جمال العربية

جمال العربية

بين صخر (أسوان) وعيون (كَسَلا)

د. عبدالله الطيب ليس مجرد شاعر سوداني يُسلك مع غيره من الشعراء السودانيين, من جيله أو من غير جيله. فهو ظاهرة فكرية وثقافية وأدبية ولغوية اجتمعت في واحد.

لقد كان هذا الواحد - لحسن حظ العربية - شاعرًا وأديبًا وباحثًا لغويًا ومؤرخًا أدبيًا وناقدًا. وظلّت هذه الوجوه المتعددة تتنازعه, يتقدم وجه منها في مجال ويتراجع آخر, لكنه في كل الأحوال استطاع أن يثبت لنفسه مكانة متقدمة بين الدارسين والمبدعين, حتى إذا حان يوم رحيله - في العام الماضي عن اثنين وثمانين عامًا - كان بين أيدي الناس من بعده ثلاث مجموعات شعرية هي: أغاني الأصيل وأضواء النيل وبانات رامة, وكتابه (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) (في ثلاثة أجزاء). قدم له الدكتور طه حسين بقوله: (هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع, ولا أعرف أنه أتيح لنا مثله في العصر الحديث, وإني لأسعد الناس حين أقدم إلى القارئ صاحب هذا الكتاب).

بالإضافة إلى كتبه (الحماسة الصغرى): مختارات من الشعر العربي. والاتجاهات الحديثة في النثر العربي بالسودان (وهي محاضرات ألقاها على طلبة معهد الدراسات العربية في القاهرة), وشرح أربع قصائد لذي الرّمة, والبرامكة (قصة شعرية من ثلاثة أجزاء) ومشروع السّدرة (وصف للقرية السودانية) ومع أبي الطيب, والقصيدة المادحة, والطبيعة عند المتنبي, بالإضافة إلى عشرات البحوث المجمعية التي أسهم بها في أعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ اختياره عضوًا به عام 1961.

والمتأمل في شعر عبدالله الطيب يجد روحًا هائمة دائمة التطواف والتحليق في موروث الشعر العربي, لا تبتعد عنه ولا تغادره ولا تنفصل عنه. هذا التطواف الطويل الدائم جعل من شعره في مرآة النظر المعاصر امتدادًا لشعر الأقدمين, ومحاكاة في الصياغة والمعجم الشعري والخيال الشعري, وترسّم الشواهد والأماكن والعلامات التي امتلأ بها الشعر القديم, خاصة الجاهلي منه. حتى ليكاد قارئ شعره أن يستشعر في إبداع عبدالله الطيب أنفاسًا من ذي الرمة وأقباسًا من المتنبي, واقترابًا من أراجيز رؤبة - في الافتتان بغريب اللغة وحٌوشيّها - والتفاتا شديدًا إلى عُدّة القوافي بين الخليل والأخفش, فضلا عن دوران مفردات هذا الموروث الشعري الملازمة كالليل والنجوم والأثافي والرماد والحمام والنؤى والأثلْ والبان.

وفي كل أحوال هذا الشعر وصوره, وبغض النظر عن المجال الذي ينطلق فيه صوت عبدالله الطيب وإبداعه, فإن للبنيان الشعري لديه رسوخًا وإحكامًا لافتًا, وكأنه ينحت شعره من جبل صخوره طيعة بين يديه, فهو لا يشعرنا بأن ثمة عنتًا أو معاناة, وإنما هكذا طبيعته تهوى الصعب وتركبه, وتصنع عُدّتها مما لا يطيقه الآخرون, فيستوقف النظر ويستثير التأمل, وينتهي بنا إلى الدهشة والإعجاب.

