التعددية والطاقة الاجتماعية

التعددية والطاقة الاجتماعية

«أحيانًا باسم التعددية نخوض في صراعات ومساجلات ومهاترات، يضيع معها الخط الرئيس الذي يجمع شتات الأمة».

كلمة التعددية لها رنين ساحر، ومن ثم يعتري مستعمليها أحيانًا قدر من التردد في ارتباطها، في معظم الأحيان، بالمصالح العملية. وإلى جانب ذلك نرى مفهوم التعددية في بعض التأملات والدراسات المعاصرة نمطًا من تضخيم الفردية لا تجاوزها. إن الاستعمال النظري والأدبي الذي تغلب فيه المعابثة لوجه المعابثة لا يكفي في بيئات تحتاج إلى الصحو الجماعي القوي بأكثر مما تحتاج إلى ما يشبه توجهات بعد الحداثة التي تتباهى باللعب الذهني المتحرر من قيود كثيرة. بعبارة أخرى التعددية مصلحة وقوة لا مجرد متعة شخصية وبراعة ذهنية أدل على التحلل الجذاب أو الحفلات التنكرية أو اليأس من الانتماء، أو حالات الاسترخاء المصنوع طمعًا في العبث بفكرة المقاصد، أو طمعًا في تقليد التداعي الحر، أوطمعًا في إضفاء شرعية غريبة على فقد الحس الاجتماعي.

حساب المصلحة مسألة غاية في الأهمية، ولكن طغيان الأدبية لا يؤمن كثيرًا بفكرة الحساب. إن ما نسميه الإبداع الأدبي وجه واحد لا يغني عن وجوه أخرى مهمة يشارك فيها غير الأدباء بأكثر مما يشارك الأدباء، أو يشارك فيها العقليون والساسة والباحثون في العلامات. إن كثيرًا من النشاط الذي يقوم على أكثر من مستوى في الحياة العملية أمر يحتاج إلى دراسة تنافس العمل الأدبي. الآن تتفاعل الجماعات والعلاقات الطائفية أكثر مما كان في وقت مضى، التعددية معركة جديدة تتفتح فيها اتجاهات متنوعة، إذا لم نسبح في هذا البحر الهائج خسرنا الكثير. البحر الهائج في كثير من العلاقات غير النهر أو الجدول، الذي ينساب في رقة وهدوء وبطء، ويحتاج إلى أقل القليل من التدخل. إننا بعبارة أخرى نستخدم فكرة الطبيعة أكثر مما نستخدم فكرة الثقافة، من حيث هي سطوة بشرية.

لابد لنا من احترام التعددية التداخلية حتى نعيش، ولابد لنا من ملاحظة العلاقة الاشتقاقية بين التداخل والتدخل، وملاحظة العلاقة بين التداخل والتخارج. إن تبادل هذه العلاقة يعني فيما يعني أننا ندرس نشاط اللغة ونشاط الخطاب على مبعدة من الأمثلة البسيطة، وأننا نلاحظ ما كان يسميه القدماء باسم المقامات، وأننا لسنا الآن عبيد أنظمة مغلقة يتشيع ضدها كثير من الباحثين.

الأنظمة مفتوحة أو متداخلة، ومن أجل العناية بهذا التفتح علينا أن نرتاب في أمر كثير من التقسيمات الحادة في بعض الظروف، وعلينا أن نلاحظ الفرق بين الواقع الذي يجري بعضه في بعض، والتجريدات التي تقوم على شيء من الحذف أو الاختصار، إننا نحتاج إلى مواقف متضاربة، وتجارب بحثية ثانية، تعترف بصعوبة إدارة الحياة والتفكير في أمرها، على مبعدة أحيانًا من فكرة الجنس النقي أو التنوير الصافي أو النزعة الإنسانية، التي لا مماراة فيها، أو التمييز التقليدي الحاسم بين الصواب والخطأ. التداخل حق، والتـخلي عن هذا التداخل حق كذلك.

التداخل هل هو ضد الهوية؟

التعددية شديدة الارتباط بتجربة الأزمة وإثارة المشكلات في وجه التطور الذاتي، وإفساح المجال لتكوينات هشة تنافس فيها الشذرات الكليات، وتنافس الأقليات الأكثرية، هنا يصعب الأخذ بالمعنى الساذج للتوثيق، ويكثر الأخذ بفكرة الفراغات والمراوغة والانقطاعات والتشويش أيضًا. يتسرب الأدب والاقتصاد والسياسة بعضها في بعض، هنا يظهر نمط من اختفاء القيادة. وربما قيل أيضًا إن التداخل نظرية جديدة لا تثق كثيرًا في الارتكاز الحاد على فكرة الهوية والنظام المستقل. هذه نظرية ترجئ من حيث المبدأ حسم المتناقضات, وتميل إلى الجمع بين ما يقال له الفاعلية والرقة والجمع بين الجمالي واللاجمالي.

