«المقدمة» ابن شرعي للحضارة الإسلامية

«المقدمة» ابن شرعي للحضارة الإسلامية

اسمحوا لي بالتعليق على مداخلة الأستاذ عثمان الحاج حسون، وعنوانها «ابن خلدون ومقدمته مرة ثانية» والمنشورة في منتدى الحوار صفحة (168) العدد 571 يونيو 2006م، فقد أجمل مآخذه على مقال الدكتور محمد جابر الأنصاري وزملائه كتّاب ملف ابن خلدون في العدد (561) أغسطس 2005 في خمس نقاط هي:

1- لماذا لم تصبح المقدمة جزءًا من تكوين العرب الثقافي؟ وذكر أن د.الأنصاري لم يوضح السبب في أن المقدمة لم تصبح جزءًا من التكوين الثقافي للعرب... والواقع - من خلال المقال - أن الأستاذ الأنصاري كان قصده التنبيه إلى أنه ما لم تصبح المقدمة جزءاً من التكوين الثقافي للعرب، فسيظلوا في حال اغتراب عن حقيقة مجتمعهم، وسيترك هذا لديهم ولأمد طويل ضياعًا فكريًا خطيرًا... فلم يكن غرض الدكتور الأنصاري بيان سبب لماذا لم تصبح المقدمة جزءاً من التكوين الثقافي للعرب، بل كان غرضه بيان النتيجة المترتبة على ذلك.

أما التفسير الذي قدمه الأستاذ حسون، وهو أن المقدمة لم تتضمن حلاً لجميع مشكلات العرب الإيمانية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وسواها، بينما هذه الحلول قد عرضت في القرآن والسنة، وأنهم - أي العرب - قد ذهبوا للبحر (القرآن والسنة)، ونأوا عن الساقية (المقدمة)، ولذلك لم تصبح المقدمة جزءًا من التكوين الثقافي للعرب، فعلى هذا، فإننا لا نستطيع أن ندرج ضمن تكويننا الثقافي، أي عمل إبداعي، لأنه في الواقع لا يوجد أي عمل قد تضمن حلاً لجميع مشكلاتنا الإيمانية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وسواها ما عدا القرآن والسنة. وهذه النظرة للقرآن والسنة - من حيث هما نصوص - تحيل الدين إلى حل سحري لجميع مشكلاتنا في نظر البعض مع أن القرآن والسنة قد دعوا إلى إعمال العقل، وطلب العلم والتأكيد على أن حل المشكلات، إنما هو ثمرة للبحث والفعل المبذول في الاتجاه الصحيح.

تراكمية المعرفة

2- أما استفادة ابن خلدون من الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات، فبديهي، ولا يعقل أن ابن خلدون قد ابتدع المقدمة بأفكارها وألفاظها من العدم، وهذا دأب العلم والمعرفة أنهما تراكميان، ثم ان غرض د.الأنصاري في مقاله - على صغر هذا المقال - لم يكن أن يبين ما لابن خلدون، وما لغيره في المقدمة، وإنما طبيعة المقال - أي مقال - أن يعرض لنقاط محددة في موضوع ما، أو لنظرة إجمالية حول ظاهرة، أو عرض مجمل لكتاب أو لجزء منه، وليس للمقال - من حيث حجمه ومكان نشره في مجلة لها سياسة نشر محددة - أن يتسع لعرض وتأصيل أفكار ابن خلدون في المقدمة ببيان الجدة فيها والتحوير، وذكر مصادر الاقتباس، وتحليل الأفكار والنظريات وبيان الإضافات، التي قام بها ابن خلدون على من سبقه، أما أن يشار إلى أن المقدمة قد اغترفها ابن خلدون من أصول الثقافة الإسلامية (القرآن والسنة) تحديدًا، فهذا الرأي لا يمكن أن يطرح بهذا القدر من البساطة، والواقع أنه لا يمكن القول إن ابن خلدون قد اغترف المقدمة مباشرة من القرآن والسنة، فهناك من درس القرآن والسنة قبل ابن خلدون، بل وأكثر مما درسهما ابن خلدون، ومع ذلك لم يتوصلوا للمقدمة، وجملة ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع هو أن المقدمة ابن شرعي للحضارة الإسلامية من حيث مؤلفها، ومكان تأليفها وفحواها المتضمنة سمات الحضارة الإسلامية ومبادئها. أما لماذا ظهرت في القرن الرابع عشر وليس غيره وعلى يد ابن خلدون وليس سواه فلأنها:

- نتاج تراكم معرفي لم تكن لتظهر قبل أوانها، ووصول التراكم المعرفي إلى القدر الذي وصل إليه.

