الفنان الأول

الفنان الأول
        

          للوصول إلى إجابات دقيقة, علينا أن نجد أول مَن رسم في التاريخ من بني البشر, وماذا كان يرسم. ونعرف من ظروفه لماذا مارس هذه المهنة. هناك الكثير من الآثار الحديثة نسبياً والتي لا يزيد عمرها على مائة ألف سنة. مثل بعض الشخبطات على سكاكين صوان فرح بها الباحثون, والتي قد لا تكون مقصودة, وقد تكون من فعل عوامل الطبيعة. والأهم من ذلك, قد لا تكون تلك السكاكين هي الأقدم, فباطن الأرض مليء بما لم يكتشف بعد. بحيث يبدو أن البحث عن أول من رسم في تاريخ البشرية يشبه البحث عن أول مَن عطس في ذلك التاريخ, وعلى الرغم من أننا لا نملك نقطة البداية, فإننا نملك تاريخاً طويلاً لاحقاً على تلك النقطة المجهولة. ونظراً لتنوع الثقافات الإنسانية, وتنوع الظروف التاريخية, وبالتالي تنوع أساليب التفكير. فقد تنوعت نظريات الفن أيضاً وزادت كثيراً على عدد الفنانين على كثرتهم, وإن كانت جميعها تبدأ من إحدى نقطتين:

          أن تدخل إلى الفن بصفته مدركاً مادياً, قابلاً للقياس بالوسائل العلمية المتفق عليها كالخط والمساحة والقيمة واللون والكتلة وغيرها, ومن تلك الظواهر المادية يبدأ الحديث عن مدلولات حضارية, اجتماعية أو نفسية جماعية أو فردية.

          أو أن تدخل إلى الفن بصفته مدركاً ميتافيزيقيا له مقاييسه الخاصة غير المتفق عليها من الجميع, ومن ضمنها الإلهام والعبقرية والعقل الباطن والرغبات المكبوتة, وكلها أمور نسبية غير قابلة للقياس, وطبعاً لا مانع من التوفيق بين المدخلين.

          ولكن الفنان الأول لم يكن على دراية بكل هذه النظريات وما يتفرع عنها من استطرادات مستمرة, ولابد من نسيان كل ما نعرف. ربما استطعنا تكوين صورة أو سيناريو معقول للبدايات.

          من الممكن الافتراض أن البدايات الأولى في التشكيل كانت من اختراعات النساء والأطفال, وليس من اختراعات الحكماء من الرجال, كانت المرأة مجبرة على الاختباء في كهف حصين لفترات قد تطول وذلك بسبب الحمل والإرضاع والعناية بالطفل, وهي أمور لم تكن في حسبان الرجل, والذي لم يكن على وعي بعلاقته بذلك الطفل. كانت بداية الفن نوعاً من الشخبطة غير المقصودة على التراب الناعم, ضرباً من الشرود من هموم اللحظة إلى اللعب, كان الطفل معجباً بآثار قدميه على تراب الكهف الناعم, ولأنه طفل, أخذ يكرر طبع قدميه ويضحك من اكتشافاته, ولاحظت الأم الجائعة المهمومة تلك العلاقة بين آثار الأقدام الصغيرة والطفل نفسه, بين الأصل والظل, فأخذت هي الأخرى تلعب, ونسيت بؤسها في الفن, ومن يومها احترفت الفن بقصد الحصول على أشكال جميلة, محاولة لرسم ثور أو جدي أو حتى أرنب أو فأر.