تحل فلسفة التداخل أو التعدد محل الفلسفة العملية الصريحة أحيانًا، وتحل محل الفلسفة المثالية والفلسفة المادية كلتيهما، وتحيل نوعًا جديدًا من الإشكالية، لكن استخدام التداخل في موضع الاتجاه المحدد غير مأمون.

المهم أن فلسفة التداخل قللت من شأن نظريات كثيرة إنسانية تنويرية، وأصبحت معلم سطوة ومتعة اجتماعية، لا متعة فردية فقط على نحو ما يشيع في كتابات عربية معاصرة، أما علاقة التداخل بالتطورات العلمية فأمر آخر يحتاج إلى بحث مفرد يقوم به قادر عليه، لا أدري إن كانت الثقافة العربية المعاصرة تتقن فن التعدد أو تستطيعه، ولا أدري إن كنا ارتكبنا بعض الصعوبات من جراء إهمال هذا الفن أو الريب في أمره، لا أدري إن كانت معاملاتنا مع العالم قد أصابها ما يصيب غير الحاذق في اتباع منهج صعب لكنه يمارس الآن في الإعلام والإذاعة والدراسات الاجتماعية والنفسية، وما تعرفه أنت ربما يكون أكثر مما أعرفه. التداخل ليس أمرًا عشوائيًا، ولا نزوة فردية ولا جمعًا لأقوال متناثرة من هنا وهناك. التداخل هو أن تكوّن النسق، وأن تسمح في الوقت نفسه بتنازع الأنساق وتسرب بعضها في بعض. سيطرتك أنت على الجميع دون أن تتكبد حذفًا كثيرًا.

يخيل إليّ أننا نمر بأزمة حادة، لا ظاهرة صحية، أزمة تتكون من صراعات ومساجلات ومهاترات يكاد يضيع معها خط رئيسي يجمع شتات الأمة، ويضم قواها الاجتماعية والسياسية الحية، ربما شهدت ما يقرب من الحرب الأهلية الفكرية، التي تعمل فيها عمليات الانغلاق المذهبي، وتتآكل المساحات الوسيطة، التي كانت تسمح بالتأليف بين القلوب والأفكار والعمل السياسي الفاعل. مثل هذه الأزمة يباركها بعض الناس باسم التعددية.

ثم أزمة ثقافية ترتكب باسم التعددية، أو سوء فهم التعددية على الأرجح. نحن جميعًا نتعرض لكثير من العموميات والمقولات المجردة. التداخل أمر سيئ إذا ترتب عليه أو صحبه عدم الاقتراب من الظروف الواقعية الملموسة، إذا صحبه تجاهل رد كل فكرة إلى عناصرها العملية في ظروف الواقع المعقّد. إن التداخل في نطاق الحديث المعاصر يتعمد تجاهل هذه الظروف الواقعية، أو القفز عليها أحيانًا. الحياة المعاصرة تحتاج إلى السير في أكثر من اتجاه.

يجب أن يوضع لكل شيء حساب دقيق، العموميات والمقولات المجردة تيسر التعددية، ولكن التعددية أنماط بعضها خير من بعض. العموميات والمقولات المجردة ينازعها ويقومها النظر إلى المحتوى التطبيقي لتلك المقولات، لكن بعض المتحدثين في التعددية، يريدون تحويل كل شيء إلى ساحة قتالية، بعبارة أخرى إن نشاط التعددية يمكن أن يكون فرصة لمزيد من الالتباس والضباب الفكري والمرح بلا حساب، التعددية أنماط بعضها خطير إذا أهملنا فتح الحدود بين التيارات المختلفة المتصارعة. التعددية إذن يمكن أن يرتكب معها حذف وتحكم كثير، وإغراق في التعامل مع النصوص لا الوقائع، هذه النصوص تبيح كثرة التعامل مع التداخلات، وتغري بالخلط بين العامل والمؤجل، بين الأساسي والثانوي.

بعبارة أخرى، إن أمر التعدد يقصد به أحيانًا إتاحة الفرصة لغلبة النصوص على الوقائع، والنصوص في هذه الحال حالات افتراضية تستبعد منها الوقائع الدقيقة وتضاريسها، الحياة المعاصرة يراد لها أن تكون ضبابًا أحيانًا، الضباب ينفع أحيانًا، ويضر أحيانًا أخرى. لقد غلبت النزعة النصيّة التداخلية أمر الاهتمام بتضاريس الواقع الخاص ببلادنا، كثر الاحتكام إلى النصوص، وقل الاحتكام إلى الواقع. أريد للنصوص أن تزحزح فكرة الواقع. أريد تغليب الضباب، وتسميته باسم التداخل، وقد يتحول التداخل الذي يصعب الانتفاع به إلى انقسامات داخلية حادة تدل بوضوح على الفرقة الفكرية، التي تعتمد - مع الأسف - على العزلة وضعف الممارسة الاجتماعية.

