العمل التلفزيوني يفقد شرفه!

العمل التلفزيوني يفقد شرفه!

يتبوأ المسلسل التلفزيوني في حياتنا الراهنة مكانة جماهيرية كبيرة بل وخطيرة، إذا نظرنا إليها من زاوية التأثير في سلوكيات الناس وأفكارهم ونظرتهم للحياة، فإلى أي مدى كان تأثيره سلبًا وإيجابًا؟

ربما يكون المسلسل التلفزيوني قد أبطل مفعول المسلسل الروائي الذي أجاده كتّاب كثيرون من رجال الصحافة الأدباء، أمثال إحسان عبدالقدوس وفتحي غانم ويوسف السباعي وسعد مكاوي وعبدالرحمن الشرقاوي ومصطفى أمين وموسى صبري وصالح مرسي وصبري موسى وعبدالله الطوخي وعلاء الديب وغيرهم. كانوا مبدعين في الكتابة حلقة بحلقة من القلم إلى المطبعة في الحال، على ورق الدشت العملي المشجع على التدفق نتيجة لشعور الكاتب بتفاهة الورقة وبأنه يستطيع تمزيقها دون أن يشطب سطرًا واحدًا، ولكن المسلسل التلفزيوني لم يستطع، ولا أظنه سيستطيع في يوم من الأيام سحب الأرض من تحت أقدام الرواية المقروءة وإن كان باستطاعة المحترفين الأسطوات من كتابه نهب الأعمال الروائية وإجراء بعض تعديلات تنكرية تزيفها لتبعدها - قانونيًا - عن الأصل المنتهب. تلك إذن هي أخطر مخاطر العمل الدرامي التلفزيوني على الأدب الروائي خاصة في ظل اتحادات مهنية ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن أعضائها الكتاب الروائيين، وأي متابع يقظ يستطيع اكتشاف الأصول الروائية المنهوبة من أعمال أجنبية وعربية، وكل يوم يلجأ بعض الكتّاب إلى ساحات القضاء مطالبين بحقهم الأدبي والمادي من عصابات الاقتباس وسرقة الأفكار، ولكن إثبات ملكية العمل الروائي لايزال مسألة فنية معقدة، الأمر الذي قد يحبط الكثيرين من كتّاب الرواية مادامت جهودهم معرضة للسطــو بهــذه السهولة. فــيمـا عــدا ذلــك لا خطر من التلفزيون على الأدب بوجه عام وأدب الرواية بوجه خاص، فكلاهما فن قائم بذاته، بتقنياته الخاصة وتأثيراته الخاصة. ومنذ أواسط ثلاثينيات القرن العشرين إبان ظهور الإذاعة المرئية وانتشارها في العالم توجس المثقفون من أن التلفزيون قد يؤدي إلى انقراض الكتاب الأدبي وربما الكتاب بوجه عام، إلا أن الأديب الطبيب الفرنسي جورج ديهاميل حسم القضية بدراسته البديعة المنشورة في كتاب بعنوان (دفاع عن الأدب) ترجمه د.محمد مندور إلى العربية في أربعينيات القرن الماضي، حيث أثبت استحالة أن يؤدي فن إلى انقراض فن سابق حتى وإن كان يشبهه في الغرض والوسيلة، فلقد توجس المثقفون من تقدم فن السينما الساحر على فن المسرح ولكن بقي المسرح مزدهرًا، وقالوا إنها ستقضي كذلك على فن الرواية، ثم اتضح أنها تعانقت مع الفن الروائي وتبادلا التأثير والتأثر في جدلية لاتزال مثمرة إلى اليوم، ليس فحسب بتحويل الروايات إلى أفلام سينمائية، بل إن كلاً من الرواية والسينما يتبادل الانتفاع بتقنيات الآخر، إلا العمل الدرامي التلفزيوني فإنه قد استفاد من فن الرواية بغير حدود، في حين لم يستفد منه فن الرواية أي شيء على الإطلاق، ربما لأنه ليس صاحب تقنيات خاصة إذ أن معظم تقنياته استعارها من السينما والمسرح والإذاعة والرواية.