معركة خاسرة

          ولكن العصر الأنثوي الخالص في الفن والذي كان يصنع فيه الفن للفن فقط, لم يستمر أكثر من نصف مليون سنة, اضطر خلالها الرجل أن يحترم الفن مرغماً, كان يدخل الكهف فيدوس الأعمال الفنية بجلبته ويجلس عليها, وتثور معركة بينه وبين المرأة, ويخرج مذموماً مدحوراً, وجرّبت المرأة طبع راحتها المغموسة بالطين على صخورالكهف لتحصل على ديمومة أطول لأعمالها, وفهم الرجل أنه لن يصل إلى قلب المرأة إلا باحترام إنتاجها الفني, وربما زاد بعض العشاق بأن أبدى إعجابه بذلك الإنتاج, ومع المعايشة, فهم هو أيضاً تلك العلاقة بين الأصل والظل, بين الثور المجمد في الرسم, والثور السارح في الغابة, وكأن الأمر تجميد للزمن أو سجن للثور في الخطوط, وما أسهل أن تمسك بمفتاح السجن, ومن يومها احترف الرجل الفن وأخذ يمارسه بهدف مسبق, دون أن يقصد الفن, وإنما الصيد, أي أن الفن الذي بدأ مع المرأة للفن والجمال تحوّل مع الرجل إلى الطعام والحياة.

          هذا مجرد افتراض, فالمرأة لم تترك لنا ولو أثراً واحداً من أعمالها الرائدة, أتلف بعضها الأطفال والرجال, وأتلفت المرأة ما تبقى منها خوف أن تتمرّد أرواحها على خطوط سجونها, وقد تنتقم ممن سجنها في قمقم الخطوط والمساحات.

          أما أقدم الرسومات من عصر الصيد والذي يسمّونه أيضاً العصر الحجري القـديم, فقد نفذت بأسلوب عال من السيطـرة علـى وسائل الرسم, ولو أردنا تفهّم هذه الرسومات, فإنه يكـون لزاماً عليـنا فهـم الظروف التي نفذت فيها.

          ومن طريف الأمور, أننا لن نجد سوى هذه الرسومات شاهداً على تلك الظروف, ولن نجد مناصاً من دخولها ابتداء من شكلها, ونظراً لقلة هذه الشواهد وتباعد الشقة بينهـا زماناً ومكاناً, لابد من وضع عدة اقتراحات نرتق بها أجزاء القصة.

          يختلف العلماء حول عمر الإنسان: أهو مليون, مليونان من السنين؟ هذا غير مهم, المهم أن الإنسان حتى بداية العصر الحجري الأقدم, لم يكن قد فهم شيئاً, وكانت الدوافع عنده ترتبط بردود فعل مباشرة مساوية لها كما هي عند أي حيوان آخر, الجوع يعني البحث عن الطعام, والخوف من وحش كاسر أو عاصفة هوجاء يعني الاختباء ريثما تروق الأحوال, كان يساوي بين دوافعه والمؤثرات عليه بالفرق, ولكنه, فيما بعد عندما بدأ يتحسس إنسانيته أدرك شيئاً, فمن تجاربه المتكررة مع الحيوان طيلة مليون سنة, أدرك أن صراعه وجهاً لوجه مع ذلك الحيوان أمر غير مضمون العواقب, وسبب تأخر الإدراك أن التجربة السلبية تعني أن يموت الإنسان, وإن عاش, فإنه سيكون وحشاً لا يستطيع إعادة التجربة ليستفيد من تجربته السلبية السابقة, زيادة على استحالة توصيل التجربة للآخرين لعدم وجود لغة, وهكذا, تأخر الإدراك, وبدا عندما استعمل الإنسان الآلة لأول مرة, فصنع سكاكين من الصوان والعظم, وبكلمات أخرى, فإن الإنسان أصبح جديراً باسمه عندما تجاوز طبيعته وتمرّد على إمكاناته الجسمية, فقوّى أظفاره باستعمال صوان صنعه هو من الطبيعة كما أطال ذراعه عندما استعمل عصياً من الطبيعة لقطف الثمار التي لا تبلغها ذراعه مجردة, وظل الارتباط بين التجربة والإدراك بسيطاً عينياً بحيث تستقل كل تجربة بإدراكها دون أن تؤلف المدركات مفهوماً, كانت التجارب تتراكم كمّاً, وكذلك المدركات, إلى أن جاء فنان ليؤطر المدركات في مفهوم, في صورة. فلكي تتغلب على عقبة, عليك أن تواجهها ليس فقط بتجاربك معها, بل بكل تجاربك في الحياة, الشخصية منها والجماعية, بدأت التجارب تتسق بدل أن تتراكم, وكانت العقبة وحشاً, وكان الفنان صياداً احترف الرسم ليفهم الوحش ويسيطر على روحه برسمه, وهذه هي الطريقة التي بها تستطيع أن تضع تجاربك المنسّقة في مواجهة العقبة, أي بعد أن تفهم العقبة أيضاً زيادة على استنادك إلى تجاربك, وهذا يبرر وجود مسودات لبعض الصور المنفذة, ووجود رسومات يدل قطعياً على وجود ولو الحد الأدنى لمدارس للرسم والتي كانت أصول الرسم التي توارثوها تلقن فيها, مما يدل على جديّة أخذهم للموضوع, وهذا وحده يجعل مقارنة تلك الرسومات برسوم الأطفال المعاصرين أمراً يفتقر إلى الدقة.