- إنها مثلت الروح السائدة في الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت، حيث كانت قد وصلت لمرحلة من استنفاد التجارب في أحوال الاجتماع والعمران الإنساني والحكم، وكان لابد من ظهور المقدمة في ذلك الوقت لدراسة هذا النتاج.

- ثم أنها أيضًا نظرة ابن خلدون للحال التي وصلت إليها الحضارة الإسلامية من خلال تجربته هو ودراسته لأحوالها وتاريخها وأمله في ما ينبغي لها أن تكون.

3- أما عن استشعار المستقبل، فهذا الموضوع قد تحامل عليه الأستاذ حسون عندما قصره على علم الغيب، وقصر علم الغيب على الله، ومن يطلع اللهُ من رسله، فإن الكلام في المستقبل ليس من باب كشف الغيب، وإنما هو دراسة علمية للحيثيات والمسببات والظروف لاستشعار ما قد يترتب عليها من نتائج وفقًا للمناهج والطرق العلمية، وهذا قد دلت عليه الآية سنة الله في الذين خلوا من قـبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً . فالله قد أجرى الأمور من قبل ومن بعد وفقًا لنواميس ثابتة، يمكن معرفتها من قبل العلماء بدراسة السابقين وأحوالهم، وبالــتالي فإن ما يحكم الحياة هو ناموس واحد لمن قبل ولمن بعد، وهذا يمكن معرفته للعلماء بجهدهم في البحث العلمي، وهذا ليس من باب كشف الغيب، أما ما ذكره الأستاذ حسون من خيبة أمل د. الأنصاري من عدم كلام ابن خلدون عن المستقبل، فإن د. الأنصاري كان يتمنى أن يقوم ابن خلدون من خلال نظرياته التي فصلها في المقدمة باستشعار مستقبل أحوال الاجتماع والعمران الإنساني وأحوال الممالك والحضارة الإسلامية، وفقًا لما نظر له في المقدمة، وهذا كان في مستطاع ابن خلدون، ولم يكن سبب عزوف ابن خلدون عن هذا ما ذهب إليه الأستاذ حسون من أن السبب في ذلك هو إيمان ابن خلدون بأن المستقبل من أمور الغيب، التي هي بيد الله وحده، فالكلام حول المستقبل ليس من باب كشف الغيب، بل دراسة علمية لها مناهجها وأصولها.

تجاوز الخلدونية

4- أما من جهة إعجاب كتّاب ملف ابن خلدون في العدد (561) أغسطس 2005 د. الأنصاري وزملائه، ودعوتهم إلى تجاوزه بــ(خلدونية جديدة)، فلا تناقض في هذا، ويجب ألا ندع حبنا لابن خلدون أو غيره يعيقنا عن بحث أحوالنا مستعينين بأفكاره وأفكار غيره، ولكن وفقًا لمقتضيات ثقافتنا ومقتضيات العلم. ثم إن الدعوة إلى تجاوز ابن خلدون أو غيره، ليست مأخذًا علينا، بل مطلبًا لنا، والا تسمرنا عند مواقع أقدامنا جامدين على جزء من تراثنا، باذلين مستقبلنا دفاعًا عن ماض يجب تجاوزه غير رافضين له، بل منطلقين منه.

5 - أما عن بعض المستشرقين وعدم معرفتهم لسر عبقرية ابن خلدون، فأنا مع الأستاذ حسون في أنهم نظروا إلى تراثنا، ومنه ابن خلدون، بنظرة خلفيتها متعصبة وعدائية للإسلام والمسلمين وثقافتهم، ولو أنهم عرفوا الثقافة الإسلامية بموضوعية لتغيرت آراؤهم، ولاكتشفوا إبداعات العلماء العرب والمسلمين.

وأخيرًا أود أن أؤيد قوله حول ظاهرة الرطانة، التي زادت في مقالات بعض الكتاب من خلال استعمال المصطلحات والتراكيب الأجنبية، مع أن رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) قد نهى عن أن يتحدث المرء عند قوم بما لا يفهمونه.

أحمد محمد شملان
صنعاء - اليمن