بحثًا عن العنقاء! فكتور الكِك

بحثًا عن العنقاء!

يتحدث الكاتب عن المد الروحي الذي يقوم فينا مقابل العقل المادي الذي يحاول اختراق مدارات الكواكب بمركباته الفضائية.

من سِدرة المنتهى جاوزت أَفلاكا قرنًا بقرن طويتُ الدَهر ذيَّاكا
سوطُ الرحيم رماني في ذُرى فلكٍ لا تجتليه عيونُ الإنسِ لولاكا
قد حال ناسوتُنا لاهوتَ معرفةٍ بوركتَ من عضُدٍ يُمناك مرماكا
فالحالُ منِّي أَحوالٌ مجنَّحةٌ لا النطقُ يشرحُها أو حَدْسُ مولاكا


هذه ترجمة شعرية لي من الفارسية لمقطوعة من كتاب (المثنوي) الشهير لجلال الدين الرومي المعروف بمولانا, وأصلها بالفارسية هكذا:

من زسدره منتهى بكذشته ام صد هزاران ساله آن سو رفته ام
تازيانه برزدى اسمم بكشت كَبندي كرد وزكَردون بركَذشت
محرم ناسوت ما لاهوت باد آفرين بردست وبربازوت باد
حال من اكنون برون ازكَفتن است آنجه من كَويم نه احوال من است


هذه الأبيات وصف لحال جلال الدين, كبير شعراء التصوّف والعرفان في العالم, وقد بلغ مرحلة الكشف والوصول في المعرفة القصوى التي هي العرفان. وقد قلت في حال الرومي العُلويّة هذه من قصيدة لي فيه:

عرفانُ الله بكَ انكشفا ونقابُ الحضرةِ قد نُقِبا


ماذا تعني هذه الحالُ العجيبة بالنسبة إلى الرومي البلخي ورصفائه من العارفين? وبالنسبة إلى بعضنا من السالكين, فيما نحاول اجتياز أودية السلوك السبعة, ومحجَتنا جبل القاف بحثًا عن العنقاء? أي الحقيقة القصوى.

إنها حالة انعدام المكان والزمان وغيبة العارف في اللامكان واللازمان! فالذي يقضي عمره - من خلال فكره الخيّر وقوله الخيّر - في ترويض النفس وصقل مرآة القلب, لا بدّ له من أن ينعكس في مرآته السر الأعظم. هي مسيرة الإنسان الكامل أو الساعي إلى الكمال بنعمة من ربه, ولا يؤتاها إلاّ من سعى إليها, إذ طريق الكمال ذات اتجاهين: صعود وهبوط, معراج وتنزيل.

سدرة المنتهى

إنّ الذي يؤتى تجاوز أقطار السماوات والأرض يعاين ما لم تره عين ويسمع ما لم تسمعه أذن ويدرك ما لم يخطر ببال بشر! هي الحواسّ الباطنةُ تستبدل بالحواسّ الظاهرة: دخول في عالم اللامكان.

قد يقول المتشبّثون بسلطان العقل وموضوعية العلم, وأدعياء الواقعية إن هذا القول كلام بكلام وإن القائلين باختراق المكان إلى اللامكان وطيّ الزمان في اللازمان هم مهلوسون, مجذوبون! نعم, هم مجاذيب, لكنهم مجاذيب الحضرة لا يبلغون هذا المقام ولا تعتريهم هذه الحال إلاّ على برزخ من الجهاد الموصول الأنفاس, جهادًا للنفس الأمّارة بالسوء, ثم تحريرًا لها من عقال العلائق الدنيويّة. عندئذ يتحررون من ربقة المادة والحاسّة إلى قدرة الروح والحواسّ الباطنة غير المقيّدة بمعطيي الزمان والمكان.