          كان الفن إذن وسيلة لكسب القوت كأي وسيلة أخرى, كانت سكين الصوان آلة للسيطرة على جسم الحيوان, وكان الرسم آلة للسيطرة على روح ذلك الحيوان, وكانت الرسومات تهمل بعد تنفيذها واستنفاد غرضها, أي بعد القيام بطقوس السيطرة على الروح, وذلك بتمثيل عملية الصيد نفسها, وكثير من هذه الرسومات مضروبة بسهام حقيقية أو سكاكين صوان حقيقية, وكثير منها مرسوم وهو مضروب بسهام, بعض هذه الرسومات منفذة في مغاور عميقة مظلمة وكأنها سر من الأسرار القدسية, وبعضها - في أماكن أخرى - منفذة فوق أسطح صخور فوق الأرض, نوع من الإعلان عن الرسم والرسام, مما يدل على اختلافات في المفاهيم بين جماعات الصيادين المتباينة المتباعدة النشاط والتي من الصعب افتراض وجود علاقات أو تبادل للتجارب بينها, بعض تلك الجماعات كانت في أوربا, وبعضها في صحارى إفريقيا والجزيرة العربية, وبعضها في أواسط آسيا, كان ما يجمع تلك التجمّعات الصغيرة على البعد بالفطرة هو صيد الحيوان, وكانت عملية الرسم طقساً يسيطر به الصياد مقدماً على روح الفريسة, وبعد أداء ذلك الطقس, لابد أن الصيادين كانوا ينطلقون وكلهم ثقة بالنجاح بالصيد, فلم يكن هناك وجود منفصل للصورة عن الأصل, ولا للروح عن المادة.

          صحيح أن هذا يبدو من النظرة الأولى غير منطقي, وقد نتكرّم ونعذرهم بحجة أن المنطق لم يكن قد تحدد, وأن مفـهـومـاتـهـم كانت بسيطة لا تستلزم وجود منطق ينسّقها, ولكن لو أعدنا النظر, لوجدنا أننا مازلنا نمارس المعتقدات نفسها في أشكال أخرى من الوهم.

