ملف غسان كنفاني: عاطفة المقاومة

بعد أن حصل غسان كنفاني على شهادة الدراسة الثانوية سجل في كلية الآداب جامعة دمشق، وسافر إلى الكويت للعمل كمعلم،. وفي الصيف كان يعود لدمشق لقضاء عطلة الصيف وتقديم الامتحانات الجامعية. وفي بداية صيف العام 1958 طلب الحكم دروزة مني ومن غسان الاجتماع به، وكان الحكم من العناصر القيادية في حركة القوميين العرب، وكنت وغسان من أعضاء الحركة الذين لهم اهتمام أدبي يتمحور في نشاط رابطة «الأدب والحياة» التي كان من أعضائها أحمد خليفة وبلال الحسن.

 

أخبرنا الحكم أن اللجنة الثقافية في الحركة قررت أن تطلب من غسان ومني التفرغ لكتابة مجموعة قصص قصيرة حتى يتم طبعها في كتاب يتم توزيعه بشكل كبير خصوصًا في المخيمات الفلسطينية.

 

تحمسنا جدًا للموضوع، وبعد أقل من نصف ساعة من مغادرة الحكم دروزة مكان اجتماعنا به في مقهى الفارق كنا قد اتفقنا على أن يكتب كل واحد منا ست قصص، كما قررنا أن يكتب أحدنا قصة بعنوان «أول عائد»، ليكون ذلك عنوان الكتاب، وشرع غسان على الفور في رسم وجه «أول عائد» الذي سيظهر على غلاف الكتاب.

 

تفاقمت أوضاع سياسية سريعة حالت دون طبع الكتاب، مع أن غسان أنهى كتابة ست قصص بعد بضعة أسابيع، كما تمكنتُ من إنهاء قصصي الست، بعد بضعة أشهر، ولكنني أذكر هذه القصة لأنه حدث فيها ما رأيت فيه بعد سنوات أنها للصفة التي ستلازم غسان كنفاني طوال حياته. ففي نهاية ذلك الصيف جاء غسان ليودعني قبل عودته إلى الكويت، وليطلب مني أن أرسل له بالبريد نسخة عن قصصي الست فور انتهائي من كتابتها، لأنه يريد أن يكتب مقالًا نقديًا عن القصص الاثنتي عشرة ليكون حاضراً للنشر فور صدور الكتاب، وعندما أبديت لغسان دهشتي واستغرابي من عزمه على أن يقوم بدور الكاتب والناقد في الوقت ذاته، قال بإصرار إنه لا يوجد إنسان يعرف نقاط القوة ونقاط الضعف في هذه القصص أكثر منه أو مني، ولذلك يجب على واحد منا أن يقوم بكتابة المقال النقدي الأول للقصص، ثم أضاف أنه كان، في الواقع يفضل لو أقوم أنا بهذه المهمة، ولكنه يعرف أنني لن أتمكن من كتابة المقال بالسرعة المطلوبة، ولذلك سيقوم هو بذلك وسينشره، بالطبع، بتوقيع اسم مستعار.

 

بعد سنتين من ذلك الصيف، ترك غسان الكويت حيث استدعته حركة القوميين العرب إلى بيروت ليعمل محررًا للقسم الثقافي في مجلة الحركة الأسبوعية، «الحرية».

 

وصل غسان إلى بيروت في العام 1960، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وقامت المخابرات الإسرائيلية باغتياله في العام 1972 وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وفي السنوات الاثنتي عشرة التي عاشها في بيروت نشر خمس روايات، وثلاث روايات غير مكتملة تم نشرها بعد استشهاده، وأربع مجموعات للقصة القصيرة، ومسرحيتين، وأربع دراسات تاريخية، سياسية، أدبية، ومئات المقالات السياسية والفكرية والأدبية التي كان يكتبها بشكل يومي كمحرر للقسم الثقافي في مجلة «الحرية» ثم كرئيس تحرير جريدة «المحرر»، ثم كرئيس تحرير لجريدة «الأنوار»، ثم كرئيس تحرير لمجلة «الهدف»، ومئات المقالات الأخرى بتوقيع أبوالعز، وتوقيع غينكاف، وتوقيع فارس فارس، وتوقيعات أخرى غير معروفة، وعلى الأغلب أنها لن تعرف أبدًا. وهذا يعني أنه في اليوم الواحد كان يكتب الأخبار الرئيسية في الجريدة، وكان يكتب الافتتاحية في الصفحة الأولى، ومقالًا أو تعليقًا في القسم الثقافي بالصفحات الداخلية، وكان يكتب جزءًا من الرواية، وجزءا من القصة القصيرة، وجزءاً من الدراسات الفكرية، ويبدو أن كل ذلك لم يكن كافيًا، ولذلك كان لا ينام قبل أن يكتب في جرائد أو مجلات أخرى وبأسماء مستعارة.

