مدن عربية: فاس 1950
هذه رؤية كاتب غربي لمدينة عربية تقليدية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما قبل حركات التحرر العربي. والكاتب هو بول بولز (1910-1999) صاحب رواية «السماء الواقية» أحد أهم الكتاب والروائيين الأمريكيين في النصف الثاني من القرن العشرين. قضى بولز شطرًا كبيرًا من حياته بمدينة طنجة المغربية التي مات فيها. واشتهر في عالمنا العربي بعلاقة الصداقة التي جمعته بالكاتب المغربي الكبير محمد شكري الذي ألَّف عنه كتابًا بديعًا بعنوان «بول بولز وعزلة طنجة», كما ترجم بولز من ناحيته رواية شكري الأشهر «الخبز الحافي» إلى الإنجليزية. كتب هذا النص في العام 1950، وفي ما يبدو أنها كانت الإقامة الثانية للكاتب في مدينة فاس التي يتضح من السياق أنه كان قد زارها مسبقًا في العام 1931. وقد تشوب النص عيوب النظرة «الاستشراقية» لكنه يبقى أثرًا أدبيًا وانثربولوجيًا مهما.
تم اختيار موقع مدينة فاس لأسباب محض جمالية. فقبل تأسيسها لم تكن هناك قرية أو أي شيء في موقعها، فقط مجرد واد ذي شكل مخروطي بأبعاد مناسبة رابض على حدود المكان الذي يجن عنده جنون السهل الخصيب فينحدر نحو بلد معذب متآكل شبه صحراوي. هبط الملك إدريس الثاني من جبل زرهون ذات يوم في بدايات القرن التاسع، ورأى تلك البقعة، وأعجبته الطريقة التي يتكسر بها النهر عندها إلى مجارٍ عديدة متفرقة بينما هو ينحدر نحو الوادي الصغير، وببساطة وعدم تعقيد ذلك العصر البطولي، أمر ببناء مدينةٍ هناك تحجب بجمالها تلك المدينة التي أسسها أبوه عند البربر في الشمال. وعندما أخذت المساكن والمساجد والجامعات ترتفع في عظمة، تنامى شعور عنيف بالفخر لدى سكانها، ولايزال لهذا الشعور ما يبرره، بما أن المكان لم يتغير افتراضيًا. يعتقدُ العديد من أهل فاس أن العالم الغربي آخذ في الاضمحلال؛ بالتأكيد الإسلام فقط هو من سينتصر. هذا الضيق في الأفكار هو ما حفظ المكان نقيًا، قابعًا في العصر الوسيط. وبالنسبة للغربيين هم لا يشعرون هنا بأنهم في مكان بعيد، فالانتقال بالأحرى تم في الزمن. لابد أن المدن الأوربية كانت شديدة الشبه بذلك قبل ألف عام؛ مع الاحتفاظ بفارق ضئيل للتفاصيل في كل الاعتبارات. هناك بعض الرجال المسنين في المدينة لم يروا سيارةً حتى يومنا. إنه نوع من القانون المفروض ذاتيًا، نوع من الاعتراض، إذ إنه بالسير حتى واحد من المداخل العديدة والإطلال من خلالها فبإمكانهم رؤية قوافل الشاحنات القديمة والحافلات في الخارج. سيدي إدريس اليعقوبي، على سبيل المثال، يبدو كواحد من أهل فاس العديدين، شيخًا محبوبًا كسانتا كلوز، يقضي وقته بين بيته وجامع الأندلس (المسجد ذي الواجهة العظيمة الذي يقع أعلى التلة في الحي الذي يقطنه) وبيوت أصدقائه، وبستانه الصغير؛ وكل هذه الأماكن تقع داخل الأسوار التي تحيط بالمدينة القديمة. منذ سنوات عديدة انتقل إلى هنا من مدينة أخرى كمعظم أهل المغرب، لكن ذلك كان قبل قدوم الفرنسيين. إنها رحلة صغيرة إلى البستان، يحمل الخادم إليه الشاي والسكر والإبريق، فيما يكون الفحم والنعناع والماء متاحين مسبقًا هناك. وعند الغروب، عندما تتوقف اللقالق عن التحليق وإطلاق نداءاتها الحادة، تُشعلُ نارٌ صغيرة في مجمرة فخارية، ويصنع الشاي، ويطلب سيدي إدريس من الخادم أن يعزف قليلًا على عوده. ويبدو أن النقاش يدور حول الضرائب التي يفرضها الفرنسيون ـ ضرائب محدودة بمعاييرنا لكنها ترهق المغاربة الذين يعتبرون أنفسهم شعبًا ذا سيادة، وغير مستعمر بأي معنى من المعاني. اسأل سيدي إدريس: لماذا هو غير مهتم برؤية سيارة؟ فيرد: «ما هذا الشيء؟ العجلات تدور بسرعة، نعم. النفير عال، نعم. بإمكانك أن تصل أسرع مما لو كنت تركب بغلًا، نعم. لكن لم تريد أن تصل بسرعة؟ ما الذي ستفعل هناك ولن تستطيع أن تفعله لو وصلت متأخرًا؟ ربما يعتقد الفرنسيون أنهم إذا انطلقوا بسرعة فإن الموت لن يطولهم» ويضحك، لأنه يعتقد أن الحضارة الغربية تعمل على تفادي القَدَر المحدد سلفًا، (المكتوب) كما يقولون بالعربية؛ أي مجهود مماثل محكوم عليه طبيعيًا بالفشل. الخراف تحت أشجار الزيتون وفاس مدينة رعوية. الخراف ترعى في كل مكان تحت أشجار الزيتون، ومباشرة تحت أسوار المدينة، التي يُحظر البناء خارجها. حتى في وسط المدينة لا يستطيع المرء التخلص من الشعور بأنه في قرية بلا حدود، لا في مدينة، ربما للحضور المستمر للأشياء البدائية – التربة العارية، والقش، والممرات المسقوفة بشباك الغاب، وطيور مالك الحزين واللقالق على ضفاف الأنهر، والروائح في الجو؛ خشب الأرز والتويا، النعناع المنتشر في كل مكان، التين اليانع أو أزهار البرتقال، حسب الموسم، والروائح المألوفة للزرائب. لا يوجد طريق مرصوف. ولا يستطيع المرء السير لخطوات معدودات دون أن يحتك بحمار أو بغل أو فرس. السور العظيم الذي يحيط بالمدينة لايزال سليمًا، وبعض الأبواب كباب «المحروق» (حيث كانت إلى وقت قريب تُعرَض الرءوس المقطوعة للملوك الأعداء على أسنة الرماح) مازالت تغلق مع الغروب، كذلك العديد من البوابات الداخلية للممرات التي تستخدم كشوارع تغلق بانتظام مع المساء، بحيث إنه إذا بقي المرء حتى ساعة متأخرة في الخارج وأراد أن يختصر طريق العودة إلى بيته، فإنه غالبًا ما يجد نفسه مضطرا للعودة كل المسافة إلى حيث بدأ ليجرِّب طريقًا جديدًا. ولكن المُضيف المهذب لن يترك ضيفه أبدًا يغادر من دون صحبة. وإذا لم يكن لديه عبدٌ أو خادم سيخرج بنفسه حتى يعثر على أحد الحراس العموميين منطويًا في سباته على جانب الطريق، فيودع ضيفه أمانة في عنق الشبح الرث. أو إذا تصادف له أن قابل شابًا من المعارف فسيسأله أن يصطحب الضيف حتى يصل إلى بيته سالمًا. قد تكون المسافة عدة أميال، وقد يشتكي المرء أنه يفضل أن يسير بمفرده؛ لكن لا مفر؛ فالآخر يبقى صلبًا في موقفه. ويبقى للنهاية، وتصعدان معًا التلال وتهبطان في الظلام، تجتازان الأنفاق، وتعبران الجسور، ولا يفارقكما تقريبا في الصمت المظلم صوت خرير المياه المتدفقة خلف الحوائط، حتى تصل إلى باب بيتك. لا توجد شوارع حقيقية في المدينة، والسيارات والعربات لا تستطيع دخولها، لأن الممرات غير مستوية بل تتحول أحيانًا إلى درجات، حتى الدراجة لا تستطيع السير فيها. كل شيء داخل الأسوار يتحرك على أرجل، لذا فإن المرء لا يسمع صوت نفير أو جرس. ما يتصاعد في المدينة خلال النهار هو الهمهمات: أصوات مائتي ألف آدمي وقد اختلطت في صوت واحد. وفي الليل هناك الصمت المطلق، اللهم إلا إذا قامت امرأة في أحد البيوت