أرواح مجمّدة

          من هنا, كان الفنان في طفولة الفن والأشياء يبدأ, ولابد أن اللعبة قد أعجبت الفنان, ولم يكن صعباً إيصالها للآخرين, والأجدر لو قلنا أنه وجد جماعة كانت قد شمت الفكرة, فالفرق بين الرسم, الروح المجمدة على حائط, المستقبل المكثف في الحاضر الأبدي, وبين الأصل, الوحش المنطلق في الغابة, فرق في الزمن بين التمثيل السحري لصيد الرسم في الكهف, وبين المصارعة الحقيقية, والزمن لا وجود له, لأنه غير قابل للالتقاط كالأشياء, ولذلك كان الزمن يلحق للأشياء ويفهم باقترانه بها, ولابد لنا من الافتراض أنه كانت للإنسان الذي لديه القدرة على الرسم والسيطرة بالتالي على مصدر القوت, لابد أنه كانت له منزلة اجتماعية خاصة, يكفيه فخراً أنه كان يستأثر بقرني الثور, فيضعهما تاجاً على رأسه, ومن الممكن القول, دون أن نقع في شطحات الخيال, أن ذلك كان أول تخصص في التاريخ, وطبيعي أنه كان لدى تلك الجماعات ما يمكن تسميته, ولو تجاوزاً, فائض إنتاج يمكنها من تحمّل ترف وجود خبراء, وكان على الخبير في المقابل أن يستمر في تحسين أساليبه, فكان يجهد نفسه في التقاط الحيوان والزمن معاً في حركة, وكان في الوقت الذي يتم له فيه ذلك, يكون قد عبّر عن أحاسيس الجماعة وحدد مفهومها للأشياء في الوقت نفسه, فالرسم ليس فقط رأي الجماعة في الحيوان, وليس فقط معلوماتها عنه, وليس فقط صراع الجماعة من أجل البقاء, إنها كل ذلك مجتمعاً, كان الرسم موقفاً تجاه العالم, ومن الممكن القول إن الإنسان بدأ يفكر خطوطاً وأشكالاً, وكان الفن مخطط الفكر الأول, ومن الصعب الافتراض أن لغة ما كان من الممكن أن تقوم بين فئات الصيادين المشتتة, والتي لا يربطها سوى الخوف وسوء الظن, والأقرب إلى الاقناع, افتراض أن كل فئة صغيرة كانت تتفاهم بكثير من الإيماءات, وقليل من الأصوات للدلالة على مواقف مجردة مثل: خوف, خطر, فرح.

          ولكن مفاهيم الإنسان التي أنبتها واحتضنها الشكل أصلاً فاضت من الشكل, كان الشكل يحتضنها عندما كانت بسيطة لضيق مجالها, وعندما كان الإنسان في جانب, والوحش أملاً ومصدر رعب في الجانب الآخر, فإما هو وإما الحيوان, وليس غريباً على فن هذه ظروفه وهؤلاء فنانوه, أن يكـون مفرطاً في الفردية, واقعياً حسّياً لدرجة محنقة, ورغم الجهـد المبذول فيه, يبدو تلقائياً, كان الفنان أميناً لطرقه التي تعلمها, وفي الوقت نفسه, مخلصاً في التقاط لحظة من الزمن المتآكل, ونحن الآن, رغم اختلاف طرق معيشتنا ومستوى فهمنا, لا نملك لإحساسنا زماماً أمام بقايا أولئك البدائيين, فنضطرب حماساً وتحدّياً كطفل تثيره المارشات العسكرية.

          يعرف الفلاسفة والنقاد المحترفون الفن على انه إدراك, رؤيا, اكتشاف جديد معزول, ويضيف بعضهم أن هذا الإدراك تفريغ لشحنة تفاعل التجربة وهي تتناسق, ربما كان هذا صحيحاً إذا كنا نقصد بالفن ما تحويه صالات المتاحف, أما بالنسبـة لما نجده على جدران كهوف عصر الصيد, فقد كان الفن كل شيء في الوقت نفسه, التجربة والإدراك والفهم وميلاد المنطق, ولهذا وحده, فهذه الرسومات غير قابلة للتجزيء, أو حتى التبسيط, وأسلم طريقة لفهمها هي أن نتنازل ولو مؤقتاً عن مكتسباتنا الموروثة في الفكر والمنطق, والتي لم تكن موجودة آنذاك, وعندها لن نجد غير غايات تلك الرسومات مبرراً لوجودها, وطريقاً للدخول فيها, كانت غاية الفن بقاء الإنسان, وكانت الصورة أمام الإنسان واضحة, فكان ينفذ أعماله بثقة تامة.

