جمال العربية

جمال العربية

أحمد عبدالمعطي حجازي وطيور المُخيّم

ترى، ما هذا الذي يشدّني الآن برباط وثيق محكم، إلى هذه البكائية الشعرية البديعة، التي صاغها أحمد عبدالمعطي حجازي في السادس من أبريل عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين، مقتربًا غاية الاقتراب من الجرح الناغر في صدورنا جميعًا، جرح فلسطين، صانعًا من فيض الألم والمعاناة والغضب والثورة والتمرد والتحدي شعرًا لا تصلبه لحظته، ولا تجعله عنوانًا عابرًا على لحظة في التاريخ عابرة، وإنما هو الشعر الراسخ الباقي، المخضوضر دائمًا، والمشتعل دائمًا، بهذه الجدلية الحية، المضفورة في نسيج عريض واسع، هو نسيج الحياة والزمن الممتد، والوجود الذي ينسكب على هذه الحياة، أو تنسكب هي عليه إبداعًا يجاوز شرط الزمان والمكان، ليصبح ملكًا لكل زمان ومكان، ودلالة على الديمومة والاتصال.

في قصيدته البكائية «طيور المخيّم»، نستطيع أن نلمس سجادة فلسطين التي أبدع تصويرها حجازي، ونستطيع أن نتلمس الطريق إلى حيث مواضع الأقدام التي تضيع ونحن نفقدها، ويستوقفنا شميم البرتقال الذي يحمل اسم فلسطين، لكنه ليس الشميم الذي آنس طفولتنا بعطره الحيّ، وأصبح اليوم ملتصقًا برائحة الغزاة، وفعلهم في أحشاء الأرض، بينما تتجسد فلسطين الحقيقية ويتوهج حضورها من خلال خيمة وعمود من النار.

ما الذي شدّ حجازي إلى فلسطين، وجعله على مسافة طلقة واحدة، وعوسجة ورفيف قطاة؟ هل هو الزمن الغادر، المراوغ كنقّاد هذا الزمان؟ أم هي اللحظة التاريخية التي تعنْقدت فيها البنادق ودوى هتاف الرصاص، فاتسع رحم الميلاد للمخاض الأعظم، وولدت فلسطين!

أم هي أجواء «مرثية للعمر الجميل» لاتزال تلاحقه وتخزه بحرابها المدببة، وتدفعه دفعًا إلى تأمل سراب الزمن، الزمن الذي كان لايزال يسميه جميلا، وهو يقول:

كان بيتي بقرطبةٍ
والسماء بساطٌ،
وبين يديّ النجوم
صاح بي صائحٌ: لا تُصدّق!
ولكنني كنت أضربُ أوتارَ قيثارتي،
باحثًا عن قرارةِ صوتٍ قديم
لم أكن بالمصدّقِ، أو بالمكذّب،
كنتُ أُغنيّ، وكان الندامى
يملأون السماء رضى وابتساما!
والسماء صحارى،
وظهر مدينتنا صهوةٌ،
والطريق
من القدسِ للقادسية جدُّ طويل

هذه الأجواء التي يختتمها بقوله:

إنني أحلمُ الآن،
لم تأتِ
بل جاء جيش الفرنجة
فاحتملونا إلى البحر نبكي على المُلْكِ،
لا، لستُ أبكي على المُلْكِ
لكنْ علي عُمرٍ ضائعٍ لم يكن غير وهمٍ جميل!
فوداعًا هنا يا أميري!
آن لي أن أعود لقيثارتي،
وأواصل ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
ويلفّ الضبابُ مآذنها
وتُغطي المياه سفائنها
وتعود إلى قبرك الملكيّ بها،
وأعود إلى قدري ومصيري
منْ تُرى يعلم الآن في أي أرضٍ أموتُ؟
وفي أيّ أرضٍ يكون نُشوري؟
إنني ضائع في البلاد
ضائع بين تاريخي المستحيل
وتاريخيَ المستعاد
حاملٌ في دمي نكبتي
حاملٌ خطئي وسقوطي
هل تُرى أتذكر صوتي القديمَ،
فيبعثني الله من تحت هذا الرماد
أم أغيب كما غبْتَ أنتَ،
وتسقط غرناطةٌ في المحيط؟!

ثمة وتر شجن ممتد، يمضي في البنية التحتية لشعر حجازي، واصلٌ بين قصيدتي «مرثية للعمر الجميل» و«طيور المخيّم»، والثانية مدينة للأولى ومشدودة إليها بطريقة أو بأخرى، شاهدة على أن سقوط الملك والمملكة مهّد الطريق للعصف بالخيمة، والشيح، وأشجار الزيتون، بل العصف بالزمن العربي والوجود العربي كله، فأصبح لنا - بلغة حجازي - في ختام «طيور المخيم» - ملكوت التشرد، ولم يعد لنا غير هذا الطريق الطويل. بعد أن يقول:

«أنا.. وطيور المخيمْ
ليس لنا عَلمٌ
مِثْلنا مثْلُ رمل الصحارى
ومثْل النخيل
ومثلُ فلسطين ليس لنا علمٌ».