وصعدت للشرفة في الطابق العلوي لتقرع الطبل. ويرفع المؤذنون الأذان خمس مرات في اليوم من فوق منائر المساجد ككل المدن الإسلامية؛ هناك أكثر من مائة مسجد وبإمكانك أن تسمعها كلها في الوقت نفسه من التلال المحيطة. وهناك تقليد مميز لفاس، فقبل آذان الفجر، ينشد المؤذنون التراتيل لنحو نصف ساعة أو يزيد، لو بمقدور المرء أن يتخيل مائة مطرب قوي للفلامنكو على مسافات مختلفة، يطلقون أغانيهم من فوق المآذن على المدينة الصامتة، لاستطاع أن يفهم تأثيرها المزلزل. حنين للعصر الذهبي في إسبانيا في قلب الفاسي هناك حنين عظيم للعصر الذهبي في إسبانيا، كما لو كان «الجنة» التي في القرآن. الأندلس من المفترض أنها كانت مجموعة من القصور التي تروى بساتينها من الينابيع المتدفقة، وحيث تنطلق النافورات بشكل دائم في الحجرات والأفنية المزروعة بأشجار يسمع حفيف أوراقها خلف موسيقى آلات العود. تصف فاس موسيقاها بـ«الأندلسية»، لأن الأسلوب قد تطور في إسبانيا في عصر الخلافة بقرطبة، ثم أُعيد إلى هنا عندما وجب إخلاء البلاد. والفاسيون مؤمنون بقوة بأهمية إشباع الحواس: فهم يعشقون العطور، والألوان، والمنسوجات الثمينة. ولو كانوا يضعون قيمة كبيرة في الوقت نفسه لمراكمة الأموال، فذلك فقط كي يتمكنوا من إحاطة أنفسهم بأشياء ستحقق لهم متعة الحواس. إنهم يحتقرون البخل ويسخرون منه. وعندما يغالون في تمجيد الماضي ألاحظ أن فاس لديها كل ما كانت تملكه الأندلس «آه، لكنها كانت أجمل هناك». بالطبع. من المهم أن تعرف متى توافق ومتى تُعارِض. فالحوار يبدو أحيانًا كما لو كان مباراة، الهدف الأساسي فيها هو أن تعرف كيف تقبض على الآخر على حين غرة وتجعله يقوم بخطوة خاطئة. فلو قال لك مضيفك «أنا من الأشراف؛ هناك ستة آلاف شريف في المغرب، وهو عدد عظيم» فلن يقوم بدعوتك ثانيةً لو وافقته (الأشراف هم سلالة علي بن أبي طالب وهم أرستقراطية البلاد)** فلابد لك أن تندهش «فقط ستة آلاف! هذا قليل جدًا! كنتُ أعتقد أنهم أكثر من هذا بكثير. أما إذا قال لك «نريد أن نصبح أمريكيين ذلك أفضل من أن نكون مغاربة» فلا بد أن توافق باختصار، ثم تشكره، لأنك إذا اعترضت بتأدب فسوف تظهر له أنك تصدق أنه يعني ما يقول، وهو أمر مستحيل بالطبع، وستظهر نفسك كشخص فظ إلى أقصى درجة. ذات مرة كنت أرغب في الذهاب إلى قرية في الجبال، وأخبروني بشكل غامض أن هناك حافلة تقوم بهذه الرحلة، فسألت نادلًا في مطعم شعبي عن وقت ومكان انطلاق الحافلة. فأجاب الصبي ببساطة أنه لا توجد حافلة كتلك. ولكن مدير المطعم سمعني أقول إنه لابد هناك حافلة تذهب إلى القرية. فدفع الصبي جانبًا بنفاد صبر، وقال «بالطبع هناك حافلة، إنها تغادر من عند باب الكيسة في السادسة والنصف صباحًا». وفي اليوم التالي، وبعد ثلاث ساعات ونصف من الانتظار، عُدتُ إلى المطعم متبرمًا لأستعلم ثانيةً متى تظهر الحافلة. بدا المدير مندهشًا: «هل كنت تنتظر منذ السادسة والنصف؟ لكن ليست هناك حافلة يا مسيو». استغرقت قدرًا من التحكم في النفس لأخبره أن المعلومة لا تتوافق مع ما أخبرني إياه بالأمس. فابتسم «آه، البارحة، لقد قلت ذلك فقط لأرضيك». البراجوازية الفاسية ذات العقلية الحديثة مختلفة تمامًا عن سيدي إدريس اليعقوبي العجوز. يعيش سيدي عبدالله العلمي في بيت كانت مساحة فنائه تبلغ مائتي قدم مربعة، وبوفاة والده أقام هو وشقيقه حائطًا في منتصف الفناء، ليصنعا بيتين منفصلين لكل منهما. وكالعادة، لا يوجد شيء لتراه من الخارج سوى حائط رمادي متهدم بلا نوافذ يرتفع في الممر المترب. وفي الداخل الفناء مبلط بالفسيفساء وهناك نافورات، وكروم عنب، وأشجار برتقال. يرتفع الرواق الذي يحيط الفناء من أضلع ثلاثة على أربع وعشرين عمودًا حجريًا. وتنسدل مظلة حريرية مساحتها خمس وعشرون قدمًا مربعًا لتغطي بوابات الغرف الداخلية الهائلة، إذا كان نساء العائلة موجودات. صيحة غير متوقعة يمكن أن ترسب إثارة عظيمة عندما يكون النساء في الفناء. يهرع العبيد لتغطيتهن برفع ملاءة قديمة تركت في الخارج لأجل هذا الغرض. مرة نظرت بغير قصد إلى أحد الجوانب بينما أدخل، فرأيت النساء ترتعدن بجوار الحائط وأيديهن على وجوههن؛ يطلقن تنهيدات عبثية تنم عن الخوف. اعتذرت لسيدي عبدالله عن سلوكي. «لا عليك» قال «إنه أمر سخيف، كل هذا الحجب. عندما تأتي في المرة القادمة سأعرفك على بناتي فضلًا عن زوجتي» ذلك الشيء الرهيب الذي فعله، فاجأ النساء، وفي ما أظن أثار استنكارهم أيضًا. ومنذ ذلك الوقت وهو دائمًا يحرص على استدعاء زوجته وأمه في وقت ما خلال زيارتي ـ وفي بعض الأحيان ابنته. ولسيدي عبدالله جارية رزق منها طفلةً، ومع ذلك، لا يستغرق الأمر كثيرًا حتى ترى أن «حاجة» الصغيرة وعلى الرغم من المعاملة الحسنة التي تلقاها، إلا أنها تنتمي أكثر لعالم أمها أكثر من عالم أبيها: هي «جندي المراسلة» لكل أهل البيت. عشاء في فاس وجبة العشاء في فاس هي تقليد معقد. من الأساسي أن تكرس له خمس ساعات على الأقل من مسائك. وفي المرات المتعددة التي تناولت العشاء فيها لدى سيدي عبدالله لم تشاركنا الطعام أي من النساء ولا مرة واحدة. ذلك سيكون تجاوزًا كبيرًا. هناك دائمًا العديد من المدعوين الذكور، غالبًا نحو عشرين شخصًا. يأتي العبد بالأطباق، ثم يأتي بغيرها على صينية ضخمة. ويأكل الجميع من الصفحة نفسها بالأصابع، باستخدام الإبهام والسبابة والوسطى لليد اليمنى. أحيانًا يستأجر سيدي عبدالله فرقةً موسيقية صغيرة (رباب وعود ودف وطبل يدوي) ليرفه عن المدعوين، «لكي نجعل المعدة أكثر سعادةً». بمجرد رفع الجزء الأخير من المأدبة يأتون بإبريق ضخم للشاي. الطعام الذي يتخلف عن الرجال يكوم على بعضه في المطبخ لتأكل منه النساء. مع الكأس الثالثة من الشاي من دون شك سيكون مفعول الخدر قد بدأ. أضحك، ربما بشكل غريب، إذ يضحك الآخرون أيضًا. ومرةً واحدةً تتباعد الغرفة الكبيرة، والوجوه الجالسة، والأحذية المصفوفة عند الباب، والنافورة في الخلفية. وعلى الرغم من ذلك أظل متنبّهًا لكل كلمة تقال. اضطجع على الوسادة وأُعلن: «صافي المعجون» يضحكون أكثر، ويواصلون الكلام. بعضهم يسقط نائمًا، يتمددون على الحشيات المزركشة التي تصطف بمحاذاة الحوائط الأربعة للغرفة. أتمنى، وبقوة أن أعود إلى بيتي وإلى سريري، لأني أعرف مدى غرابة وإيلام «الشهر» الذي سيستغرقه قطع الأميال الثلاثة من الممرات والأنفاق بين درب الحويرة وبيتي. وأنا أفضل أن أكون بمفردي عندما تبدأ الرؤى. وجدت نفسي واقفًا، أنظر لقدمي البعيدتين وأقول: لابد أن أذهب. الاعتراضات