شقاء المعرفة

          على أن هذا الوضوح وهذه الثقة لم يستمرا إلى الأبد, فقد تدخلت المرأة مرة أخرى, وفتحت مجالاً جديداً للحياة, يحتمل الألغاز والأحاجي, وبالتالي يزعزع الثقة, ويطمس المعالم الواضحة, ولا أبالغ لو قلنا أننا مازلنا نعاني من ذلك, ففي فراغ المرأة الإجباري, أوقات الحمل والإرضاع, تذوقت التفاحة, ولاحظت إمكان السيطرة على النبات, والتحكم في إنتاجه, بدل انتظار صدفة وجوده, وبالتالي الاعتماد على النبات كمصدر قوت, وبهذا انتقل الإنسان من نعيم الجهل إلى شقاء المعرفة, من مستهلك لما تجود به الطبيعة إلى منتج يحاول التدخل للسيطرة على الطبيعة ذاتها, وطبعاً لم يتم هذا بقرار, فقد سبقته فترة انتقال طالت أم قصرت - كان الإنسان فيها قد تأهل لاكتشاف ذلك, ولابد أن الإنسان الذي أطر إدراكه في شكل ليفهم, فقد تعود الفهم المجرد دون الشكل, وأخذ يربط نظرياً بين المسببات والنتائج, وجاءت المرأة فربطت بين تغيّر الفصول, ونمو النبات ونضجه, وثابت أيضاً حتى بعد أن تأكد الإنسان من هذا الاكتشاف وفائدته العلمية, ثابت أن صراعاً دام بضعة آلاف من السنين بين الزراعة والرعي من جهة, والصيد من جهة أخرى. وكان الاشتغال بالزراعة أو الرعي يعد عملاً منزلياً لا يليق بمقام الرجل, كأعمال المطبخ عند بعض البيئات المعاصرة, وفي سفر التكوين في التوراة, لا ينظر الرب إلى تقدمة قابيل المؤلفة من نتاج الأرض, ويفضل عليها تقدمة أخيه هابيل والتي اختارها من سمان حيواناته, ولكن قابيل يقتل أخاه هابيل حسداً, لقد سيطرت الزراعة رغم الاعتبارات, واستوعبت الحيوانات بتدجينها, وأصبح الصيد مصدر قوت ثانويا جداً.