رياح الدعاية العاصفة

ونستطيع أن نضيف إلى تأكيدات جورج ديهاميل ما أسفرت عنه التجربة التلفزيونية منذ قيامها إلى اليوم أي على امتداد ما يقرب من خمسة وسبعين عامًا ثبت خلالها للعالم كله أن العمل الأدبي كان وسيظل إلى أبد الآبدين أشرف وأنزه وأسمى غاية من العمل التلفزيوني الذي تأكد للعالم أنه لن يستقيم له شرف وسمو غاية بسبب إمكاناته الدعائية المذهلة التي اكتشفها وتملكها رجال المال ولن يفرطوا فيها مطلقا.. ذلك لأن البرامج التلفزيونية تتكلف أموالاً باهظة للإنفاق على الإعداد الفني والصورة المذاعة بجميع مكوناتها، ناهيك عن تكاليف البث نفسه، كما أنه لا يقدر على دفع هذه التكاليف إلا رجال المال الأثرياء، ولم ولن يوجد على ظهر الأرض رأسمالي ينفق أمواله في سبيل غاية سامية أو واجب وطني، غاية ما في وسعه أن يجامل، فإن فعل فحتى المجاملة المظهرية سوف يستغلها بغرض دعائي إن لم يكن غرضًا إعلانيًا مباشرًا عن سلع ينتجها أو أفكار يروج لها. وكل البرامج والتمثيليات ينتجها الآن أصحاب المال ورجال الأعمال لتكون ممرات للإعلان عن منتجاتهم، ومنذ بضع سنوات كنا نحن الجمهور نشكو من غلظة قطع المشهد للدخول بفصائل وفواصل من الإعلانات تنسينا ما شاهدناه وتشتت خواطرنا وتصيبنا بمرض الذهان، اليوم أصبح الإعلان مبثوثًا داخل نسيج الدراما نفسها، وفي حوارات البرامج الحوارية وفي صور وأشكال مضللة تقدم لك المعلومة الإعلانية الدعائية باعتبارها حقيقة الحقائق، يوهمك المتحدثون بأنهم يتكلمون في أشياء تخصك تتعلق بمصالحك تطرح قضايا حياتك اليومية الملحة وهم في حقيقة الأمر لا هدف لهم سوى تمرير الدعاية وإغرائك بسلعة لست في أدنى احتياج إليها فتروح تشتريها بتقسيط بقصم ظهر الأبعد، يوهمونك أيضًا بأنك على وشك أن تفوز بحزمة من ألوف الجنيهات فور أن تجيبهم على سؤال شديد التفاهة والبداهة، وما عليك إلا أن تتصل.. اتصل الآن.. اتصل الآن من أي محمول، الهدف كل الهدف أن تتحدث في الهاتف المحمول عدة دقائق من وقت محسوب عليك يمتص دمك يشغل بالك جريًا وراء أوهام. من هنا يفقد العمل التلفزيوني شرفه ليصير أداة لتضليل القوم ونهب مدخراتهم ومسح عقولهم فوق البيعة!

اليوم انتبه ضمير العالم إلى جريمة التلفزيون في إهدار قيمة الثقافة منذ أن بهر الناس بالصورة الملونة وبالوجود الآن في قلب الحدث المفاجئ، فخفتت أصوات الثقافة الرفيعة في ضجيج الثقافة الاستهلاكية المتنقلة منعدمة الضمير والأخلاق بل والإنسانية، تراجعت الفلسفة، جفت ينابيع الشعر، تضخم المسرح التجاري، تفشى الانحلال الجنسي، تفككت الروابط الأسرية. وإذا كانت بعض دول أوربا ذات الحضارات القديمة التليدة قد تداركت الأمر مبكرًا ورشدت التعامل مع جهاز التلفاز بحيث لا يفتح إلا في أوقات بعينها لرؤية أشياء بعينها لوقت محدود، فإن معظم الدول المتخلفة المستوردة للتكنولوجيا الجاهزة قد سحق التلفاز شخصيات شعوبها، بحيث أصبح الشعب منها عددًا من ملايين النسخ المكرورة من شخصية واحدة غير قابلة للحوار قد جُبلت على التلقي السلبي حتى فقدت الشعور بإنسانيتها، باتت كائنات استهلاكية غير خلاقة، غير مبدعة، غير صالحة للحياة بله أن تثور على أوضاعها المتردية.