يقول عبدالله الطيب في قصيدة أسماها (صخر أسوان) نظمها - كما يقول في ديوانه - متأملا من نافذة القطار بين أسوان والقاهرة عام 1955, وإنها نظمت في أكثر من عام - وكأننا أمام صورة عصرية من حوليات (زهير) التي كان ينظمها على مدار الحوْل أي العام في العصر الجاهلي -:

يا صَخْر أسْوانَ إن القَلْبَ أسْوانُ(1) وَأنتَ من خمرةٍ خرساء نشوانُ
تلوحُ فيك وجوهٌ ما أبيّنها ومُبهماتٌ من الذكرى وأشجانُ


ثم يقضول:

ما للغرام يذيبُ الصدرَ لاعجهُ والدمع منك على الخدّيْن هتّانُ
أمن مُعتّقةٍ صِرْفٍ لها أََلَقٌ تمازجتْ فيهِ أضواءٌ وألحانُ
تحثّها مفردًا في جوف مُنصلتٍ(2) يستنُّ بالريف, فيه الأثْلُ والبانُ(3)
وربما اقتربت شمَّاء مُشرفةٌ تكاد تنقضّ أو صمّاءُ مِبْدانُ(4)
كأنّ لجَّةَ بلقيسٍ تجاذبُها فضل الإزار فناداها سليمانُ
فاذكر سليمان إذ نادى, ولاح له حياً تبلّج من بلقيس ريَّانُ!


وحين يصل إلى (النيل) في إطار هذه اللوحة الشعرية البديعة تتدفق شاعريته وهو يقول:

ياحبذا النيل أنّى كان مُنسربًا وحبذا ثبجٌ منه وكثبانُ(5)
وحبذا شاطئاهُ والنخيلُ ونيرانُ القرى, ومَعيز الحيّ, والضانُ
وحبذا وقفةٌ بالنيل إذْ دلكتْ(6) بعد المقيل, ورام الرِّيّ رُعيانُ
يا صخر أسوان قد أَضْفَتْ صبابتُنا أسى عليك, فأنت الآن أسوانُ
والنيل تحْتَك منسابٌ, مرفرفةٌ عليه من عَذبات السَّنط أغصانُ
أحبّ مصرّا لُجْتُ النيلَ مُغتربًا بها, ولي منه كاسات وندمان
والنيل يهجسُ في أعماق أنفسنا مذ نحن في سُبحات المهد ولدان(7)


ولنا أن نتخيل - بعين الحاضر - عبدالله الطيب وهو يتأمل المشهد من حوله: صخر ونيل ونخيل, وأسوان بوابة مصر في طريق القادم من السودان متجها إلى القاهرة, فيفاجئنا أن خياله الشعري يستحضر أمرؤ القيس - من مخزون الذاكرة الحيّ - وهو يبكي من فراق أحبّته وذكراهم, ويلتحم الموروث وينصهر في وجه اللحظة الحاضرة وحُميَاها في عجينةٍ شعرية بديعة, يقول فيها:

بكى امرؤ القيس من ذكرى أحبته وللأحبة في جنبيْك عرْفانُ
ولو بكيْت لفاض الدمع واشتعلت من الأسى في معين الدمع نيرانُ
صبْرًا على الدهر إن نابتْك نائبةٌ ومَضّ نفسك عُدوان وخذلانُ
نخادع الناس عن نجوى ضمائرنا وفي قرارتها جهرٌ وعصيانُ
نبغي السلامة, هيهات السلامةُ والـ أحشاءُ ظامئةٌ, والقلبُ غَرْثانُ!(8)


حديث الاغتراب بما يصاحبه من لوعة وحنين هو المسيطر على الشاعر في رحلاته وتنقلاته من جنوب الوادي - في السودان - إلى شماله في مصر, مرورًا بأسوان وصخر أسوان, وتأملا من نافذة قطار الصعيد, وهو اغتراب وحنين وذكرى أفسح له عبدالله الطيب مساحة واسعة من خلجات وجدانه وإبداع ريشته القادرة على التصوير في قصيدته (غربة وذكرى) إحدى قصائد ديوانه (أصداء النيل) الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1957:

طال اغترابُ الوحيدِ عن وطنِه وحَنَّ هدْءَ الدُّجَى إلى سكنهْ
وادّكر الأقربين فانهملَ الدمعُ كسحَّاح وابلٍ هَتِنِه(9)
لا خير في البعدِ لا ينال به الـ مرْءُ سوى ما يزيد في حَزَنِه
والدهر كرّارةٌ نوائبهُ لا تُؤمنُ الغائلاتُ من محنِه
منّاك وعدًا حتى اغتررْتَ بِهِ فقد غرِمْتَ العزيز في ثمنِه
شوقًا إلى النيل ذي البشاشة كمْ سعدْتُ في ريفه وفي مُدنه
وكم تحسّيْتُ من سُلافَتِه مُكرّمَ العِرْضِ غَيْرَ مُمْتَهنِه
لولا المقاديرُ كان أحرزني ما لا ينالُ العُداة من أَمَنِه(10)
ولم أَقضّ الأيام مُدجنةً في بلدٍ قد سئمتُ من دَجَنِه
ولم أعلّم بني الأعاجِمِ من كلّ عييٍّ لا يُبيّن من لَكَنِه
يطرُقني الهمُّ لا أَبيتُ بلا قلبٍ كليم الفؤادِ مُحْتَزِنه
لو استطعتُ ارتفعتُ في جبلٍ أرْقَى إلى الفارعاتِ من قُنَنَهِ(11)
حتى أذود الهموم هاجسةً تنتهبُ الطّرْف من حِمى وَسَنِه
يُخيّلُ الطّلْحُ والسّيالُ لعِينِكَ وَبَهْمٌ يشِبّ من عُنَنِه(12)
ومُسْتقٍ ماتحٌ ومُحتطبٌ وذو جناحٍ ينوحُ في فَننِه
وحبّذا الملتقَى يُطارحكَ الشعْرَ بأظلالهِ ذوو فطنِه
يا ليت شعري متى أعود فقَد بَرح نأْيٌ ولجّ في شَطنِه(13)
نبا بنا العيش في مرابِعنا بعد مليحٍ من الصبا أَرِنه(14)
حلأنا موردَ السعادة لو جاد رضينا بالثّمْدِ من مُعْنِه(15)
ولم نزل نركب الفجاج إلى الـ رزقِ, ونطوي الحشى على ضغنِهْ
نرقبُ أن يُفسحَ المضيقُ وأن يُفضى بنا لاحبٌ إلى سَنَنِهْ(16)
تلك أعاليلُ والفتى غرضٌ للصُّيَب المُصمياتٍ من زمنِهْ(17)
إن الثلاثين إن دَنتْ قرُبَ الـ مرءُ, إلى أن يُجنْ في جَنَنِه
سقى الحيا كلّ أجرعٍ عطرٍ بالنال ترّدِى الظباءُ في دِمنه(18)
وجاد (تُوتيلَ) والأهلّة من (تكروف) مُزجى الغُيوثِ في مُزنهِ(19)
والجبلَ السّاميّ المطلَّ على الـ وادي الذي حلّه بنو حَسَنِهْ(20)
متوّجًا بالسحاب مثل دخان الطّلْحِ قد عجّ حول مُدّخنِه
أمْلسَ ضحْيانَ ليس يَصعدُهُ راقٍ شديدُ القوى لمُمْتحنِه
به رعيْتُ الصّبا, وربّبني ما شئتُ من شُهْدهِ ومن لبنِهْ
يا ويْح نفسي متى معاد أخي الـ غُربة بعد النّوى إلى وطنِهْ
وكاشح ذي عداوةٍ حَنقٍ ممتلئ الصّدْر من قَذَى إحنِه
دعْهُ ستكفيكهُ عداوتُه حين يُقاسي الجحيم من شَحَنِهْ
يا رُبّ كأسٍ صِرْفٍ معتّقةٍ تردُّ سالي الهوى إلى شَجنِه
نازعْتُها والحديثَ ذا مقةٍ أمزج جهلا منها إلى طَبَنهِ
وذاتِ وقفٍ زهراءَ غانيةٍ كالنّوْرِ رفّ الندى على غُصُنِه
ناجيْتُها سرَّ ليلةٍ كَمَلٍٍ حتى استقلّ الصباح من وَكَنِه
ومُغلقٍ طيُّه فرائدُه بدائعُ الأوّلين في خزنِه
كشفْتُ عنه والليل مُشْتملٌ نُوّامُه مُدْرَجُون في كَفنِه
ذاك عزاءٌ وما يدوم من الزّ مانِ ذو صفْوهِ وذو دَرنِه
لا يحسبُ الظالمون أنّهمو ناجون من ريْبه ومن فِتنِه
تدفّق الشعر من فؤادكَ كالسّيْلِ فدعْهُ يستنُّ في سُنَنِه
هو الشفاءُ المريحُ إن عظُم الداءُ وغاب الطبيبُ عن زَمَنِه
والشعرُ يستنزلُ الهموم من الـ نفْسِ, ويُلهي المغبونَ عن غَبنِه


أول انطباع تخرج به من القراءةَ الأولى لهذه القصيدة أنها تذكرنا, أو لعلها تحيلنا إلى نص قديم للعباس بن الأحنف - الشاعر العباسي الذي أوشك أن يكون عذريا لفرط رقته وتصوّنه وتعفّفه -. وأبيات العباس جيّاشة بالحنين ولوعة الشعور بالغربة والاغتراب, وقد رأى نفسه في مرآة طائر يشاركه البكاء على وليفه, كل منهما يهزّه شجنه, وكل منهما يشارك الآخر بلواه.