          وحتى لا نضل, لابد أن نضع - كعلامة للطريق - أن الإنسان كان يشكّل أفكاره بالمفهوم نفسه الذي كان فيه يشكّل أدواته, كانت غاية الأداة سبب وجودها, وكانت الغاية نفسها تحدد شكلها, بالمفهوم نفسه وضع الإنسان معتقداته, أي بحسب ما يفيد وجود تلك المعتقدات, ولم يكن ليؤمن إلا بما هو واضح النفع, يرى الحق والصواب في المفيد, أي بعكس الفلسفات اللاحقة أو بعضها على الأقل, فكما افترض في السابق, في العصر الحجري القديم عندما لم يكن في اللوحة سواه والوحش, كما افترض وجود روح للوحش, لا لشيء إلا ليستطيع السيطرة على تلك الروح توطئة للفوز بالجسد, كذلك افترض في عصر الزراعة. العصر الحجري الحديث, عندما استوعبت لوحة مدركاته الريح والشمس والأمطار, افترض وجود أرواح لتلك العوامل المؤثرة في المحصول, للوقت السابق نفسه, أي ليستطيع التعامل مع تلك الأرواح ووضعها في منطقة نفوذه, ولما كان من المستحيل تجميد أرواحها على حوائط, وضربها بسهام كما فعل مع الوحش, فإنه أخذ يجرّب وسائل أخرى, ولابد أن أحداً كانت لديه قدرة كافية على التجريد, فافترض وجود قوة مهيمنة على عوامل الطبيعة, افترض وجود روح للطبيعة كلها, ورمز لها بالشمس أو الريح, ونظراً لأن هذا ضروري لتسهيل الأمور, فقد آمن به البدائي ليتمكن من الاختباء في هذه الروح, ورشوتها بالقرابين عند اللزوم, وكان لهذا الافتراض وذيوله أثر كبير على صناعة الفن, فنجده يبتعد عن الحسيّة الواقعية بتراثها اللوني والخطي, ويجنح إلى التبسيط والتجريد, كان ككل نشاط إنساني يبدأ من غاياته وليس من دوافعه, لقد أصبحت السماء والقفار والكهوف وما بين الأشياء, والأشياء نفسها مليئة بالأرواح, ومن الأرواح الطيب ومنها الشرير, وليس غريباً أن يهمل الإنسان الأرواح الطيبة, فهي بطبيعتها غير مؤذية, لذلك صبّ الإنسان الأول اهتمامه على الأرواح الشريرة, وخصّها بالعبادة, أو بمعنى أدق بالرشوة, وكان عليه أن يعيش في ذلك الجو المرعب ممزق العواطف, وكان الفن أملاً في الخلاص, لغة متوسلة, يمس الأرواح الشريرة مسّاً خفيفاً مسترضياً, وغني عن الذكر, أن الفنان والفن افتقدا الثقة السابقة, ومن عجائب الأمور أنه كلما زاد إدراك الإنسان وفهمه, قلت ثقته في عمله, وبكلمات حديثة ومفهوم حديث, أي بغض النظر عن معتقدات الفنان, لو ناقشنا أعمال تلك الفترة ضمن أطرها, نجدها تميل إلى التركيب والإنشاء, وتتضمن الخصائص الأسلوبية التاريخية, كانت نزعة الفن عقلية, مما يقرّبها من فن الأطفال المعاصرين, فالأطفال أيضاً لا يعتمدون في أعمالهم على دراسة نظرية لموضوعاتهم, بل يعتمدون على معلوماتهم عن الموضوع, فيرسمونه من أخص خصائصه مولين اهتمامهم لما يعتقدونه مهما في الموضوع, ويمزجون بين حقيقتين: الحقيقة الموضوعية للموضوع, والتي هي ماهية الموضوع, والحقيقة البصرية, التي يظهر فيها الموضوع, من زاوية ما في لحظة ما, مع ملاحظة إسقاط عنصر الزمن من النتيجة.

          وبالنسبة لفن البدائيين في العصر الحجري الحديث, نجده يتأثر أيضاً بالحياة الاجتماعية, فبعد أن كان الإنسان يعيش في جماعات الصيادين الصغيرة, أجبرته الزراعة والعمل الجماعي, وانتظار المحصول, أجبرته على العيش على مقربة تفرض الاحترام وتحسين السلوك, واستحداث اللغة, وكان لهذا تأثير على الفن, فإن الإنسان الذي كان همّه مجرد الاستمرار في البقاء, هذا الإنسان بعد أن شبع, ووجد وقتاً يفكر فيه بالغد, أعجبته الدنيا, وبدأ يبحث عن طريقة يطيل بها بقاءه, ولما لم يستطع ذلك افترض وجود حياة أخرى تصوّرها كالحياة الدنيا بعد أن نستثني منها المنغصات, وكان لإيمانه المطلق بهذا الافتراض, ان كان يموت طوعاً بتناول السم ليدفن بجانب كاهن وعده بالخلود في الحياة الأخرى, إلى أن جاء الفن وحرر الإنسان من هلعه من الموت السرمدي, وهذا المفهوم هو محور فنون الحضارات القديمة في العراق ومصر.

 

نصر عبدالعزيز عليان