مواجهة بين مدرستين

العالم المتقدم حريص على أن يوهمنا، بأساليب مختلفة، أن الأمر أمر نصوص وتداخلات وأفكار ضبابية أو التباس، أو تجاوز الحدود، أو إدخال كل شيء في كل شيء، هنا تتراجع الممارسة الاجتماعية الدقيقة. التداخلات إذن أريد بها إبعاد هذه الممارسة، كل شيء يرجع إلى الحرب، التي لا تنقطع بين أنصار المدرسة الاجتماعية وأنصار المدرسة النصية.

أنصار المدرسة النصية يريدون إقامة حياة لا يرى فيها كل شيء، ولا يتضح فيها كل شيء، ولا يراد فيها إلحاق شيء بشيء واضح دائمًا. أنصار التداخلات إذن ينظرون إلى الممارسة الاجتماعية نفسها نظرتهم إلى النصوص، لقد كانت مسألة النصوص - إذن - هي مسألة إغراق الواقع في أفكار. الأفكار هنا تزحزح الواقع، الواقع هنا يعتبر خليطًا من الأفكار. هذه معركة حامية ضد الرجوع إلى الممارسة الاجتماعية الخاصة بنا، ممارساتنا الاجتماعية تتعرض في ظل الانقسامات الفكرية لما يشبه التمييع، المشكلة هي إغراؤنا بأن نعيش على مبعدة عن وقائعنا، أن نعيش في زحام النصوص أو الأفكار، وإقامة ما يشبه حفلات عرض المهارات الذهنية على حساب تكوين طاقة اجتماعية كبيرة.

خلاصة هذا كله أن الثقافة المعاصرة الآن تعمل لحساب القوى الكبرى، التي تسمى السيطرة باسم آخر، وتغري الصفوة في العالم الثالث بممارسة نفوذ شخصي على حساب الشعوب، وتنتزع هذه الصفوة انتزاعًا من الواقع لكي تشارك في احتفالات جيدة تسمى النصوص والتعددية، التي تشجع - بين وقت وآخر على الأقل - اختلال الميزان السياسي. واختلال فكرة الميزان الفكري أيضًا، إن أمرًا يراد بفكرة الميزان.

إن التعددية، التي طال التغنّي بها أو الدعوة لما يراد منها أن تكون حوانيت فكرية فقط يديرها المولعون بلعبة التمايز والذاتية الفكرية، والتفتت السياسي، يراد من التعددية المعاصرة دفع الصراعات إلى مسارات جانبية، وإشاعة الريب في فكرة الطريق العام. يراد من التعددية بث شعور غريب ذكي - مع الأسف - بإفلاس الحياة العامة.

الوحدة والتعدد..تعارض أم تكامل؟

هناك إذن مظاهر التعددية وما يرافقها من مظاهر صحية، القائلون بالتعددية قد يحاربون الوحدة، والقائلون بالوحدة يحاربون التعددية، والتعدد الآن هو البضاعة المعروضة، التي تخفي هذا الانقسام. التعدد أحيانًا هو ترك مواجهة الانقسام، وإغراق الجميع في الجميع، وتحلية الرجوع إلى الموضات الفكرية والسياسية. يراد الآن من تيارات التعدد تزكية ضعف الحياة السياسية، وتزكية تآكل بنية المجتمع، والسخرية من فكرة المجتمع الحقيقي المتميز من تعددية النصوص وقوتها. هنا يمكن أن تحل الندوات والمناظرات والمقالات محل التلمس العملي التطبيقي. هنا «تخمة» التعددية، التي لا تقاوم الضجر.

ومهما يُقلْ في شأن التعددية، فلابد من التعرف على حاجتنا إلى الاتجاه المحدد الواحد، التنافس لا يعتمد كله على التعدد الحاد، فضلاً عن أن التعدد الناجح صعب المأتى، مثله في ذلك مثل الاتجاه الواحد. ينبغي أن نقدر الظروف، التي لا تختلط فيها فكرة النقاش بفكرة السلعة والبيع والشراء والربح والاستغلال والمصالح والنزاع العملي. الحياة المعاصرة معقدة متضاربة، ومهما يكن هذا التضارب، فالعالم النامي يستخدم ما يشبه الطلاء والتنميق والمسايرة والحذف بأكثر مما ينبغي.كل هذه العمليات ليست من باب النمو الحقيقي، فضلاً عن أن النمو خاصية علمية عملية أولاً. لكننا لا نسمي الأشياء بأسمائها، ولا نسمي العمل العلمي التكنولوجي حوارًا، ولا نسمي العزوف عن المشاركة المستمرة مناقشة.