 

كان مسكونًا بعاطفة «الكتابة الكاملة»، كتابة القصة وكتابة نقدها، كتابة الخبر السياسي وكتابة التعليق عليه، الكتابة الإبداعية والكتابة الفكرية، الكتابة العلنية والكتابة السرية.

 

هل هناك معنى ما لهذه العاطفة؟ هل هناك من دلالة لعاطفة الكتابة في حياة غسان تتجاوز تجربته الشخصية وتخص قضية أشمل وأعم؟ وماذا يعني كل ذلك بالنسبة لنا اليوم وقد مر أربعون عامًا على استشهاده؟

 

أعتقد أن من أفضل من فهم هذه الأسئلة وحاول الإجابة عنها هو إدوارد سعيد، وخصوصًا في مقالته المشهورة «النثر والنثر القصصي العربي بعد 1948.

 

يعبرُ عنوان المقالة عن فهم إدوارد سعيد لدور العام 1948 في التاريخ العربي، فهو يرى أنه في السنوات التي سبقت ذلك العام، كان الإنسان العربي يعيش في «الحاضر» وهو منسجم مع «الماضي» ومرتاح لإمكانات «المستقبل»، فلقد كان «الحاضر» يعني الإسراع في خطوات حركات الاستقلال التي بدأت منذ مطلع القرن، حتى يتم الوصول إلى مستقبل يتم فيه التحرر الكامل من حكم الاستعمار الأوربي وتحطيم الحدود المصطنعة التي أوجدها بين البلدان العربية، من أجل بناء مستقبل عربي جديد يستعيد فيه العرب دورهم الحضاري الذي حطمته قرون من عصور الانحطاط وقرون من ظلام الحكم العثماني. كان «الحاضر» يشكل الجسر الذي سيتم فيه العبور من «الماضي» للوصول إلى «المستقبل». ثم جاءت نكبة 1948، كصاعقة، كانفجار، كزلزال، لم يكن أي شعب عربي أو أي حزب عربي، أو أي فرد عربي قادراً على مواجهتها. ولقد نجم عن ذلك العجز الكامل تمزق العلاقة بين الأزمنة الثلاثة في الحياة العربية. فمع قيام إسرائيل، تفكك «الماضي»، وتبعثر «الحاضر»، وغاب «المستقبل» في متاهات من القلق والخطر وعدم اليقين. لم يعد «الحاضر» الجسر الذي تتسارع فيه خطوات الاستقلال الوطني للوصول إلى «المستقبل» العربي، بل أصبح المكان غير المستقر الذي يئن تحت الضربات الموجعة لقوى تريد تقويض المشروع القومي وتفتيت الهوية العربية، وتكريس التجزئة والتشتيت والخراب. وفي هذا السياق أصبحت المهمة الأولى للكاتب الملتزم هي «إنتاج فكر ولغة يجسدان إرادة الدفاع عما هو مهدد بالانقراض في الحياة العربية»، ويعتقد إدوارد سعيد أن ثورة 23 يوليو من العام 1952 في مصر وما تبعها من نهوض حركة التحرر الوطني في أرجاء العالم العربي قد أوجدت الظروف الموضوعية لتكريس المضمون الواضح والمحدد لمهمة الكاتب الملتزم، وهي الكفاح ضد القطيعة والتمزيق والكسر الذي أحدثته إسرائيل في التاريخ العربي، أي الكفاح لاستعادة الصلة بين «الماضي» و«الحاضر» و«المستقبل» في الحياة العربية في إطار المشروع القومي. وهذا يعني أن الكتابة الملتزمة أصبحت «عملاً تاريخيًا» أي «عملا مقاوما».

 

الكتابة المقاومة

ويرى إدوارد سعيد أن من أفضل الأمثلة على «الكتابة المقاومة» هي رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» التي يعتقد أنها من أبرع وأقوى الروايات القصيرة في الأدب الحديث. وهو يرى أنها «عمل مقاوم» لأنها تمكنت من «تغيير الواقع» عبر قدرتها على «إلغاء المسافات بين اللغة والواقع».

