مساحة ود

 مساحة ود

عازف كمان عجوز

كانت الطبول تدق والزغاريد تعلو في حفل زفاف صديقتي، كل شيء صاخب ومختلف عن الأحلام التي ادخرتها لتلك الليلة، كانت تريدها أبسط، لا شيء سوى أن تشبك يدها بمن تحب وتتبخر. ولكن حبيبها أصيب بسرطان زفّه إلى الموت وهي تحاول انتزاع موافقة أهلها على خطبتهما. أصيبت بالذهول لأيام، وتوسلت إلى الموت أن يعيد إليها الرجل الذي تحب ولكن الموت لا يشعر ولا يهمه الحب.

أنهت حدادها فجأة وقررت أن تنتقم من هذا الحبيب الذي خانها وأفلت وحده وتركها تواجه ألم فراقه ولم تدر ماذا تفعل.

قررت أن تتزوج، وهي واثقة من أن خبر زفافها سيصل إليه أينما كان في العالم الآخر، فيأتي إليها ولو في حلم ليعاتبها. اختارت طبيبًا لا يشبهه، متخمًا بالأموال ولا يحب الشعر، يشبه العصر الذي نعيشه.. لا حلم لا رومانسية، ولا لغة منطقية إلا ما يقوله الدولار. قالت لي وهي تبكي: «موت بموت». حاولت إقناعها بالتروي دون جدوى، كانت مصرّة على الانتحار بهذه الطريقة العصرية.

لم أشعر للحظة بمظاهر الفرح، كنت وحدي أرى الدموع في عيني صديقتي ولم أعد أدري هل دعيت إلى مذبحة أم فرح؟

شعرت باختناق وانسحبت من حفل زفاف صديقتي الصاخب وهناك وجدته، عازف كمان عجوزًا يدور بين الطاولات في قاعة قريبة، كان يدور بكمانه مثل نحلة توزع شهدها على الجميع. كان نحيفًا، حركاته خاطفة وعيناه مليئتان بالأسرار.

لحنه فجّر داخلي وجعًا دفعني لمحاورته بعد انتهائه من العزف.

كم عمرك؟ سألته، ابتسم فشعرت أنني أمام طفل.

تجرأ وسألني عن اسمي بكلمات متآكلة خجلى، ثم أطرق كأنما أدرك فجأة كون الأسماء لافتات وُضعت على الطريق ولا ترشد إلى شيء.

عرفت أنه يسكن أحد العلب الإسمنتية المحيطة بالفندق. كان الفندق الفخم يبدو مثل نافورة من نور وضعت في المكان الخطأ، في طريقي إليه أحسست بسكان الأزقة التي تطوقه، يتلصصون على رواده من بين شقوق النوافذ والجدران. كأنما ينظرون إلى صور دبت فيها الحياة فتركت أماكنها في مجلات الموضة لتجرب الحياة فوق الأرض. كانوا يعتبرون الفندق الذي يتوسط بؤسهم ظاهرة كونية لا يمكن تفسيرها، فإذا كان الضوء يغمر العالم فلماذا يعيشون في ظلمة وعجز؟

شُغلت بلحنه وأردت أن أعرف لماذا يعيش في ظلمة، ويسلك الطرق الضيقة والمتعرجة بدلاً من طرق الأثرياء والمشاهير، فلا شك أنه موهوب.

سألته فحكى لي قصة حبه المفقود «بلغت السبعين ولم أقع في الحب» ولكنه اكتشف أنه كان غارقًا طوال عمره فيه، فتاة لا يذكر اسمها ولا ملامحها استدعوه ليسروا عنها منذ زمن بعيد. كانت موسيقى متحركة، ألهمته لحنه الوحيد الذي أعجبني.

سافر في كل أنحاء العالم بحثًا عن لحن آخر، دون جدوى، «لم أكن أنا الموهوب، هي التي ألهمتني اللحن، إذا لم يكن هذا حبًا فماذا يكون»؟

أردت أن أخبره بمأساة صديقتي، ولم أفعل... لا فائدة.

 

منال القاضي