والرأي عندي - بعد دراسة متأنية على عيّنات من البشر والبرامج والأعمال الفنية، ومتابعة ما ينشر من دراسات حول خطورة الاستخدام السيئ لتكنولوجيا الاتصالات وللتلفاز والمحمول بوضع خاص - أن الخلاص من خطر التشبث أمام هذين الجهازين المدمرين للوقت والمال والعقل والعلاقات الإنسانية ومستقبل البشرية، إنما يتمثل في عودة العالم إلى الأدب نلوذ به من شر هذين الجهازين، وعلى وجه خاص أدب الرواية، ذلك أننا وقد بتنا متشابهين إلى حد الاستنساخ أصبحنا محتاجين لمن يغذي فينا الشعور بالذاتية المفردة، صاحبة الإمكانات الخاصة والملكات الخاصة، القادرة على التمييز والمفاضلة والاختيار بموضوعية، القادرة على المشاركة الإيجابية الفعلية في الإبداع الوطني العام بوجه خاص والإبداع العالمي بوجه عام، الذاتية التي تشعر بهويتها وتعتز بها، وتشعر بجذورها فتبقى متصلة بها، وتحرص على فروعها الأسرية، تنمي عاطفتها وقدرتها على العطاء، تتعرف على قواها الخفية, تضع يدها عليها تطلقها على الواقع... إلخ... إلخ، وتلك هي وظيفة الرواية، أدب الرواية، بما له من خصوصية وحميمية لدى الكاتب والقارئ على السواء، فالرواية هي فن التأمل، فن البناء، وهندسة التواصل، حيث ينفرد خيال الكاتب بخيال القارئ في ركن قصي هادئ في لحظات مفعمة بالتوتر اللذيذ بمعايشة أحداث وشخصيات وحياة حافلة بالخبرات والتجارب، عبر ذلك يشتركان معًا في إعادة بناء ما أقيم على غير أساس سليم. إن فن الرواية قد أسهم بأوفر قدر في تشذيب سلوك الإنسانية وكيفية عرض مشاكلها وآلامها ومكابداتها وبخاصة الدفينة منها، وليس عبثًا أن يكون فن الرواية هو الأنشط اليوم في جميع اللغات يلقى حفاوة من جميع المجتمعات.

ضد الابتذال

ولكن الإيمان بأهمية فن الرواية واليقين بأنه حائط الصد في مواجهة الابتذال الفضائي المتغول، ينبغي ألا يقودنا إلى التعصب لفن الرواية وتفضيلها على غيرها من الأجناس الدرامية، فليست غايتنا التسفيه من هذه الأجناس الأدبية الفنية وبخاصة جنس الدراما التلفزيونية، إنما نحن نتوق إلى لون من الأدب التلفزيوني ظللنا ننشده منذ بدأت علاقتنا بالعمل التلفزيوني وكان من حسن حظ الجماهير أن تجربة الدراما التلفزيونية المصرية قد نضجت إلى حد كبير جدًا على أيدي لفيف من المخرجين نذكر منهم نور الدمرداش ويوسف مرزوق وفايز حجاب وإبراهيم الصحن وآخرين، مع لفيف من كتاب النص التلفزيوني نذكر منهم محمود إسماعيل وفيصل ندا وميخائيل رومان وجلال الغزالي وآخرين، إلى أن وصلت إلى مستوى النص الأدبي بإرهاصات مهمة من ميخائيل رومان ونبيل غلام وكل من عاصم توفيق ومصطفى كامل عليهم جميعًا رحمة الله، ثم ولد عندنا الأدب التلفزيوني بمعناه الكامل على أيدي أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن ووحيد حامد ومحسن زايد.