 

حتى نتمكن من فهم الذي يعنيه إدوارد سعيد من مقولة «إلغاء المسافات بين اللغة والواقع» علينا أن نعود إلى المقال المهم الذي كتبه بلال الحسن في الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاد غسان.

 

ففي ذلك المقال يقول بلال: «في الكويت... وفي العامين 1957 - 1958، كان غسان يكتب رواية عن حياة المقيمين في الكويت..، وأثناء كتابة تلك الرواية التي لم تكتمل ولم تظهر، نشرت الصحف حادثة العثور على جثث عدد من العمال عند مكب نفايات المدينة، وقيل إنهم ماتوا داخل خزان سيارة نقلتهم ليعبروا الحدود تهريبًا واختنقوا داخل الخزان». ويقول بلال إن هذه الحادثة جعلت غسان يتوقف عن كتابة روايته ويبدأ في كتابة الرواية التي أصبحت «رجال في الشمس».

 

أخذ غسان من «الواقع» حادثة العمال الذين ماتوا اختناقًا، وصاغ منها قصة أبوالقيس، وأسعد ومروان، الفلسطينيين الثلاثة الذين حضروا من مخيمات الشتات إلى البصرة، بهدف البحث عن شخص يساعدهم، مقابل أجر، على الدخول غير القانوني إلى الكويت، حتي يتمكنوا من كسب الرزق الذي يساعدهم على الحياة ويساعد عائلاتهم التي تركوها في المخيمات بلا معيل. وفي البصرة تعرفوا على «أبوالخيزران» وهو فلسطيني يعمل كسائق لسيارة من سيارات نقل المياه عند تاجر كويتي، فنجح في إقناعهم بأنه سيعود إلى الكويت وصهريج سيارته خال من المياه، وإذا سافروا معه فما عليهم إلا قضاء بضع دقائق في الصهريج عند مركز الحدود العراقي وبضع دقائق أخرى عند مركز الحدود الكويتي، بينما يقوم هو بإجراء معاملات السيارة، وأكد لهم أنه يعرف موظفي الحدود في المركزين، ولذلك فإنهم لن يقوموا بفتح صهريج السيارة وتفتيشه. وقد تمت الرحلة وفق تلك الخطة حتى وصلت السيارة إلى مركز الحدود الكويتي، فلم يتمكن أبوالخيزران من التخلص من الدعابات السمجة لموظف الحدود بالسرعة المطلوبة، فمات الثلاثة في داخل الصهريج من الاختناق.

 

كان الفلسطينيون الثلاثة، أبوالقيس وأسعد ومروان، ينتمون إلى أجيال مختلفة، ويعيشون أوضاعًا مختلفة، ولهم رؤى مختلفة، وقد وصف غسان قصة كل واحد منهم على حدة، ومع ذلك فلقد كان هناك عامل مشترك بين هذه القصص الثلاث. وهو أن كل واحد من الأشخاص الثلاثة جاء للبصرة حتى يتخلص من الأزمة التي يعيشها، والتي تتلخص في أنه كان يعيش وهو عاجزٌ عن فهم أي شيء في الواقع الذي يعيشه إلا بمقدار ما يذكره هذا الشيء بواقع «البلاد» التي تركها في العام 1948، وفي الوقت ذاته فإن بقاءه وبقاء عائلته يتوقف على قدرته على العمل وكسب الرزق في مجالات ليس لها علاقة بتلك «البلاد». كان كل واحد من الفلسطينيين الثلاثة يعيش الواقع بتوتر مستمر وصعب. التوتر بين متطلبات «فهم العالم» ومتطبات «البقاء في العالم»، التوتر بين تعزيز الصلة بفلسطين وقطع الصلة بها، ومن الطبيعي أن تكون نتيجة النهاية المرعبة لذلك التوتر في حياة الثلاثة داخل الخزان هو ارتفاع وتيرة التوتر في حياة غسان كنفاني إلى الدرجة التي لم يعد قادرًا فيها على متابعة الرواية الطويلة التي كان يكتبها، وفي الوقت ذاته قادر على كتابة رواية جديدة كاملة وفي وقت قصير.

