رجل السياسة والفن والثقافة

الناس فريقان، فريق أول، وفريق ثان، امرأة ورجل، كما كل المخلوقات مقسّمة إلى قسمين. القسم الأول لا يشبه القسم الثاني. إذا قسمت تفاحة إلى قسمين ونظرت إليهما بعد العملية، ترى أنهما من عائلة واحدة. عائلة التفاح، لكنهما لا يتشابهان. في كل قسم منهما شيء ما يميّز الواحد عن الثاني. هذا ما ينطبق على التفاح والبطيخ وكل فاكهة ولن أعدّدها. أما الإنسان، فأذنه اليمنى غير أذنه اليسرى وعينه اليمنى غير اليسرى ورجلاه أيضًا ويداه وكل ما هو مثنّى في جسده.. والفارق الكبير عنده هو أن يكون ذا ذراع واحدة أو رجل واحدة أو أذن واحدة، عندئذ يسهل التكهّن أو اكتشاف الفارق. والفارق هو نقص، وسهل أيضًا أن يكتشف الناظر المتفحّص سبب نقص الذراع أو الرجل.. وقوع حادث - مثلاً - أو وقوع حرب (لابد أن هناك قرابة بين الحب والحرب، كلاهما يقعان). ترى ما هو التشابه بينهما؟

لنتابع.. يمكن أن يكون هذا الإنسان محاربًا وسُرق بيته واحتلّت حديقته.. وقتلوا دجاجته وأكلوها.. عندها لبس ثياب الجندية ونفض الغبار عن سلاحه ثم نظر إلى المرآة، وخرج، اغتال مَن سرق أرضه وذبح دجاجته ثم سقط جريحًا وتقطع رجله، وبعدها يستعيد منزله ويربّي دجاجًا كثيرًا، وتنبت في الحديقة البندورة والبقدونس والخس ويتدلى العنب من الدّالية، أما هو فيصير برجل واحدة.. لا سبيل لتشبيهها برجله الثانية، لأنه ليس له رجل ثانية، هذا بديهي.. أليس كذلك؟

***

كل إنسان له شخصيته ومخيلته التي تودي به إلى الظلمة أو إلى النور.. متجهًا صوب الفنون، الشعر، الموسيقى أو الرسم والتلوين.

عندما أذكر الفن والجمال أراني أذكر بيروت التي لم يبق فيها أثر من جمال، أو إنسان له صفة الإنسانية، والإنسانية هي الكمال في حب الخير والحق والجمال. أنا لا أعمّم، إذ إن قلة مازالت تعيش في بيروت الجميلة.. أي في مخيلتها.. فقط.. كيف اختفى الجمال؟ أتساءل عن اختفائه وعن السر أو السحر الذي أخفاه ومحاه من الوجود في بيروت. هل هو انعدام الحب في المدينة، الحب الصحيح، البشاعة التي اجتاحت بيروت سببها الناس.. وانعدام الحاجة إلى الجمال، بيروت خُرّبت، هذا صحيح. هي الحرب.

الحرب وفوضى الناس صنوان، إبّان الحرب كان كل ما يحصل هو صورة للفوضى. النظام هدّمته الحرب.. بقي الإنسان.. الإنسان ارتضى الفوضى واعتبرها حريّة.. لجهله لمعنى الحرية.. سقطت الأبنية ونُهبت الآثار، وهُدمت الذكريات، واقتُلعت الأشجار.

قيل الكثير عن الذاكرة وتكرر ذكرها نهارًا وليلاً في البيوت والمقاهي والصحف. وما تكرّر ذكرها هي الحداثة في كل شيء، وكل واحد من عباقرة الحرب يعطيها معنى مغايرًا مختلفًا حتى أصبحت مرادفة لكلمة ديمقراطية، حرية. كلمات فقدت معناها. كلمات أتتنا بالطائرة من أوربا الغربية.. نستعملها لأنها وصلت إلينا كما تصل كل بضاعة من الغرب.

قلت الجمال، إذن وصلنا إلى البشاعة، أعط الإنسان بشاعة يعتاد عليها ومن ثم يتقبّلها ويطلب المزيد. نرى هذا في بيروت في الإذاعات والتلفزيونات والخطب السياسية المسلية، ولكن غير النافعة. أما إذا أعطيت الإنسان في لبنان جمالاً في كل نواحي حياته، فهو سيألفه أولاً ثم يقبل به ويعتاده ويصبح مع مرور الأيام دواءه لحياة أفضل وأرقى.

احتفل العالم بمرور مئتين وخمسين سنة على ولادة إنسان معجزة في الفن.. في الموسيقى. لو لم يكن ولم يولد لكانت الدنيا ينقصها النغم أو اللحن الذي يسمو بالإنسان إلى الأعلى، ويجعل من حياته رونقًا معبرًا عن حب الحياة وعن الحب عامّة.. وهل هناك أجمل من الفرح والحب؟ مئتان وخمسون سنة. احتفالات في الغرب والشرق على مدى ثلاثمئة وخمسة وستين يومًا لذكرى مولد «أماداوس موزارت».

لن أتكلم عن مولده وعنه وعن موسيقاه. سأعود إلى حيث ابتدأت.. إلى بيروت.. ماذا فعلت الفرقة السيمفونية اللبنانية في هذه المناسبة العالمية؟ أو أن بيروت تكتفي بموسيقاها الخاصة جدًا المؤلفة من زامور السيارة والأجراس الكهربائية في الكنائس والأذان في الجوامع بواسطة مكبرات الصوت. بينما كانت في الماضي أجراس الكنائس تنشر في أجواء المدينة أصواتًا شاعريّة مريحة. في حين كان المؤذن يصعد على درجات المئذنة وبصوته الصافي ينادي إلى الصلاة.