لكنْ، لنعد إلى القصيدة البديعة من بدايتها:

خيمةٌ وعمودٌ من النار
تلك فلسطين تطلعُ ثانية في الجليل
عبثًا تقتلون الأجنّة في باطن الأرضِ!
أو تتبعون الغزالة في لُججِ الضوء!
أو تُنصتون إلى ما يُسرّبُهُ الرملُ من
دمها السلسبيل
ما الذي قالت البئرُ للريح
والنار للشّيح
والناقة المستحمة في قمر الغور للسنديان؟
ومن ألّفَ الغيْمَ والآلَ في سِدْرةٍ
وسقى من أغاني الرعاة وقهوتهم حبقًا ونجومًا
وأرهف في الليل ما بين عوْسجةٍ ورفيف قطاةٍ
ومن حمّل الروح شهوة مقْثأة
تتململُ غِبَّ الظهيرة نافثة عطرها الشبقيّ العليلْ!
ومن يغزل الماء والضوء تحت الرمال
وينسج في الغب سجادةً لفلسطين
من مُهج الكائنات الخفيّة؟
كيف تركْنا المواسمَ في الأرض؟
كيف تشبث فِلْذٌ بفلْذٍ وجرثومة بشعاعٍ
ومِلْنا إلى الشرقِ
حتى فقدْنا مواضع أقدامنا في مدار الفصولْ!
آهِ!
ما أكثر البرتقال الذي يحملُ اسْمَ فلسطين
في طرقات المهاجر
لكنه ليس يحمل ماحفظتْهُ الطفولة من
عطرِها الحيّ!
هل تمنحُ الأرضُ أحشاءها للغزاة
وهل يحمل القاتلُ المتجهم وجه القتيلْ!
خيمة، وعمودٌ من النار
تلك فلسطينُ تطلعُ ثانيةً بعد أيْلولَ
تطلعُ بعد حزيران
تطلعُ في زمن الشهداءِ،
وتمتدُّ حتى تلامسَ من دمها صبيةً في المُخيّم
لم يشهدوا من فلسطينَ إلا الحنينَ إليها
وها هم يمدّون أجسادهم لتراب فلسطينَ قنطرةً
يملأون بأشلائهم هُوّةً
تتحدّر بين مُخيّمهم وسماء الجليلْ!
آه يا حَجلاً طائرًا خارج الأرض والوقت!
يُفرخُ ما بين مَنْفى ومذبحةٍ
ويريدُ فلسطين!
لكنه لا يرى من فلسطين!
إلا بمقدار ما تخرجُ النارُ من فُوّهات البنادق
حتى تعودَ به زغبًا ناعمًا
يتطايرُ فوق اخضرارِ السّهول!
لا أُبشّرُ بالموتِ!
لكنه سيكون حضارتكم
أيها القادمون لنا بالتوابيت محشوّة بالبنادق
لست أبشّرُ بالموتِ!
لكنه سيكون حصيد محاريثكم
ورفيق مواليدكمْ
وضجيعَ نساؤكمو.. الموتُ!
كيف يصيرُ الضحيةُ قاتلَ إخوتهِ
وتحلُّ محلَّ الفيولينة البندقية!
تلك فلسطين ما بيْننا
وحدود فلسطين ليست هي النهْرَ
إن حدود فلسطين آخرُ قطرة دم تسيلْ!
غابةً من هوادج في الليل والأنجمُ البيضُ أجراسُها
شجر الله، أشرعةٌ من عصورٍ خلتْ
تلتقي والنجومُ مصابيحُها
ثم ترسمُ مفترقًا
وتواصل في الحلم هذا الرحيلْ!
وفلسطينُ واقفة وحدها
خيمةً في العراء
تردُّ الجحافلَ عن ملكوتِ التشرُّدِ
من بعد ما فتحتْ لهم المدنْ السّبْعُ أبوابها
ودعاهم ملوك الطوائف للصّيد والقنْصِ
في الجسد العربيّ الجميلْ!
لم لا يدخلونَ؟
وقد وشموا ذلك الجسدَ المستباحَ بأسمائهم وعناوينهم
رشقوه براياتهم
رسموا فوقه مدنًا ومواخيرَ
واقتسموها
وولّوا عليها المماليك من كلّ عبدٍ خصيّ ذليلْ!
وأنا
وطيورُ المُخيّمِ
ليس لنا علمٌ!
مثُلُنا مثْلُ رمل الصحارى
ومثُلُ النخيلِ
ومثْلُ فلسطينَ ليس لنا عَلَمٌ!
ولنا مَلكوتُ التّشرد
ليس لنا غير هذا الطريق الطويلْ!

ويمتد الوتر المشدود، وتر الشجى والأسى الممتد في العديد من قصائد حجازي، وقد بدأ مخترقًا قصيدته التاريخية في وداع جمال عبدالناصر وعنوانها «الرحلة ابتدأت»، ناثرًا على وجه الكون، ومن خلال سطورها، بكائيته التي يقول فيها:

هذا حصانك شارد في الأفق يبكي،
من سيهمزه إلى القدس الشريف؟
ومن الذي سيكفّن الشهداء في سينا ومن يكسو العظام
ويُثبّت الأقدام إذ يتأخر النصر الأليم ونُبتلى
بمخاضه الدامي العنيف
ومن الذي تغفو عيون المريمات على اسمه،
أنّ المعاد غدًا إلى أرض السلام
ومن الذي سيؤمّنا في المسجد الأقصى،
ومن سيسيرُ في شجر الأغاني والسيوف
ومن الذي سيُطلُّ من قصر الضيافة من دمشقَ،
يُحدّث الدنيا ويُلحقها ببستان الشآم؟

ويظلّ هذا الوتر المشدودُ فينا، يهز وجدان مُتذوّقي هذا الشعر الجميل: لغة وتصويرًا وإبداعًا بالقلب والعقل، والرؤى، التي تفرش ظلها على المستقبل، وهي رؤى تقتات من دمنا، وتذكّرنا دومًا بطيور المُخيّم.

 

فاروق شوشة