نعني بالأدب التلفزيوني الارتفاع بمستوى التعبير ليس على صعيد الحوار فقط، بل جميع مفردات اللغة الفنية بأكملها، حيث للصورة المرئية أعماق بعيدة غير مرئية لكنها مُدرَكة، وحيث الشخصيات من لحم ودم نتعرف عليهم جيدًا وننحاز لبعضهم وننفر من بعضهم قدر ما في الصراع الدرامي من جدل اجتماعي ذي دلالات ملموسة متصلة بمعطيات الواقع بحيث يكون العمل الفني فنيًا بحق، يعني متعدد الدلالات، يضرب في منطقة بعينها فيكون الألم - بالمصطلح الطبي الشهير - مسموعًا في مناطق أخرى، يعني له نفس الأصداء المؤلمة. وفي مناخ مناسب وبكل صراحة ووضوح في زمن إشراف ممدوح الليثي على قطاع الإنتاج الدرامي ارتقت الدراما التلفزيونية المصرية إلى ذروة باهرة حقًا، وحتى بعد ابتعاد ممدوح الليثي بقيت آثار مشعة في مسار الدراما، واغتنت المكتبة بأعمال مرموقة لا يمل المرء من مشاهدتها وتعتبر ثروة فنية ومادية قادرة على خدمة الثقافة العربية لأزمنة طويلة قادمة (الشهد والدموع) و(بوابة الحلواني) و(أحلام الفتى الطائر) و(ليالي الحلمية) و(أم كلثوم) و(رأفت الهجان) و(زينب والعرش) و(الزيني بركات) و(عائلة الدوغري) و(الحرافيش) و(بين القصرين) و(أوراق مصرية) وغير ذلك من أعمال كثيرة تنتمي إلى ما أسميناه بالأدب التلفزيوني كما شرحناه آنفًا.. وللإنصاف نذكر أعمالاً دينية كبيرة ثقيلة الوزن كتبها الشاعر الراحل عبدالسلام أمين أدبًا رفيعًا بحق، وحتى المسلسلات الخفيفة التي حققت نجاحًا جماهيريًا ملحوظًا دون أن يكون لها صلة بالأدب التلفزيوني كانت هي الأخرى ملتزمة جانب اللياقة والتحفظ والبعد قدر الإمكان عن الغثاثة والابتذال. ذلك أن الإنتاج كان مستقرًا إلى حد كبير، يحقق توازنًا ملموسًا بين الخدمة الثقافية المفترض أنها مدعومة من الدولة وبين الربح والمكسب المجزي من البيع للقنوات العربية.

على أن مستوى المسلسل التلفزيوني قد هبط وتدنى بصورة فادحة ليس لنقص في الأموال أو في الكفاءات الفنية من تأليف وإخراج وتمثيل وديكور وتصوير وتسويق، إنما انهار مستوى المسلسل التلفزيوني بسبب ما طرأ على الإنتاج من تضارب وتنافس غشيم غير خلاّق أدى إلى خلل رهيب وصل بالمنتج الفني إلى مستوى هزلي يستحق التقديم للمحاكمة، وقد حدث هذا الخلل يوم أن تعددت جهات الإنتاج بلا فلسفة واضحة أو مبرر منطقي مفهوم، ثم تحول الخلل إلى تسيب وانفلات مذهلين يوم دخل إلى الميدان ما يسمي بالمنتج المنفذ، وهو أشبه بالوسيط السمسار الخبير بكل ما يمت إلى النقود بسبب إلا الفن وشئونه وقضاياه ودروبه ومقتضياته، كل ذلك لا يفقه فيه أي شيء على الإطلاق.