 

إلغاء المسافة بين اللغة والواقع

ومن الطبيعي أن تكون نتيجة قراءة ما كتبه غسان، بتوتر عال ألغى المسافات بين اللغة والواقع، هو رفع درجة التوتر في حياة كل قارئ، يعاني بشكلٍ أو بآخر، من الانقطاع والتمزق الذي حدث في العام 1948، وارتفاع درجة التوتر يستفز القارئ للفعل والعمل وعدم الاستكانة للأمر الواقع، ومن هنا ندرك أن الكتابة تصبح عملًا مقاومًا عندما تغير من حياة القرّاء، أي تغير من الواقع، ومن هنا ندرك أن عاطفة «الكتابة الكاملة» عند غسان كانت تعبيرًا عن الرغبة في التغيير الكامل، التغيير بواسطة الخبر، والتغيير بواسطة المقال، والتغيير بواسطة الرواية، والتغيير بواسطة الدراسة، فالكتابة هي المقاومة، و«الكتابة الكاملة» هي «مقاومة كاملة».

 

ولكن غسان ابتدأ نشاط المقاومة بالرسم وليس بالكتابة. فعندما كان لايزال تلميذًا في المدرسة الثانوية كان معروفًا بلوحاته الملونة التي كانت تعلق على جدران مدارس الفلسطينيين في دمشق، واللافتات التي كان التلاميذ يحملونها في تظاهرات أيام وعد بلفور والتقسيم و15 مايو السنوية، وأذكر أنني عندما تعرّفت عليه أول مرة، أن بادرته على الفور بسؤال عن نشاطه الفني، ففاجأني بالقول إنه يهتم بالكتابة أكثر من الرسم، ولما سألته عن السبب في ذلك قال إنه لا يستطيع أن يعبر عما يريده بالكتابة أكثر من الرسم، وبعد بضع سنوات اكتشف غسان أنه يستطيع أن يعبر عما يريد أن يقوله بالرسم. ففي العام 1961 وبعد سنة واحدة من مجيئه إلى بيروت كان يقوم بإحدى زياراته الدورية لمخيم عين الحلوة قرب صيدا التقى بشاب عرض عليه لوحاتٍ من رسمه، فأخذ غسان أربعا من تلك اللوحات، وبعد أيام فوجئ ذلك الشاب بلوحاته منشورة في مجلة «الحرية» ضمن مقال لغسان بعنوان «ينتظر أن نأتي»(4) وصف فيه رسوم ذلك الشاب بأنها تتشكل من «خطوط حادة»، ولها «ألوان راعبة قاسية» وتعبر عن «الذي يجيش في صدره بشكل أكثر من كاف». وكما هو معروف، فلقد شكّل هذا المقال بداية رحلة ناجي العلي. وهي رحلة شبيهة إلى حد بعيد برحلة غسان كنفاني. فلقد ابتدأ نشاطه عضوًا في حركة القوميين العرب، وفي العام 1963 سافر إلى الكويت وعمل هناك كرسام كاريكاتير في مجلة الطليعة التي كانت تصدر عن حركة القوميين العرب في الكويت، والتي نشرت أول كتابات غسان كنفاني عندما كان يعمل أستاذًا في الكويت.

 

وعاد إلى بيروت وعمل في الصحافة اللبنانية، وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982 اعتقلته السلطات الإسرائيلية، وبعد الإفراج عنه سافر إلى الكويت وعمل هناك في صحيفة «القبس» تم إبعاده في العام 1985 إلى لندن فعمل هناك في مكتب «القبس» الذي يشرف على طبعة القبس الدولية.

 

ناجي العلي.. الاغتيال

وفي يوليو 1988 تم اغتياله على يد عميل للمخابرات الإسرائيلية. ومن الممكن أن نفهم رسوم ناجي العلي وكأنها الاستمرار الطبيعي لكتابات غسان، وخصوصًا بعد أن أصبحت، ومنذ أواخر الستينيات، ممهورة دائمًا بصورة «حنظلة». فهذا الصبي الذي أصبحنا نراه صباح كل يوم، حافي القدمين، رث الثياب، ونرى يديه معقودتين وراء ظهره، ومديرًا ظهره للقراء، كان في الواقع يشكلُ الوجود المادي المحسوس لمقولة إدوارد سعيد عن دور العام 1948 في التاريخ العربي، فحنظلة في العاشرة من عمره، وهو عمر ناجي العلي في العام 1948، وهو لا يكبر أبداً، كما أننا لم نر وجهه أبدًا، وذلك تذكير بأن ما حصل في العام 1948، من انقطاع وتمزيق مازال على حاله ومازال غير مفهوم ولا أحد يتعامل معه.