قال ابن الفارض في تائيته الكبرى:

... تحقّقتُ أنّا في الحقيقة واحدٌ وأثبتَ صحوُ الجمع محوَ التشتّتِ
فكلّي لسانٌ ناظرٌ, مسمعٌ, يدٌ لنطقٍ, وإدراكٍ, وسمعٍ, وبطشةِ,
فعينيَ ناجت, واللسانُ مشاهدٌ, وينطق منّي السمعُ, واليدُ أصغتِ


يشرح مولانا جلال الدين هذه الحال في شعره الفارسيّ بالمثنويّ المعنويّ بما نصوغه في العربيّة هكذا:

(إذا رفع القيدُ عن إحدى الحواسّ تبدّلت وظائف الحواسّ الأخرى مجتمعة, فعندما تجوز الأذنُ حدَّ النّفاذ تصبح عينًا. ما أكثر الكلام الذي أُلقي في قلب موسى فأدّى إلى اختلاط الرؤية بالكلام!).

إنّ حالة (الخلط ما بين الرؤية والكلام) و(الغيبة عن الوعي ثم العودة إليه), و(اختراق ما بين الأزل إلى الأبد) هي حالة تتجاوز حالات الحياة المحسوسة والماديّة, أي هي حالة ما وراء الأحوال ويمكن تسميتها بلغة الفلسفة (التجرُّد) وبلغة العرفان (الاستغراق) وما أشبه من مصطلح.

العقول وأصحاب القلوب

عند هذا الحدّ أتساءَل: هل الإنسان حواسّ وإدراك حسي وعقل مجرّد وحسب? أليس للقلب, كما يقول العارفون وأصحاب القلوب, أو لقوة وطاقة أخرى في الإنسان, دور في مساعدته على تجاوز حياته العاديّة إلى أحوال لا يجد لها تفسيرًا أحيانًا?

أليس يقوم فينا - في مقابل العقل المادي الذي يحاول اختراق مدارات الكواكب بمركباته الفضائية التي ينبغي لها آلاف السنين الضوئية لتبلغ بعضها - مدّ روحيّ لا تقيده الحواسّ ولا المادة, ولا يصدمه مكان, ولا يحده زمان? ألسنا نشعر بذلك في أعماقنا, فتحضرنا أحوال غريبة أو نستحضرها أحيانًا?

قال صاحب الفتوحات:

خُصِصْتُ بعلمٍ لم يُخصّ بمثلهِ سواي من الرحمنِ والعرشِ والكرسي!


وفي الأحاديث النبوية إنّ لله عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء, يغبطهم النبيّون والشهداء لقربهم ومكانهم من الله .

إنّ هذا القرب من الله لا يتحقق إلا بالإيمان الراسخ, فهو, وحده, يتحديّ سنّة الأشياء وسلسلة الأسباب والنتائج. أليس هذا معنى قول السيد المسيح في إنجيل متّى (لو كان لكم من الإيمان قدر حبة خردل لقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هنالك, فينتقل ولما استحال عليكم أي شيء)?.

وهذا الإيمان الراسخ الذي يتجاوز الإقرار بالكلام هو أعلى درجات القدرة, والفرق عظيم بين التصديق والإيمان, كما جاء في القرآن الكريم: قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم .

فإذا عدنا إلى الإنسان في بناء كيانه العادي أفادنا العلم بأنه لم يطوِّر, بعد, جميع قدراته, ولا هو توصل إلى استعمالها كلها, فهو لا يستخدم سوى قسم من خلايا دماغه, وهو نزر يسير. فكيف نتصور وضعه, بعد تطور طاقاته? أليس يمكن أن يغدو, يومًا, قادرًا على ما يستطيع إليه سبيلاً الآن? أليست البشرية تستطيع, اليوم, ما لم تستطعه في الماضي, عبر دهور مديدة?

لو بعث فينا من الماضي من يعاين, في أيامنا, ما صار, بالنسبة إلى حياتنا اليومية, عاديًا مبتذلاً, مثل الهاتف والناسوخ والهاتف الخلوي والبريد الإلكتروني وعجائب الحاسوب - الكمبيوتر والسيارات والطائرات وأجهزة التحكم من بعيد والمركبات الفضائية وسائر مبتكرات الإنسان... لاعتبر كل هذا من المعجزات.