يقول العباس بن الأحنف:

يا غريب الدار عن وطنه مغرّدًا يبكي على شجنه
كلّما جَدّ البكاءُ به دبّت الأسقامُ في بدنه
ولقد زاد الفؤادَ شجًا طائر يبكي على فَنَنِهِ
شفّه ما شفّني, فبكى كلُّنا يبكي على سكنِهِ!


الانطباع الثاني أن لغة العباس - وهو العباسيّ القديم - ألين وأسلس وأرقّ, لغة ليّنة وراءها طبع ليّن, ونفس سمحة. أما لغة عبدالله الطيب ففيها من الصخر والجبل, وفيها أيضًا من سلاسة النيل وتدفقه. لكن معجم الصحراء التي كوّنت طفولة الشاعر وكانت مهاد ذكرياته الأولى يظلّ طاغيًا, ومُستدعيًا لمفرداتٍ بعُد بها العهد ولم تعد في مألوف النفس ومتداول كلامهم.

الانطباع الثالث أن الجمال الذي ينسرب إليْنا من ثنايا هذه القصيدة من شعر عبدالله الطيب, جمال صعب عتّي, يتطلب اكتشافه وتذوّقه مجاهدة ومعاودة, لأنه ساكن في أغوار وجدان الشاعر, وقاع شجنه العميق, متشّح بخياله المقتحم, وإيقاع موسيقاه الهادر, في موجات بحر المنسرح الذي صيغت منه القصيدة
-------------------------------
(1) أسوان الأولى اسم مدينة في أقصى صعيد مصر. وأسوان الثانية بمعنى حزين من أَسِي وأسَا بمعنى حزِن. (2) المُنصلت: يقصد به القطار السريع. (3) الأثْل والبان: الأثل: شجر طويل مستقيم يُعمّر, جيد الخشب. والبان: نوع من الشجر طويل ليّن, ورقه كورق الصفصاف, تُشبّه به الحسان في الطول واللين. (4) مبْدان: ضخمة. (5) ثبج النهر: أعالي موجه. (6) دَلَكت الشمس: أي مالت واقتربت من وقت المغيب. (7) سُبُحات: من ألفاظ الصوفية, وأصلها: من سُبحات وجه الله أي أنواره. والسُّبّوح: من صفات الله, أي من تنزه عن كل سوء. (8) غرثان: جائع. (9) الوابل: المطر الشديد. هَتِنِه: كثير القطْر. (10) أمَنِه: بفتح الميم هي أمْنه: بسكونها. (11) قُنَنِه: جمع قُنّة وهي قمة الجبل. (12) عُننِه: جمع عُنّة: وهي حظيرة الماشية. (13) شطنه: الشطن هو البعد, وتطلق أيضا على الحبال التي يُدلّى بها الدلو في البئر. (14) أرِنه: النشيط, الخفيف الحركة. (15) مُعُنِه: المياه, جمع معين. والثمد: القليل من الماء. (16) اللاحب: الطريق الواضح. (17) الصُيّب جمع صيّبة أي صائبة وهي الحادثة التي تصيب الإنسان. المُصمّيات: القاتلات والمهلكات. (18) الأجرع: الأرض التي تشبه الرمل في طبيعتها. (19) النال: نوع من العشب. (20) الأهلّة: الغدران. (توتيل) و(تكروف) عيْنا ماء بناحية وادي كَسَلا. (21) الوادي: يقصد به (جبل كسلا) وفيه حِلّة (الختمية). والحلّة هي البلدة الصغيرة أو المكان الذي يقيم به الناس. وفي سينية البحتري:

حِللٌ لم تكن كأطلال سُعدى في قفارٍ من البسابسِ مُلْسِ


 

فاروق شوشة