أسباب الخلل

حتى وقت قريب كانت «مراقبة التمثيليات» في كل قناة أو محطة هي المنوط بها إنتاج ما يناسب توجهاتها من تمثيليات. وكان لذلك النظام مزاياه وعيوبه، فمن مزاياه أن القناة أو المحطة الإذاعية تضمن اتساق ما تذيعه مع شخصيتها ورسالتها، وأيام كان هناك شيء اسمه الرسالة والتوجه وما إلى ذلك من أشباح انقرضت من حياتنا! ولكن من عيوب ذلك النظام الوقوع في التكرار حيث يتصادف أن تقدم جميع القنوات والمحطات الفكرة نفسها، الحدث الفني نفسه، الشخصية نفسها، وإن بتوجهات مختلفة ومن وجهات نظر متباينة قد تثير البلبلة والتناقض، الأمر الذي برر الثورة التي قادها ممدوح الليثي ضد ذلك النظام لتدعيم نظام إنتاج مركزي يتولى الإنتاج المتعدد النوعيات والتجاهات من تاريخي سياسي إلى تاريخي ديني إلى اجتماعي جاد إلى اجتماعي فكاهي إلى آخره. ويومها قوبل مشروعه بثورة مضادة عارمة من مراقبي التمثيليات والمخرجين ومديري القنوات والمحطات على اعتبار أن حقًا من حقوقهم التاريخية ينتزع منهم، وهم إن قبلوا هذا الوضع الجديد نظريًا ومنطقيًا ترفضه نفوسهم بدافع الكبرياء، إذ إن الإنتاج المركزي معناه فرض الوصاية عليهم، ولكن اتحاد الإذاعة والتلفزيون كان ميالاً للأخذ بنظام الإنتاج المركزي لأنه أكثر عملية كما أنه يوفر الوقت والجهد والهدر المالي، ثم إن التمثيلية الواحدة يمكن أن تتواءم مع الشخصية الفنية المفترضة لكل قناة أو محطة.

بالفعل نجح نظام الإنتاج المركزي في الارتقاء بمستوى الدراما التلفزيونية والإذاعية. وكان هناك قطاع اقتصادي نشيط يقوم بتسويق الدراما والبرامج الخاصة محققًا أرباحا. ويلوح لي أن الوقت الذي استقل فيه قطاع الإنتاج بالإنتاج الدرامي كان العصرالذهبي للدراما التلفزيونية بل لسنا نغالي في شيء إذا اعتبرناه قد ورث عرش السينما المصرية، إذ إنه اجتذب نجومها واحدًا وراء الآخر أبطالاً لمسلسلات حققت نجاحًا كبيرًا جعلت جميع النجوم المخلصين للسينما ولا يحبون الظهور في التمثيليات حتى يظل الجمهور السينمائي في اشتياق إليهم، يراجعون موقفهم ويتكالبون على بطولة المسلسلات، وبعد الانهيار الذي أحدثه الشبان الفكاهيون في وضع السينما لم يعد أمام الممثلين والمخرجين سوى المسلسل التلفزيوني، وكان من الممكن أن يستمر المسلسل التلفزيوني في صعود وتطور فني خلاق مستفيدًا من الكفاءات السينمائية في ظل جهة إنتاج واحدة يقف على رأسها فنان خبير بالدروب الإنتاجية وبالتفاصيل الفنية كممدوح الليثي كاتب السيناريو الآتي من أصلاب أسرة تخصصت في الإنتاج السينمائي وأتقنته، أو كواحد من هذه الشاكلة وهم كثر في حقولنا الفنية، وفي مناخ فني هادئ الإيقاع تتم فيه دراسة الأفكار جيدًا وإنضاجها وإعطاء العمل الفني حقه الواجب من العناية والإنفاق كما كان يحدث بالفعل في الفترة المذكورة آنفاً.