 

التقيت ناجي العلي مرة واحدة في بيروت ولمدة دقائق فقط. كان ذلك في مايو من العام 1957 وكنت أزور بلال الحسن الذي كان يومها يعمل مديرًا لتحرير الجريدة الجديدة (السفير). ودخل علينا شاب أسمر نحيل، قال لي بلال إنه يرسم الكاريكاتير في «السفير» وأن رسومه تكتسب شهرة متزايدة. وبعد أن ترك، حدثني بلال بأن قيادة منظمة التحرير متضايقة من التأثير الذي تحدثه رسوم ناجي الانتقادية، وقد عرضت عليه أن ترسله ببعثة دراسية إلى روما.

 

بعد أشهر من اغتيال ناجي العلي كنت مع أحمد خليفة وأسعد عبدالرحمن في بيت بلال الحسن في باريس، حيث كان قد انتقل إليها ليصدر مجلة اليوم السابع، وكان في ضيافة بلال نجما فن الكاريكاتير العربي جورج البهجوري وبهجت عثمان.

 

وفي أثناء السهرة حدثنا بلال أنه حدث في أواخر السبعينيات أن حضر بهجت من القاهرة إلى بيروت، ومن المطار أخذ سيارة إلى دار جريدة السفير، ودخل على بلال وهو يحمل حقيبة السفر ويسأل: أين ناجي العلي؟ أين ناجي العلي؟ ثم نهض بلال وأخذ يمثل لنا كيف انحنى بهجت أمام ناجي العلي، وراحتا يديه مضمومتان تحت ذقنه على الطريقة اليابانية، وكأنه يبايعه بإمارة رسم الكاريكاتير العربي، وعلى الفور انتهزت الفرصة وسألت بهجت لماذا فعل ذلك؟ فأخذ هو وجورج بهجوري يشرحان لنا ما يعتقدان أنه كان إنجاز ناجي العلي التاريخي في فن الكاريكاتير العربي.

 

فلقد كان الكاريكاتير العربي في مجمله، وفق رأيهما، امتدادا ومحاكاة للكاريكاتير المصري الذي كان بدوره «كاريكاتير الفكرة» أي أن الكاريكاتير يعبر عن فكرة ما، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الفكرة هو الرسام ذاته، بل قد يكون رئيس التحرير أو أحد المحررين، حتى جاء ناجي العلي بـ «كاريكاتير العاطفة» الذي يحرك عواطف القراء، والذي أصبحت له شهرة جماهيرية لا يمكن لكاريكاتير الأفكار أن يحظى بها، وبعد أن استمعت لهذا الشرح من اثنين من رواد الفن الكاريكاتيري، تأكد عندي ما كنت أعتقد به من أن ناجي العلي وغسان كنفاني يمثلان ظاهرة واحدة، ظاهرة عاطفة الفن التي يصبح لها وجود مادي قادر على التأثير والتغيير والتثوير. وفي هذا السياق خطر لي أن المدة التي مارس فيها ناجي العلي الرسم الكاريكاتيري كانت حوالي 25 سنة، وأنه ولو كان يرسم كاريكاتيرًا واحدًا في اليوم لكان قد ترك وراءه حوالي تسعة آلاف كاريكاتير، ولكنه ترك في الواقع، حوالي أربعين ألف كاريكاتير، أي أنه كان يرسم أكثر من أربعة في اليوم الواحد وذلك لأنه كان مسكوناً بعاطفة الرسم كما كان غسان مسكونًا بعاطفة الكتابة، فالرسم كان بالنسبة لناجي تماما كما كانت الكتابة بالنسبة لغسان، والتي وصفها إدوارد سعيد بأنها «عمل تاريخي» و«فعل مقاومة»، فلقد سار ناجي على طريق غسان: طريق المقاومة الكاملة، ولذلك كان عليه أن يواجه نفس مصير غسان: الاغتيال. ولكن كان هناك اختلاف جوهري بين استشهاد غسان كنفاني في العام 1972، واستشهاد ناجي العلي في العام 1988، في الحادثة الأولى كانت أصابع الاتهام موجهة نحو إسرائيل فقط، ولقد تبين في ما بعد أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير قد قامت بنفسها بالتوقيع على أمر اغتيال غسان. أما في الحادثة الثانية فلقد كان الأمر مختلفًا، فلم توجه أصابع الاتهام نحو إسرائيل فقط، بل إنها أكدت تورط جهات عربية وفلسطينية أيضًا في العملية.

 

ومع مرور السنوات اتضح أن اغتيال غسان كنفاني وناجي العلي كان فقط عبارة عن رأس جبل الجليد لعملية تاريخية كبرى تمثل مصالح إسرائيل وحلفائها من الأنظمة العربية (العلنيين والسريين) وتعمل بإشراف مؤسسات أمريكية ولها هدف واحد، وهو تحطيم «عاطفة المقاومة» في العالم العربي.