خلق موضوعات للنقاش أمر أوسع من إرادة الصفوة، ومطالب الدولة القومية. إنه أمر يختلط بدوافع تحرك عالمًا واسعًا. نحن تروس في آلة كبيرة، هذه الآلة تشجع النقاش حول الدين، والعادات والتقاليد، والثقة بالنفس، حول كل شيء ما عدا الإسهام في التكنولوجيا المتطورة.

البدعة المنتشرة الآن أن نتحدث في كل شيء حتى نُرهق ونشل عزائمنا، وأن نستعين بعالم لا يحفل كثيرًا بالتقسيم والحواجز والتمييز الواضح، عالم يحول كل شيء إلى ما نسمّيه أدبًا، أصبحت النوايا الحسنة، والنزاهة الفائقة، ووضوح الفكر ومضاؤه مسائل نادرة وسط اختلاط الحرفة والرسالة، اختلاط المهنة والدعوة، اختلاط المهام الرسمية والواجب، اختلاط المنصب والمطلب الداخلي، اختلاط التكلفة والموهبة، اختلاط الوظيفة والإلزام الصادر عن القلب.

هناك قلاقل سياسية، واضطراب اجتماعي، وضيق اقتصادي، وأزمة خلقية، تحدث آثارها في مجال التفكير. نحن نعيش عصر الشك لا عصر التعاون الفكري الواضح. نحن نعيش عصر الزهد في الاهتمام بالمنتجات الفكرية الجديرة بالتقدير، وما نسمّيه الثقافة الحقيقية. بعبارة أخرى، يندر الكاتب النزيه الأمين الذي يشقى بالنزاع بينه وبين ضميره، أو يدرك أن له رسالة يبثها، ويضحي في سبيلها. البيئة المعاصرة بيئة مختلطة تعيش على حركة سردية، ولا تكترث بالبطء والتدقيق، توارت كلمة التدقيق، وظهرت المساومة والازدواج والحرفة والتبسيط. تحولنا وتحول كثيرون معنا إلى عبثية ومداجاة وأخذ الجميع يسلمون بعالم مختلط مصنوع من كثير من الإخفاء وقليل من الظهور. هذا طغيان السياسة تحمي السلطة المالكة، التي تخلت عن سذاجة التوكيد القديم، وكوّنت طبقات عازلة يمكن تسميتها المجاز الجديد، الذي لا يختال في التوكيد والتأصيل والمصدر والقاعدة، بل يحرص على شيء من التجهيل والمداجاة.

الجامعات العربية، ربما تحتاج إلى تغيير جلدها حتى تسهم إسهامًا أوضح في يقظتنا في قلب الحياة المعاصرة، وتأهيل عقولنا لشيء من السيطرة وإتقان قواعد اللعب، التي ينوء بها الأخذ بفكرة الجوهر المفرد والتعود عليه.

إن مسألة نقطة الأصل تحكمت في عقولنا، لا نشجع الحركة والتطور المستمر، يغلب علينا التأويل الواحد، والكيان المنعزل أو المغلق، والاعتقاد الجازم، والأخذ بما يشبه الامتثال. مغزى أننا نأخذ بما يشبه المنازعة، ونخلط بين المنازعة والتفهم، ونؤثر التقرير الجازم على العمل الحواري الحقيقي.

التعددية تلتبس أحيانًا بالعداوة أو القسوة. نحن نحيل بعض الأفكار إلى سلطات، التعدد رديف العنف ورديف الأخذ والعطاء. مبدأ السيادة ينافس، بعبارة أخرى مبدأ التعدد، التعدد عندنا يزكي الانفصال، ويزكي ما يشبه إقامة الحوانيت الصغيرة، والمشروعات الفردية، والجزيئات المبعثرة والخروق، والتشويه.

وَنَحْنُ أُنَاسٌ، لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا، لَنَا الصّدرُ، دُونَ العالَمينَ، أو القَبرُ
تَهُونُ عَلَيْنَا في المَعَالي نُفُوسُنَا، ومنْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلها المهرُ
أعزُّ بني الدنيا، وأعلى ذوي العلا، وَأكرَمُ مَن فَوقَ الترَابِ وَلا فَخْرُ


 

مصطفى ناصف