من هنا كانت البداية

ولكن الانفلات بدأ منذ أن تعددت جهات الإنتاج داخل المؤسسة الواحدة وبأموال الدولة، دخلت شركة صوت القاهرة ساحة الإنتاج الدرامي بتوسع مع أنه كان يكفيها تخصصها في طبع ونشر الأغنيات والبرامج والقرآن الكريم بأصوات عمالقة القراء، ولم يكن ثمة من بأس في إنتاج بعض المسرحيات الغنائية أو الأوبريتات، ولكن المكاسب التي حققها قطاع الإنتاج أغرتها بالدخول في إنتاج مسلسلات طويلة تتكلف أموالاً باهظة، فأصبح هناك تنافس بين القطاعين كثيرًا ما كان يفوز فيها قطاع الإنتاج بحكم خبرته ومرونته ومتانة علاقة رئيسه بالفنانين والمخرجين والفنيين، ولكن شركة صوت القاهرة كانت تقدم أعمالاً كثيرة جيدة جدًا قد أخذت حقها من الإتقان وحظها من التوفيق، وحتى في هذه الحالة التنافسية غير الضرورية من أساسها كان من الممكن أيضًا الاستفادة من روح التنافس بين قطاعين لمصلحة العمل الفني، ولقد حدث شيء من ذلك بالفعل، ولكن الأمور اضطربت بشكل غير مفهوم، صرنا نقرأ ونسمع عن مسلسلات كثيرة محفوظة في العلب جاهزة للعرض لدى كل من القطاعين الأخوين المتنافسين، وبعضها استمر في المخزن سنوات طويلة، بل ربما إلى اليوم، وبعضها تم عرضه على شاشات فضائية عربية لمرة واحدة في زحمة رمضانية ثم اختفى كأن لم يكن، فلا نعرف لماذا لم تعرض هذه الأعمال، ولا المعايير التي توقف عرض مسلسل تكلف حفنة من ملايين الجنيهات لا صاحب لها يسأل عنها، بعض هذه الأعمال، التي يحكم عليها بالإعدام سواء بعدم إذاعتها نهائيًا أو بعرضها لمرة واحدة، لم يكن يعيبها سوى بعض ترهل، بعض تزيد، بعض إسفاف، بعض تطاول تأباه الرقابات العربية، إلا أن التنافر وعدم الانسجام بين اللجان المتعددة والمتناقضة والمزدوجة الوظيفة أحيانًا، كل ذلك يؤدي إلى تعطيل وتضارب وهدر يضيع فيه دم المسئولية موزعًا بين القبائل المتنفعة من تدفق الإنتاج، ومن تعطيله على السواء مادام رأس المال بلا صاحب «يأكله قلبه عليه».