 

كان أسلوب القتل الذي تم اتباعه مع غسان وناجي هو المقدمة الافتتاحية المدوية لهذه العملية التاريخية الكبيرة، وبعد ذلك أخذت العملية «تتمأسس» وفق أسلوب «متدرج»، و«ناعم»، يرتدي أقنعة «الحداثة»، و«الثقافة».

 

عاطفة المقاومة

يمكن القول إن الهدف النهائي لهذه العملية هو القضاء على «عاطفة المقاومة» في العالم العربي واستبدالها بـ «عاطفة العم توم». أي خلق مناخ سياسي - ثقافي عربي يكرس المقولة التي تؤكد أن استعادة الحقوق المغتصبة لا ينجح بأسلوب مقاومة المغتصب، ولكن بأسلوب استرضاء المغتصب. ويمكن القول إن عملية تأسيس هذا المناخ في العالم العربي، قد تقدمت بتأثير عاملين، الأول كان يخص أنظمة الحكم العربية التي أصبحت، ومنذ منصف السبعينيات، أسيرة مصالح فئوية وعائلية وطبقية، فقدت شرعيتها الوطنية، حتى سقطت في مستنقع الشرعية الأمريكية التي تمنحها حكمة الولايات المتحدة للحكومات التي تقوم بتنفيذ إملاءاتها بشكل كامل، والتي هي إملاءات إسرائيلية. أما العامل الثاني فهو ظهور قوى سياسية لا تعارض الأنظمة انطلاقًا من مواقف مبدئية، ولكن من منطلق الصراع على السلطة، فسقطت أيضًا في مستنقع الشرعية الأمريكية، حيث أخذت هذه القوى المعارضة تصوغ مواقفها ومطالبها ورغباتها وفق ما هو مقبول أمريكيًا، أي ما هو مقبول إسرائيليا, وهكذا تأسست وتطورت ثقافة العم توم، ليس فقط كثقافة معادية للمقاومة، ولكن كثقافة خارج حدود الكرامة الإنسانية، فهي في الواقع ليست بعيدة عن نموذج «السيد والعبد»، وذلك لأنها ثقافة مبنية على أساس أن هناك «سيدًا» في هذا العالم قادر على منح الشرعية للشيء وضده، منح شرعية الحكم، ومنح شرعية المعارضة.

 

ومن نموذج «السيد والعبد» يمكن لنا أن نفهم المواقف السياسية العبثية وغير العقلانية التي يقوم بتكريسها عرب العم توم، سواءً في الحكم أو المعارضة، والتي ترد على الحروب التي تشنها الولايات المتحدة وإسرائيل على البلدان العربية واحدة تلو الأخرى، بتكريس محاور نبذ «العنف» وتكريس «السلام»، نبذ «الصراع» وتكريس «التفاهم»، نبذ «الاختلاف» وتكريس «الاتفاق»، نبذ «المقاومة» وتكريس «القبول»، فليست هناك أي بدائل أمام العبد الا إرضاء سيده، وعندما يغضب السيد فليس هناك أمام العبد إلا العمل على ابتكار وسائل جديدة لإرضاء السيد.

 

ولقد تعاظم نشاط القائمين على نشر ثقافة العم توم في البلدان العربية منذ مطلع القرن الجديد، وذلك ردًا على الانتصارات التاريخية التي أنجزتها المقاومة في لبنان والعراق وغزة، فتزايد عدد وسائل الإعلام وعدد مراكز الأبحاث، وعدد المؤتمرات التي تعمل على نشر محاور تلك الثقافة. ومع ذلك، فإن من الواضح أن كل هذه الجهود لم تستطع أبدا أن تجعل من طروحات العم توم جزءًا من عالم الثقافة العربي الحقيقي، وكل ما حققته وبعد أربعين سنة هو تحقيق وجود في عالم ثقافة السياسة الملبتس، تمثل في صحف ومجلات وفضائيات، في مراكز أبحاث وفي مؤتمرات وندوات، كلها تعمل من أجل تحقيق هدف واحد وهو تقليص مساحة المعرفة الإنسانية في العالم العربي. أما عالم الثقافة الحقيقي فهو مازال ملكًا لعاطفة المقاومة، عاطفة غسان كنفاني، وعاطفة ناجي العلي، وعاطفة إدوارد سعيد.
----------------------
* أكاديمي في جامعة كندا - واترلو.