لا نهاية لها، ولكن أخيرًا أخرج في الليل، وقد أرسلوا معي خادمًا. أفكر لحظتها في أن أهرب منه بالانطلاق نحو باب الخروج. ولكن من الواضح أن هذا مستحيل. القمر مكتملٌ وساطعٌ بشكل لا يصدق، والمدينة تبدو كالأفلام العتيقة عندما كانوا يصورون مشاهد الليل في ضوء الشمس ثم يطبعونها على شريط أزرق. استغرقت الرحلة أبدًا من الزمن، لكنني وصلت إلى بيتي بشكل ما، ليس قبل أن تبدأ الرؤى بالفعل في عرض نفسها على الحوائط التي أضاءها نور القمر من حولي بينما أتقدم مترنحًا. مع نمو الدار البيضاء فقدت فاس الكثير من أهميتها التجارية. حتى في السنوات القليلة التي عرفتها فيها. لم تعد هي السوق الكبيرة في شمالي المغرب. وهكذا فإن الزحام الكبير الذي كان يجمع كل راقصي وموسيقيي ودراويش المنطقة المتجولين خارج الأسوار وفي ساحة «المشوَّر» أمام قصر السلطان لم يعد موجودًا. الجانب البدائي من الحياة المغربية ستجده في مكان آخر لا هنا، إضافة لجعل فاس مركزًا دينيًا وأكاديميًا يتمناه كل مسلم جيد، فقد أصدر السلطان مرسومًا في العام 1937 بحظر الظهور العلني لطائفتي الكَناوة والعيساوية الدينيتين اللتين كانتا منتشرتين هنا. وهذا لا يعني أن الطريقتين قد اختفتا، ففي بعض المناسبات لا يحتاج المرء إلا لساعة من السفر ليشاهد العيساوية يأكلون العقارب والثعابين، ويجرحون أنفسهم ويشربون الدماء، بينما النساء يصرخن ويرقصن حد الإغماء. الكناوة من السود والعيساوية من البربر، وكلاهما قد طوَّعا العقيدة الإسلامية بما يتناسب مع احتياجاتهم الروحية، لكن السكان المغاربة من مسلمي العقيدة القويمة لن يتركوا لهم حرية العمل. تأملات تحت أشجار الصفصاف إن استنكار العناصر الأصلية في الثقافة يبلغ مدى متطرفًا لدى الطلاب ممن يدرسون بكلية مولاي إدريس أو المدارس الدينية المتعددة. هؤلاء البرجوازيون الشباب يعترضون على التقاليد والموسيقى المغربية، وحتى على الملابس التقليدية. إن هاجسهم المسيطر هو التخلص وبسرعة من كل ما هو مغربي على وجه الخصوص. وعلى الرغم من ذلك يظل ولاؤهم محصورًا في العالم الإسلامي. هم ليسوا مهتمين بأن يصيروا غربيين، القاهرة هي فكرتهم عن المكان المتحضر. يجلسون لساعات تحت أشجار الصفصاف في المقاهي المفتوحة على النهر، مرتدين ملابس أوربية بشكل أو بآخر، يستمعون للتسجيلات الأخيرة لعبدالوهاب أو أم كلثوم أو فريد الأطرش. ويترددون على سينما بوجلود، لأنها تعرض أفلامًا مصرية. أحد الأعذار التي يمكن أن نلتمسها لهذا الموقف هو التفاوت بين الحرية الاجتماعية التي يعرفون أنها موجودة في مكان آخر، وغيابها التام هنا. في يوم الجمعة، يوم الراحة، تخرج المدينة للتنزه بالممشى المحيط بالبحيرة في بوجلود. وهنا، في بعض الأوقات، يجازف بعض الشباب ببعض التصريحات العابرة لمجموعة من النساء المحجبات، وبخلاف مثل تلك اللقاءات، التي يُنظر إليها باستياء من قبل المتنزهين الأكبر سنًا، فهناك فصلٌ صارم بين الجنسين؛ وتتم الزيجات حتى الآن من دون حتى أن ترى العروس عريسها «لا يوجد حب في المغرب» يردد الشباب بمرارة. الحي الفرنسي، الذي بُني بفضل بصيرة المارشال ليوتيه على مبعدة عدة أميال من فاس نفسها هو أكثر الأماكن تغيّرًا منذ حقبة ما قبل الحرب. البنايات، التي