الثقافة والفن في الإعلام معدومة. طال الوقت.. كيف السبيل لتقديم برامج ثقافية وفنية تكون بمستوى يجعل من المتلقّي في سبيل يؤدي إلى عالم الثقافة والفن.. كيف يكون هذا والمسئولون في هذه الدوائر هم مجرّد موظفين لا يفقهون من الثقافة والفن أكثر مما يفقهون باللغة الصينية واليابانية.. يجب أن يُعطى للمتلقي ما يُختار له من المستوى الجيد، إن في الموسيقى أو في الأدب والشعر وإن في جميع الفنون.. أن يُعطى ما يُختار له وليس ما يطلبه هو وقد اعتاد على طلب فن من غناء وغيره، لا يمت بصلة إلى الفن الصحيح.

لا يمكن أن يبقى لبنان في الثقافة والفن في يد أشخاص لا دخل لهم بموضوع الفن والثقافة. الإدارات والمعاهد والمدارس الفنية في العالم

لا يديرها فقط مواطنو هذه العواصم. تكلمت كثيرًا منذ سنوات عن معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، واقترحت إعادة النظر به وإبعاد التوظيفية بالوساطة عنه، كما قلت إن ذلك يصح في بقية المعاهد الفنية في لبنان. إن الوطن بحاجة إلى اختصاصيين في الفن وإدارته، ولا عيب في إشراك مسئولين اختصاصيين من دول أجنبية لتصويب التعليم في الفن، والفن عماد تاريخ الشعوب، واللبناني يتغنّى بتاريخه وهو جاهل بما يتغنّاه.

الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح هي من اهتمامات البلدان المتقدمة، فليس عندنا متحف للفن والموسيقى. ومعهدها أو معاهدها الكثيرة بحاجة إلى إعادة النظر فيها، والمسرح، كأن مسرح الشارع اليومي هو مسرحنا، والسينما أين منها سينمات في بعض البلدان العربية؟

كلها مواضيع صالحة لتخلق من لبنان بلدًا.. وإلا فهو سيبقى كما هو.. وسكانه مرتاحون لجهلهم ومعتادون عليه. أردّد أننا بحاجة إلى دعوة اختصاصيين في كل المجالات الفنية والثقافية. باريس تستعين بفنانين غير فرنسيين ومهندسين أجانب لبناء متاحفها وصالاتها.

على ذكر المتحف، في بيروت متحف خاص ببلدية بيروت هو متحف إبراهيم سرسق.. المسئولة الوحيدة هي نفسها منذ أن وُجد هذا المتحف حتى الآن.. المتاحف في العالم يتناوب عليها مسئولون كبار، علماء أو مؤرخون أو فلاسفة يختارون كل عدد من السنين، ولكل حافظ متحف يكون له، وهو يترك أثره في تطور هذا المتحف. عندنا وفي الإدارات الحكومية كذلك في الدوائر الثقافية أو الفنية، يُختار شخص من حزب أو حركة سياسية ليكون موظفًا كبيرًا ذا سيارة أكبر، وحرّاس أكثر، وفن وثقافة أقل.. وكل شيء ماشي.

أفرح بأن المتحف لم يولد بعد، بانتظار مولود مؤهل لإدارة المتحف، ولم يأت هذا المولود بعد، وكم فوجئت عندما رأيت أن «مثقفين ومثقفات» يعتبرون أن المتحف ليس سوى بناء، ولا يدخل في مخّهم ومخّهن أن البناء الأهم هو بناء الإنسان، ومَن يبني ذلك الإنسان والحكّام بعيدون، لا يفقهون من الفن سوى ما تقدّمه لهم التلفزيونات من رقص ونكت وزعبرات.

لم أسمع مسئولاً واحدًا نائبًا كان أو وزيرًا أو رئيسًا يذكر الفن والثقافة في خطاباته المملّة.. نستنتج من ذلك أن المسئولين لا يشعرون بحاجتهم إلى مواضيع كهذه.. فن.. وثقافة.. وماذا أيضًا؟ الـ «لماذا» والـ ـ«أيضًا» هي التي تهرّبهم وتعيدهم إلى الراحة والطمأنينة والوظيفة الحكومية المكلّفة مالاً.. مالاً..

فهذا والحق معهم دائمًا يشعرون بأنهم مكتفون بما يصلون إليه في مراتبهم ومرتباتهم التي هي بغنى عن كل ما يمت للفن والثقافة بصلة، لا أقصد الجميع في كلامي. لكني في استغراب دائم عن سكوت الناس والمسئولين، وعدم شعورهم بحاجتهم إلى التشبّه بالبلدان التي تضع الفن والثقافة في أعلى وأهم اهتماماتها.

آتونا باختصاصيين من العالم. «الذين يتربّعون عل كراسي المسئولية في إدارة الفنون في لبنان ليسوا مؤهلين». حرام أن يبقى اللبناني حالمًا بمستقبل أفضل.. وحلمه طال أمده.
----------------------------
* فنان تشكيلي من لبنان.

-------------------------------

الله أكبر... يوم أطلقها الفتى

 

عبرت إلى أمّ الشهيد، تزغرد

قالت لها: ثاراتنا لمّا تزل

 

نبراس ثورتنا، يضيء، ويوقد

من قال أنّا قد نسينا ثأرنا

 

أو أنّنا عن ثأرنا نتردّد؟!

عينٌ بعينٍ، لن نغيّر نهجنا

 

سنٌّ بسنٍّ، شرعةٌ تتجدّد

الله أكبر... يوم فجّرها الفتى

 

زفّت، كطيرٍ في السّماء تغرّد

حملت جراحات الأسى وعذابه

 

وتنقّلت، تروي الحكايا، تسرد

هارون هاشم رشيد