فلم لا نتبين في قدرات أشخاص تفوّقوا روحيًا - بتحررهم من معظم ما هو مادّّي, اصطلاحًا, أي من علائق الحياة التي تعطل الذهن وطيران الروح وتصفية النفس, قبل ذلك, بالرياضات الروحية المستمرة وتحويل أعمالهم اليومية إلى أعمال منفوحة بروح العبادة والنزعة الإنسانية - وصفت نفوسهم حتى شفَّت عما لا يستطيع معاينته إلا أصحاب القلوب أو أهل القلوب - لم لا نتبين فيها إمكانات وكشوفًا روحية لا تتيسّر لسواهم من الملايين الذين تسيّرهم معيشتهم اليومية غير متشوفين إلى أبعد من ذلك?

العودة إلى الصفاء

لقد عاد السيد المسيح في تعاليمه مرارًا وتكرارًا إلى التشديد على ضرورة التحلي بصفات الطفولة في الإنسان, ومعنى ذلك العودة إلى الصفاء الأول في الإنسان قبل أن تستغرقه الحياة الدنيا. فعندما سأله تلاميذه: (من الأعظم في ملكوت السماوات?).

(فدعا يسوع صبيًا, وأقامه في وسطهم, وقال: الحق أقول لكم: لن تدخلوا ملكوت السماوات ما لم تعودوا وتصيروا كالصبية).

(خير لمن أزَلَّ أحدَ هؤلاء الصغار, المؤمنين بي, أن يطوِّق عنقه برحى حمار, ويزجّ به في لجّ البحر).

(إن تُزلّك يدك أو رجلك, فاقطعنها, واقذف بها عنك! لدخولك الحياة, وأنت أقطع أو أعرج, خير لك من أن تُلقى في النار الأبدية ولك يدان أو رجلان).

إنّ السيد المسيح في هذه الآيات وفي سواها يشدد على ضرورة عودة الإنسان الذي أزلّته الحياة, أي أسقطته في الزلاّت, إلى صفاء الطفولة وطهارتها, قلبًا نقيًا, كي تنعكس فيه بعد صقله, الأنوار الشعشعانية, كما يقول الرومي والعطار وابن عربي وسواهم من بعده. وقد استلهم هؤلاء وسواهم من العارفين الكبار تعاليم التوراة والإنجيل والقرآن ولم يفرّقوا بين الأديان, قال ابن عربي:

وقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ فمرعيً لغزلانٍ وديرًا لرهبانِ
ومسجدَ أوثانٍ وكعبة طائفٍ وألواحَ توراةٍ ومصحفَ قرآنِ
أدين بدينِ الحبّ أنّى توجهت ركائبُه فالحب ديني وإيماني


ثم جاء سعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي وروزبهان بقلي الشيرازي وقافلة من العارفين, فأعلوا من شأن المسيح واقتبسوا من أنواره كما من شأن نبيهم وفيوضه,وهكذا فعل من سبقهم في تاريخ الأدب الفارسي. قال حافظ الشيرازي:

هم جا خانه عشق است جه مسجدجه كنشت


أي بشعر عربيّ من ترجمتي:

كلّ ناحٍ صار للحسب مزارا مسجد المسلم أو دير النصارى


وما أكثر ما استلهم سواه المسيح وأنفاسه المحيية سيرًا على سنة سعدي وحافظ. قال الشيخ سعدي في حبيبة خاطبها بصيغة المذكر لأنه كان يصف قدّها الفارع ما ترجمته بالعربية:

قَدُّ سَروٍ وجهةَ الروضِ جرى خَطوهُ محضُ انسيابٍ, ما جرى
مسَّ سطحَ الأرضِ رفقًا خالهُ ميِّت القبرِ مسيحًا فجرى!


هذه الحياة الروحية بمعانيها الإنسانية غير المنسلخة عن معاناة الناس بل المشاركة فيها بقوة هي التي جذبتني إلى بلاد ألف ليلة وليلة, إلى أدب الفارسية الذي يعلي شأن الإنسان ويجعل منه محور الكون, بعد محطات من السير والسلوك كانت بالنسبة إليّ لو أخذت بظاهرها لا بباطنها لحسبتها من صنع القدر, منذ طفولتي, مرورًا بصباي وشبابي, عبورًا - بعد الزاد الكبير - إلى الكهولة والشيخوخة.

 

فكتور الكِك