ارتفعت على عجالة على طراز المعارض الكولونيالية، أضحت في حالة مؤسفة. والزهو المديني الذي كان موجودًا بدرجة ما على الأقل عندما كانت الأشياء لاتزال جديدة، يبدو وقد اختفى كليةً، وأصبح للمكان مظهرَ الأحياء الفقيرة. فالصروح الواهية ذات البنى الأوربية تحتاج إلى مواد أوربية لصيانتها، وهي غير متوافرة حتى الآن. هو مكان مُحبِط، مزيج من النوافذ المهشمة والأطلية المقشورة والخرسانة المتهدمة، والسيارات القديمة الزاعقة، ورجال فرنسيين سريعي الغضب وأطفال شحاذين من الأهالي ـ في تناقض صارخ مع الجمال المتناسق والمريح للمدينة القديمة. وأتقن أهل فاس دائمًا فن العيش، ومازالوا يتقنونه. وعدد كبير منهم، أكثر مما يتخيل المرء، لديهم الوسائل لكي يعيشوا حياةً طيبة. هناك انعدام تام للتوتر العصبي في الحياة، وجهل مطبق لما يعنيه مفهوم الملل، وهو كل ما يلزم المرء للاكتفاء الوجودي، وهو ما لا يستطيع تحقيقه إلا عدد قليل جدًا من الغربيين. وفي الوقت نفسه، أفترضُ أن الأمريكي العادي سيعتبر أن حياة أكثر الفاسيين ثراء صادمةً في تجاهلها لمبادئ الصحة. لا يؤمن المغربي سواء كان متعلمًا أو غير ذلك بالجراثيم. وكل مظهر من مظاهر حياته اليومية يعطي دليلًا دامغًا على ذلك. ومن أكثر تلك المظاهر طرافةً هي طاولة تأجير حلوى «المصاصة» في حي كرنيز، حيث يدفع الأطفال نقودهم وفقًا لطول المدة التي سيبقون فيها المصاصة في أفواههم. وتحتج أنت: «ولكن الجراثيم موجودة.. بإمكانك أن تراها تحت الميكروسكوب». فيرد عليك محاورك بهدوء: «هي موجودة بالنسبة لك، ولهذا هي تصيبك أنت.. بالنسبة لنا ليس هناك غير مشيئة الله».. وهو حائط الصد الذي لا تملك أي حجة مماثلة إلا الاصطدام به. كان يمكن تفادي الخسائر البشرية الفادحة لوباء الكوليرا في العام 1944 لو لم يرفض المغاربة إبلاغ السلطات بحالات الإصابة. شيئا فشيئا تتغير الأمور،
فالحشرات المنزلية صارت أقل مما كانت عليه في العام 1931؛ وبإمكاني أن أشهد أن عقار
الـ«دي دي تي» صار معروضًا في بعض المحال، فصار على المرء ابتياعه. لايزال هذا المقطع
من «الحوض» الذي هو بمنزلة نسخة مختصرة من التعاليم الإسلامية مكتوبة باللغة الأمازيغية
منذ عدة عقود مضت صالحًا للغاية: «يمكن للمرء أن يُعفى من صلاة الجمعة أو صلاة الجماعة
لو كان هناك الكثير من الوحل أو أمطار غزيرة، وقد يعفى المرء أيضًا لو كان مصابًا
بداء الفيل أو الجذام أو كان مسنًّا، أو لم تكن لديه ملابس ليرتديها، أو لو كان منتظرًا
العفو في جريمة اتهم بها، أو لو كان المرء قد أكل البصل. هذه أعذار مقبولة. حفل زفاف
ليس عذرًا مقبولًا ولا العماء لو كان المرء يستطيع تحسس طريقه للمسجد» |
|
ذات مرة كنت أرغب في الذهاب إلى قرية في الجبال، وأخبروني بشكل غامض أن هناك حافلة تقوم بهذه الرحلة، فسألت نادلًا في مطعم شعبي عن وقت ومكان انطلاق الحافلة
هناك أكثر من مائة مسجد وبإمكانك أن تسمعها كلها في الوقت نفسه من التلال المحيطة
هناك بعض الرجال المسنين في المدينة لم يروا سيارة حتى يومنا من المهم أن تعرف متى توافق ومتى تُعارِض، فالحوار يبدو أحيانًا كما لو كان مباراة، الهدف الأساسي فيها هو أن تعرف كيف تقبض على الآخر على حين غرة وتجعله يقوم بخطوة خاطئة
|