساحة ثقافية يمكن أن تتسع للجميع, يصفها د.نبيل علي بأنها (نافذة الإنسان على عالمه الصاخب المضطرب, ووسيطه الجديد الذي يرى من خلاله واقعه ويتعامل معه, ويمارس فيه عن بعد, معظم أنشطته العملية والذهنية. فعن بعد, يسترجع المعلومات وينشرها, يشتري ويبيع, يعلم ويتعلم, يتفاوض ويتسامر, يعقد الصفقات ويقيم الصداقات, يفض المنازعات ويحشد تحالفات الوفاق والعداء. ومن خلال الشبكة أيضا ينقل حضوره دون ترحال, ليشارك الآخرين أحداثهم وأعمالهم متحررا من قيود المكان, ومطالب الوجود السافر المعلن).

كل هذه الإمكانات التي توفرها الإنترنت يمكن توظيف بعضها في إنشاء (بيت حكمة) افتراضي جديد, بعد توحيد وتنسيق جهود جميع المشتغلين العرب في مجال الترجمة والتعريب, أفرادا ونقابات, معاهد عليا ومراكز علمية وأكاديمية معنية بالترجمة والتعريب, من خلال إنشاء أقوى موقع شبكي عربي موحد, يهتم بالترجمة ودراسات الترجمة - وليكن هذا الموقع عبارة عن مجلة إلكترونية فصلية, تنشر فيها المقالات والدراسات وملخصات لأطروحات علمية متخصصة بالترجمة, ومعرض وسوق للكتب التي تتناول دراسات الترجمة, ومنتدى لمؤتمرات الترجمة والتعريب, وصحيفة ترصد أخبار مشهد الترجمة في العالم العربي, ورابطة لتوثيق الاتصالات بين المترجمين أفرادا ومؤسسات.

إن الدعوة لإعادة إنشاء بيت الحكمة موجهة لكل عربي مهتم بالترجمة والتعريب في داخل العالم العربي وخارجه, خصوصا المؤسسات المشتغلة بالترجمة والتعريب مثل : المؤسسة العربية للترجمة (بيروت), ومكتب تنسيق التعريب (الرباط), والمركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية (الكويت), والمشروع القومي للترجمة (مصر), ومركز الملك فهد العالمي للترجمة (السعودية), والجمعية المصرية لتعريب العلوم, ومركز الترجمة بجامعة الملك سعود, وغيرها الكثير من المؤسسات العاملة في مجال الترجمة والتعريب في عالمنا العربي.

 

نائف محمد حيدرة