على أن أمور الإنتاج التلفزيوني قد ساءت تمامًا، والحدود ساحت، بإنشاء مدينة الإنتاج الإعلامي برأسمال مساهم، دخلت علينا بحلم خيالي أخرق أوهمتنا به، أدخلت في روعنا أنها ستكون هوليوود الشرق فعلاً لا مجازًا: استديوهات بث بأحدث وأكمل التجهيزات التكنولوجية الحديثة، وأخرى لتصوير الأعمال الدرامية فيها كل ما تحتاج إليه الدراما من أحياء شعبية وأرستقراطية وقرى ومدن وعزب وكفور وسكك حديدية، وطرق زراعية وأسواق، فيها ما شئت من بيئات تاريخية وأماكن ومواقع أثرية، صورة طبق الأصل من الأصيل. والواقع أننا جميعًا كنا فرحين، ويحدونا الشوق لقيام هذه المدينة الإنتاجية الحلم، التي لاشك ستكون جاذبة للقوافل الفنية من جميع أنحاء العالم العربي يدخلونها بأفكار مجردة، ويخرجون منها بأعمال محققة تبهر الناظرين، بما توفره مصر لهم من إمكانات. ولكن المؤسف أن المدينة هي التي أفسدت سوق الإنتاج، حولته إلى سوق بمعنى الكلمة يخضع لقانون العرض والطلب، ينتج ما يروق للدهماء من المشاهدين العرب الذين فرغت عقولهم من المحتوى الثقافي المفقود في معظم البلدان العربية، يضطجعون أمام شاشة التلفاز، ينسون أنفسهم، يبحثون عن السهل المستساغ، المثير، مما تعرضه القنوات، لا يتوقفون إلا عند كل ما يخاطب الغريزة والاهتمامات الوقتية، وما يبعث على الضحك، كانت المدينة مشروعًا تجاريًا صرفًا، ولم يكن ثمة من بأس في ذلك، ولكن بشرط أن يكون القائمون عليها خبراء بالعملية الفنية من الألف إلى الياء، هذا على مستوى البديهة بادئ ذي بدء، وأن يكونوا في الوقت نفسه - وبالضرورة - خبراء باقتصاد الفن باعتباره صناعة استثمارية بقدر ما هو إبداع إنساني خلاق. ولكن يبدو أن إدارة المدينة لم تكن خبيرة تمامًا بهذه العملية، بل إنها كانت - الإدارة - مجموعة من الموظفين يمثلون أصحاب رءوس الأموال، فتعاملوا مع الدراما التلفزيونية باعتبارها سوقًا من الأسواق، والمنتج الفني سلعة تخضع لمنطق الربح والخسارة، وقانون العرض والطلب. ثم إن الإدارة تفرغت للمضاربة في البورصة على نطاق واسع، وعهدت بالإنتاج الدرامي إلى ما أسمته بالمنتج المنفذ، ثم المنتج المشارك، وكلاهما - المفترض - من خبراء اقتصاديات الدراما السينمائية والتلفزيونية والمسرحية والغنائيات بأنواعها - كان ينتج بأموال المدينة، بنظام المقاولة بالنسبة للمنتج المنفذ، ونظام التعاقد على البيع بالساعة، بالنسبة للمنتج المشارك، وفي الحالين يلتهم النجم أو النجمة أكبر جزء من الميزانية، حوالي ثلثها تقريبًا، ويضع المنتج ما يقرب من الثلث في جيبه، وينفق الثلث الأخير على بقية عناصر العمل من القصة والسيناريو والحوار إلى الإخراج والديكور والاستديو وبقية الممثلين والماكياج والمونتاج والمكساج وما إلى ذلك. فإن كان السيناريو قائمًا على نص أدبي، فإن مؤلف الرواية هو أضعف عناصر العمل، لا يكاد يتميز عن المتسول، حوالي عشرة آلاف جنيه من القطاع الخاص، وحوالي نصف هذا المبلغ إذا كان المنتج قطاعًا عامًا، وهو مبلغ شديد التفاهة، إذا علمنا أن السيناريست يقبض في الحلقة الواحدة - حاليًا - خمسة عشر ألف جنيه أو أكثر أحيانًا، مع العلم بأن الروائي عند الموافقة على هذا يوقع على عقد إذعان يكاد يكون نزعًا لملكية العمل الأدبي، بل إن المنتج لا يعطيه بقية حسابه إلا بعد أن يذهب إلى الشهر العقاري ويسجل فيه تنازلاً عن كل حقوقه تجاه المنتج، بما في ذلك حقوق الطبع الميكانيكي، وللمنتج الحق في إنتاج العمل وقتما يشاء أو بيعه لمن يشاء من المنتجين، دون أن يترتب على ذلك أي حقوق لمؤلف النص الأدبي.

أذكر أنني سألت أستاذنا نجيب محفوظ - رحمه الله - ذات يوم: كيف تقبل هذه الأسعار المتردية من منتجي رواياتك، وأنت صاحب العمارة الأساسية للدراما، فتبسم قائلاً بحكمته المعهودة إنه إذا لم يوافق فسوف يسرقونها من وراء ظهره بلا حسيب أو رقيب، فأي سيناريست من أولاد «الـ....» الحريفة يقوم بتغيير معالم الأشياء والشخصيات، ويقدم الفكرة نفسها من تأليفه. وهذا صحيح، ويتكرر أمام أعيننا كل يوم، ولهذا فإن كتاب الرواية في مصر كانوا سريعًا ما يوافقون على أي شروط في أي عقد ضمانًا لجزء ولو ضئيلا من حقهم المادي والأدبي.

