اللغة حياة: الأَسفار في القرآن: الكُتب أم أجزاء التوراة؟

كثيرًا ما نقرأ التراث ونَقبل ما جاء على أَلسنة اللغويّين والمؤرّخين والمفسّرين في شأنه، على أنّه أمر مسلّم به، وقلّما يخطر لنا أن نقلّب النظر في ما ورثناه من شروح هؤلاء وتأويلاتهم، إمّا ثقة بهم، وإما كسلًا عن البحث والتدقيق. لكنْ في لحظة من اللحظات تهجم علينا خاطرة أو سؤال، فنجعل نعيد النظر في قضيّة أو أخرى ممّا عرض له القدماء، وربّما المُحْدَثون، وقد نبدّل الرأي في ما جاء في شأنها. وكثير من المفكّرين القدماء والمُحْدَثين أتوا بالجديد بعد مثل تلك الهجمة، فأرضوا وأَغضبوا.

وممّا هجم علينا فجأة، فوقفنا عنده مليًّا، الآية القرآنيّة الكريمة: }مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا{ (سورة الجُمعة 62 / 5) ؛ فالمفسّرون واللغويّون مجمعون، في ما نعلم، على أنّ الأسفار هي الكتب، أو الكتب الكبيرة، وأنّ القرآن يشبّه اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة بالحمار يحمل الكتب ولا علم له بما فيها. لكنّ القرآن تُلي على عرب الحجاز ابتداء، ويفترض أنّ هؤلاء أَقْدر الناس على فهم معانيه، لأنّه نزل بلغتهم خاصّة، مع استعماله للغات أخرى أحيانًا، فإذا هو شبّه اليهود بالحمار الحامل للكتب، فيفترض أنّ الحجازيّين عرفوا نقل الكتب على ظهور الدواب، وأنّهم كانوا يحوزون كتبًا كثيرة، وأنّ كلّ التاريخ الذي يتحدّث عن أُمّيّتهم أو شبهها مغلوط. والحقيقة أنّ طريقة كتابة القرآن، ثمّ جمعه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثمّ تدوين الحديث النبويّ والأدب والشعر في العصر الأمويّ على صورة صحف، ثمّ ظهور الكتب المُصْحَفة المشبهة لمصحف القرآن، في العصر العباسيّ، أي التي يجتمع بين دفتي كلّ منها صحف مكتوبة، كلّ ذلك يدلّ على أنّهم لم يعرفوا أيّ كتاب مصحَّف، في زمن النبوّة، باستثناء ما يوحيه وصف اليهود بأهل الكتاب، وذكر مِدْراسهم، أي مدرستهم - وندع ذكر مدارس العراق لبعدها من الحجاز - لكنّ وجود مدرسة لا يفترض بالضرورة وجود كتب مُصْحفة، بل ربّما اكتُفي فيها بالألواح والطروس، وأنّ الكتاب لم يكن يعني المُصحف قديمًا، بل كلَّ مَكتوب، ولا نتخيّل أنّ اليهود كانوا دون سائر الحجازيّين متوسّعين في الكتابة، حتّى اجتمع لهم كتب كثيرة يحتاج نقلها إلى دواب. ولو كانوا على ذلك القدر من التقدّم الكتابيّ لاستعان النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بهم، وبالّذين أسلموا منهم خاصّة، وذلك في تعليم أبناء المسلمين، ببعض أسرى قريش في بدر.

فشبه المؤكّد أنّ أهل الحجاز لم يعرفوا الكُتب المُصْحفة، فكيف بكثرتها؟ ومن الصعب أن يتصوّروا حمارًا يحملها، ولا يمكن أن نتّهم القرآن الكريم بعدم مراعاة مقتضى الحال. فيبقى احتمالان:

1- أن يكون المقصود بالأسفار جمعَ سَفَر، بمعنى الرحلة بين مكانين، كما هو معروف، وذلك أشهر معاني الكلمة في العربيّة، وأوسعها استعمالًا؛ ومن معاني سَفَر: البدويّ المترحِّل؛ ويجوز أن يكون المقصود بالأسفار جمع سَفْر، أي مسافر. ويكون معنى الآية حينئذ أنّ اليهود كانوا عاجزين عن حمل التوراة عجزَ الحمار عن حمل السَفَر، أو عن حمل المسافرين، وليس عن حمل الكتب؛ والحقيقة أنّ الحمار ليس قويًّا على السَفَر، كما أنّه يضعف عن حمل المسافرين المتعدّدين على ظهره، ولذلك فإنّ العرب كانت، في رحلاتها الطويلة، ولاسيّما في الصحراء، تستخدم الإبل بسبب قدرة هذه على التحمّل، وقلّما استخدمت الحمير في ذلك؛ فضلًا عن أنّها تستعمل، في العادة، فعل تحمّل أو استحمل، لا فعل حمل، للتعبير عن الصبر على المشقّة. وكلّ ذلك يبعثنا على استبعاد معنى الرحلات هنا، وكذلك معنى المسافرين بدوًا وحضَرًا، ولاسيّما أنّنا لا نعرف شاهدًا على استعمال أسفار بمعنى مسافرين إلاّ حديثًا نبويًّا غريبًا أورده أبوالسعادات ابن الأثير في كتابه: «النهاية في غريب الحديث والأَثَر»، وذكَره اللسان، ولم نجده في كتب الحديث.

2- لكنّ «سيفِر» (بلفظ saifer تقريبًا) تعني في العبريّة الكتاب المُصْحف، وتُجمع على «سِفاريم»؛ و«سِفاريم»، اصطلاحًا، أجزاء التوراة. لذلك يحتمل بقوّة أن تكون كلمة سِفْر العربيّة تعريبًا لسيفِر، وذلك لقلّة ورودها في لغة العرب القدماء، وربّما لعدمه؛ فنحن لم نجدها في القرآن الكريم، بل وجدنا جمعها أَسفار، في الآية الآنفة الذكر، كما لم نظفر بها في الحديث الشريف إلاّ في تلك الصيغة الجمعيّة واقتباسًا عن تلك الآية، وليس في نصّ جديد. وحديث الآية المشار إليها عن اليهود، وعن تركهم العمل بنصوص التوراة، يجعل من المحتمل أنّ القرآن الكريم أراد أن يجعلهم في الإفادة من أسفار التوراة، أي أجزائها، لا من الكتب عامّة، كالحمير، فهُم لا ينتفعون بها، ولاسيّما أنّ بعض المفسّرين جعلوا الحمل هنا بمعنى الكفالة والضمانة، أي القيام بأمر الشيء، لا بمعنى وضع الشيء الوازن على الظهر أو نحوه، ونقله بهذه الطريقة من مكان إلى آخر. فمعنى الآية بمقتضى ذلك التفسير أنّ اليهود في قيامهم على أمر التوراة كالحمار الذي يكلَّف القيام على أمر أسفارها؛ وهذا احتمال مرجّح في رأينا، نعني احتمال أن تكون الأسفار بمعنى أجزاء التوراة لا الكتب عامّة، مع أنّ السِفْر لا يبدو من لغة العرب قبل نزول القرآن.

والخلاصة أنّ المعطيات وضعتنا بالخيار بين أن نقبل التفسير المشهور للآية، ونقبل في الوقت نفسه أنّ العرب قبْل الإسلام وأثناءه عرفوا الكتب المُصْحفة الكثيرة، وأنّ دعوى أمّيّتهم دعوى باطلة بالكليّة؛ أو أن نقبل بتفسير الأسفار بالرحلات، لعلمنا أنّ العرب كلّهم كانوا يعرفون معنى السفَر، ولاسيّما أهل البوادي الذين كانوا يترحّلون من مكان إلى آخر طلبًا للماء والكلأ؛ أو نقبل بتفسير الأسفار بالمسافرين، لكنّ هذا الاستعمال نادر، ولم نجد عليه إلاّ شاهدًا ضعيفًا؛ أو نقبل بكون السِّفر، أي مفرد أسفار، تعريبًا للكلمة العبرية سيفِر التي تعني الجزء من التوراة؛ وكانت العرب تسمع بهذا المصطلح، بلا شكّ، لوجود اليهود بينهم في الحجاز وغيره، ولأنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) حاور اليهود وحاول إدخالهم في الإسلام، فهو يعرف مصطلحاتهم، فلن يصعب على العرب فَهْم كلمة أسفار بهذا المعنى، ولاسيّما أنّ الآية موضوع البحث مدنيّة، أي نزلت في يثرب، حيث كان اليهود يقيمون قبل إبعاد آخرهم عنها سنة خمس للهجرة - ولا يطعن في ذلك احتمال أن يكون عامّة أهل الحجاز يجهلون هذا المصطلح الدينيّ اليهوديّ - فنحن بحيال اختيارات كلّها احتماليّ، لكنّ شبه المؤكّد أنّ أوّلها وأشهرها غير مُقْنع، وأنّ آخرها هو الأكثر إقناعًا.
--------------------------------
* أكاديمي من لبنان.