تراجع النص الأدبي

إلا أن الاعتماد على النصوص الأدبية قد تراجع تمامًا في السنوات الخمس الأخيرة في مجالي السينما والتلفزيون. أما السينما، فمعروف وضعها الحالي منذ أن سيطر الشبان الهازلون على شبابيكها حتى انهارت الصناعة، وأما في التلفزيون، فإن مدينة الإنتاج التي تضخمت إداريًا وبسطت نفوذها على القنوات المصرية، بل وسياسة الإعلام المصري، قد أسلمت قيادها لمندوب الإعلانات، أصبح جامع الإعلانات الشاطر هو الذي يقود الإنتاج الدرامي بشكل فعلي كامل، فبعد أن كان الإعلان يتسلل على استحياء بين مقدمات ونهايات الحلقات، أصبح يقتحم السياق المشهدي ليوقفه كل بضع دقائق، ليصب شريحة كاملة محشوة بإعلانات، ثم تطور الأمر، فانعكست الآية، أصبحت الدراما التلفزيونية مجرد ممر للإعلانات، سوقًا لعرض السلع، بل أصبح الإعلان يدخل في صلب الدراما نفسها، بحيث يوظف السياق الدرامي لخدمة الإعلان، ثم إن المعلن أصبح هو الذي ينفق على الدراما، ومن حقه أن يؤلف دراما على مقاس المزاج الإعلاني. ذلك أن المندوب يأخذ اسم البطلة والبطل، ويلف بهما على المعلنين، يجمع العقود والعرابين «على حس المسلسل» الذي سيلعبان بطولته في شهر رمضان، ومادامت النجمة هي الورقة الرابحة، والبيع يتم باسمها أو باسمه إن كان نجمًا، فمن حقها ومن حقه أن يكون لكل منهما مؤلف خاص، والمؤلف الخصوصي لا يخدم إلا نجمًا واحدًا، يعني لابد أن يكـــون النـــجــم هـو القــاسم المشـــترك الأعـــظم في جمـــيع مــشاهد المـــــسلسل، لا يغادر الشاشة من الألف إلى الياء، وإذن فلابد له، أولا، من مؤلف «فوريجي» شاطر يتفنن في الحشو والتطويل والتطبيل والترقيص والتقتيل وكل التوابل الإثارية «الهبلاء». لم تعد مصلحة الجمهور واردة، لم يعد ثمة من مسئولية وطنية ، أو حتى إنسانية مشتركة بين ما يقدم على أنه فن، وبين جمهور الوطن، الجمهور نفسه أصبح سلعة تباع وتشترى، أصبح محفظة فلوس تستهدفها الإعلانات المغرية المحرضة على الاستهلاك والترخص والتدني، ذلك أن الإعلانات نفسها - التمثيلية هي الغلاف البراق المزوق - هي مظهر من مظاهر التدني الأخلاقي البشع، المبشر بانهيارات اجتماعية بغير حدود.

إنه لشيء مؤسف وكارثي بمعنى الكلمة، لقد كانت التمثيلية التلفزيونية ومباريات كرة القدم هي أشرف مادة يقدمها التلفاز للجماهير، حتى وإن طفحت عليها الإعلانات، تظل مادة «غير ملعوب فيها»، بأي غرض دعائي أو إعلاني، إنما هي مادة صريحة تمثل قناعًا شعبيًا حقيقيًا، حيث الدروس المستفادة عميقة سواء من التنافس الشريف والمرئي في المباريات، أو من المعطيات الإنسانية للدراما الاجتماعية، وفيما عدا ذلك فجميع المواد المبثوثة على شاشة التلفاز تخدم غرضًا دعائيًا لمصلحة النظام الحاكم بما يقتضيه ذلك من أباطيل وأضاليل وخداع، أو غرضًا إعلانيًا لمصلحة المعلن والجهاز معًا. اليوم يبدو أن العمل التلفزيوني قد فقد شرفه تمامًا إذ يتحول إلى جهاز إعلاني صرف، إلى سوق يخلق كائنات استهلاكية نهمة يستحيل ضبطها في مشاريع تنموية. وإذن، وفي ظل الخضوع العالمي للعولمة وسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات، فإن الأمل يكون معقودًا تمامًا في أن يلعب جهاز التلفزيون دورًا ثقافيًا تنمويًا حقيقيًا، ولكن الأمل معقود على الأدب، وهذا ما ينتبه إليه العالم المتقدم حاليًا، بدأ فن الرواية ينتعش من جديد في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا بعد طول خفوت أمام نهضة الرواية الأمريكية اللاتينية. وإذا كان الروائي المصري والعربي منتهب الحقوق أدبيًا وماديًا، فإن ذلك لابد أن يكون وضعًا مؤقتًا شأن كل الأوضاع الجائرة في هذا الوطن السليب!.

 

خيري شلبي